رغم أنها جاءت ضمن سلسلة من الزيارات الخارجية شملت عدداً كبيراً من البلدان داخل وخارج المنطقة، إلا أن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الخرطوم نالت الحظ الأوفر من التغطيات والتعليقات، التي توالت على مدى أيام والتي وصل بعضها للتفاؤل الحالم والمبالغ فيه، في حين غلب على كثير منها التفسيرات التآمرية، لحد اعتبار هذه الزيارة وذلك الاحتفاء بالزعيم التركي جزءاً من مؤامرة كبيرة ضد هذا الطرف أو ذاك.
هذا المقال ليس مخصصاً للتعليق المستفيض على تلك الزيارة بالذات، بقدر ما أنه يهدف لوضعها في سياقها الجيوسياسي، بما يعين على فهم دلالتها العامة. ما أعنيه بالسياق الجيوسياسي هنا هو ذلك المتعلق بالدرجة الأولى بالعلاقة الثنائية بين البلدين، وما تشكله هذه الزيارة من أهمية لكل منهما، كل بحسب نظرته واحتياجاته. يعني السياق الجيوسياسي أيضاً في بعض معانيه السياق الإقليمي الذي لا يمكن قراءة أي تحرك سياسي بمعزل عنه، والذي يبدو في هذه المرحلة كرمال متحركة لا تثبت على قرار. هذا السياق إذا كان مختلطاً ومرتبكاً وذا سياسات متغيرة وغير مستقرة فإن ذلك يؤثر بلا شك على دوله، وعلى جميع العناصر الفاعلة فيه، التي تضطر بين الحين والآخر لمراجعة خريطة تحالفاتها وأولوياتها.
ثم يأتي بدرجة ثانية، أو لعلها الأولى بحسب الأهمية، ما يمكن وصفه بالسياق الدولي، الذي يقسَّم بحسب واقع العلاقات الدولية إلى «دول مركز» تتحكم في القرارات الكبرى، وفي صياغة حاضر ومستقبل العالم، و»دول أطراف» ينحصر دورها في تلقي قرارات الكبار وتنفيذها. بعض دول الأطراف هذه تبدو مقتنعة بالدور الذي وضعها السياق الدولي فيه، وتبدو سعيدة بأن تكون منفذة لسياسات الدول المسيطرة، أو بأن تلعب دور الوسيط أو المقاتل نيابة عن دول المركز، التي لا تحب في كثير من الأحيان تنفيذ المهام الوضيعة بنفسها.
لكن دولاً أخرى ظلت ترفض هذا الدور على مر السنوات، على رأس هذه الدول تركيا، بقيادة حزبها الحاكم «العدالة والتنمية» الذي يشكّل الإحساس بالفخر والثقة بالنفس أحد أهم ركائزه. هذا الرفض الذي تجلى في الانتقاد الصريح للكيان الصهيوني، الذي إضافة إلى كونه غاصباً ومحتلاً، يعد طرفاً من أطراف الإمبريالية الجديدة، سوف يكلّف تركيا الكثير، وسيجعلها في مرمى النيران المباشرة من قبل بعض الدول والقيادات السياسية، وغير المباشرة عبر توظيف بعض الأطراف التي تبرع في هذا المجال، والتي سوف تتبرع بخوض حرب فعلية أو دعائية ضدها.
المنطق التركي الذي يعتبر الكيان جزءاً من الازدواجية التي يتحلى بها الغربيون، والتي تجعلهم ينظرون إلى أنفسهم وحلفائهم بمنظار مختلف، سوف يحاول أيضاً مناقشة موضوع الإرهاب وسوف ينقد النظرية التي أعلنها جورج بوش والمعروفة «بإما معنا أو ضدنا»، والتي كانت تعتبر أن على الجميع أن ينفّذ التوصيات الأمريكية، وأن يشارك بفعالية في الحروب التي ستخوضها، بل يدعم جميع تعريفاتها وإجراءاتها المتعلقة بالحرب على الإرهاب، بما فيها تلك التي تتناقض بشكل صريح مع الحريات العامة وحقوق الإنسان، وذلك إذا كان جاداً في محاربة الإرهاب، وإلا فإن أي تردد تجاه تنفيذ أي توصية أمريكية، بغض النظر عن محتواها، يعتبر تخاذلاً وتهاوناً وتواطؤاً مع الإرهابيين.
تجرأت القيادة التركية على انتقاد هذا المنطق علانية، كما رفض الرئيس أردوغان مصطلح «الإرهاب الإسلامي» الذي راج وأصبح متداولاً، باعتباره يمثّل إساءة لعموم المسلمين. في الوقت ذاته كانت تركيا جادة في الحرب التي تخوضها ضد التنظيمات المتطرفة من جهة، ومع الإرهابيين الانفصالين من جهة أخرى، وكانت تعتبر أن الإرهاب هو الإرهاب مهما تغير مصدره، أو تنوعت أجندته، وأن الاهتمام فقط بإرهاب تنظيم «الدولة» أو «القاعدة» وغض الطرف عما سواهما من تنظيمات وميليشيات، بل التعاون مع بعضها أحياناً ومد يد العون لها، سوف يكون له تبعات أخلاقية ولن يخدم محاربة الإرهاب الحقيقية على المدى البعيد.
في واقع الأمر فإن الأمن هو أحد أهم العوامل التي تساعد على فهم التحركات التركية الخارجية التي تسعى للبحث عن حلفاء يمكن الوثوق بهم، بعد الاهتزاز الذي شهدته العلاقة مع أوروبا وحلف الناتو، لأسباب مختلفة خلال العامين الماضيين، خاصة موقف أولئك، كشركاء مفترضين وحلفاء لتركيا، من محاولة الانقلاب الفاشلة التي كادت أن تعصف بالاستقرار التركي.
العامل الثاني هو الاقتصاد، فقد كان الدرس الذي خرجت به تركيا من التجارب الصعبة التي خاضتها خلال الأعوام السابقة هو ضرورة التنويع على مختلف الأصعدة. تنويع مصادر الاقتصاد وتنويع الشركاء وتنويع الأسواق، بحيث لا يتأثر استقرار السوق بتوتر العلاقات مع أي طرف كان، بما فيها الأطراف الأقرب والأكثر استثماراً وفاعلية داخل تركيا. العام الأخير كان بشكل عام صعباً على الاقتصاد التركي، فقد تم منح الأولوية بعد سلسلة من الأعمال الإرهابية للهاجس الأمني، وبحدود شاسعة كالتي تملكها الدولة التركية، فقد كان ذلك يعني صرف الكثير من الأموال، الأمر الذي تزامن مع «مكايدات» اقتصادية من قبل دول ظلت تروّج، لأن تركيا لم تعد آمنة ولا مستقرة بشكل يساعد على تدفق الاستثمارات، خاصة بعد المحاولة الانقلابية، التي تم فيها تصوير البلاد وكأنها جزء من عالم مظلم ما يزال محكوماً بالانقلابات العسكرية وعدم اليقين السياسي.
وفيما يتعلق بالداخل التركي، كانت الدولة تدخل مرحلة جديدة لإعادة البناء والهيكلة، بعد الاستفتاء الذي قضى بتحول النظام إلى رئاسي، الأمر الذي استغلته أطراف كثيرة وصورته بشكل سلبي، كمحاولة لتكريس السلطات في يد الرئيس.
بحسب التقارير الاقتصادية فقد ارتفع التضخم ونسبة البطالة، كما انخفض سعر الليرة التركية بشكل غير مسبوق مقابل الدولار والعملات الأخرى، إلا أن كل ذلك، على صحته، ليس سوى نصف الحقيقة، أما نصفها الآخر فهو أن تركيا ما تزال متقدمة بحسب مقاييس نسبة النمو العالمية، وأن هذه الآثار مجتمعة تظل ضئيلة جداً مقابل ما تعرضت له البلاد من تحديات متزامنة ومتجاورة، وهي تحديات كانت كفيلة بالقضاء عليها، لولا الحكمة العالية التي ظهرت في محاولة القيادة التركية إرسال الكثير من الرسائل التي تعبر عن الاستعداد للتعاون مع كل الأطراف بلا استثناء، وخلق شراكات يخرج منها الجميع وهم رابحون.
من جهة أخرى، لفتت هذه الزيارات والتحركات التركية لأهمية بعض البلدان كالسودان، فمن يتابع صدى هذه الزيارة والضجة التي أثيرت حولها، يدرك حجم التنافس الإقليمي والرغبة في الشراكة مع هذا البلد النامي والصاعد بقوة، رغم محاولات التغييب. بهذا المعنى كان نجاح الزيارة في حقيقته نجاحاً للدبلوماسية السودانية، التي ظلت تعمل في ظروف صعبة وسط حصار اقتصادي وسياسي ووسط محيط مليء في كثير من نواحيه بالعداء ظاهراً كان أو مستتراً.
أما الأصوات الحاسدة التي ملأت الوسائط الإعلامية بما يتعفف المرء عن نقله، فلا تمثّل سوى انعكاس لخشية بعض الجهات من أن يسترد بلد بحجم وإمكانيات السودان عافيته، وأن يستعيد دوره الفاعل إقليمياً ودولياً بشكل يجعله يتحوّل لإضافة مهمة وحقيقية على الصعيدين العربي والإفريقي.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
إنخفاض قيمة الليرة التركية هو لصالح الإقتصاد التركي من حيث التنافس العالمي على التصدير
والدليل هو أن الناتج العام والنمو الإقتصادي في زيادة لم تتوقف
ولا حول ولا قوة الا بالله