إيران بين وعود السماء ومشكلات الأرض

أخفقت الاحتجاجات في ايران حتى اللحظة، من الوصول إلى الكتلة الحرجة التي تنقلها من وصف (الهبة) إلى فعل (الثورة)، ومن المبكر جداً الحديث عن تحرك شعبي من شأنه أن يمثل تهديداً للنظام القائم في إيران، إلا أن خروج الإيرانيين للشوارع هذه المرة سيلقي آثاره على السياسة الإيرانية في المستقبل، بأكثر مما فعلت سابقاً احتجاجات 2009.
فالإيرانيون هذه المرة يصرخون ضد النظام وفي مواجهته، لا في داخله أو على حدوده، والانتقال من التحرك المطلبي الذي يحتج على الفقر والبطالة، إلى المطالبة بإنهاء نظام ولاية الفقيه، حتى لو كان محدود النطاق أو مؤقتاً، يشكل نغمة لم يعتد الإيرانيون على سماعها خلال عقود من الزمن تبعت تأسيس الجمهورية الإسلامية.
أطياف المجزرة تخيم على سماء إيران، فالحرس الثوري لن يستمر طويلاً في المراقبة، ولو امتلكت الاحتجاجات زخماً يمكنها من الوصول إلى حاجز الأسبوعين، فإنه من المتوقع أن يضرب النظام بعنف في مختلف البؤر التي تشهد الاضطرابات، فالنظام في إيران لا يمتلك المرونة التي تجعله يقدم أية تضحيات أو تنازلات، كما كان الأمر في مصر، التي تحايلت فيها (الدولة العميقة) لتخلع عنها عبء طموح حسني مبارك الأسري، ولتعيد إنتاج ذاتها من خلال تجربة المجلس العسكري وسيطرته العلنية والصامتة، ومن ثم العلنية مرة أخرى على المشهد بأكمله.
الإيرانيون شعب متعدد العرقيات والثقافات، والنظام يدرك أنه يقوم على نظرية حكم تنتمي للعصور الوسطى، وأن شعباً يمتلك خبرة تاريخية وحضارية متجذرة وتنوعاً كبيراً وحيوياً لا يمكنه التعايش إلى الأبد مع نظام ديني قائم على الغيبيات والنبوءات ومرتهن لانتظار يمتد بدون أفق لعدالة مؤجلة تتمثل في عودة الإمام الغائب، ولذلك كان العدو جزءاً من ثقافة النظام الإيراني ونظريته السياسية، بحيث تصبح حالة التعبئة المستمرة حاجزاً بدون الوقوف على الأسئلة والتناقضات الكبيرة التي تحيط بمسارات حياة الإيرانيين وتحكمها.
الحرس الثوري كان يمثل في مرحلة أولى حاضنة لملايين المهمشين، الذين خرجوا من حكم الشاه ذي النكهة الإقطاعية، وخضع أفراده لتربية عقائدية صارمة، ووجدوا في الدعوة التي تقوم على تصدير الثورة ومبادئها تعبيراً براقاً يتضمن أيضاً فرصاً للتوسع وزيادة الثروة، خاصة أن الثورة تطلعت إلى الخليج المتخم بالنفط، بدلاً من أن تبحث في فضائها الثقافي القديم في آسيا الوسطى، الذي يعني عملياً خوض صراعات مع الاتحاد السوفييتي وتركيا وباكستان، وحتى مع الأمريكيين. كل هذه المعادلات لم يعد بإمكانها الصمود وما عادت تستجيب للتأجيل والوعد الديني الذي يحمله النظام ويسوقه، فتذبذب أسعار النفط والعقوبات، ولاحقاً تراجع النفط استراتيجياً مع صعود مصادر الطاقة البديلة، وارتفاع تكلفة صناعة تصدير الثورة، كلها عوامل أدت إلى تحويل المتاعب الاقتصادية من مجرد أزمات طارئة إلى عيوب جوهرية، تجعل المواطن الإيراني مضطراً لمتابعة استنزاف ثرواته، بينما تتصاعد من حوله مظاهر الثراء في الخليج من ناحية، والتجربة البراغماتية التركية من ناحية أخرى، ولذلك فالاضطرابات الاجتماعية باتت دائماً أمراً محتملاً في إيران، ولعل التوقعات مرتفعة السقف التي صاحبت الاتفاق النووي في 2015 أجلت هذه الاضطرابات بعضاً من الوقت.
يخرج الإيرانيون بكثير من المطالب والطموحات ليواجهوا نظاماً متصلباً، يمتلك القليل من الخيارات، غريقاً لا يخشى من البلل، كما أن النظام يمتلك فوق ذلك ترسانة من الأعداء، الذين يمكن أن تلصق بهم اتهامات إثارة الاضطرابات، وفي خدمته أيضاً تناقضات عرقية ومذهبية داخلية يمكن أن تحول الهبة من مشروع ثورة إلى حرب أهلية، ولذلك، فالاستثمار والتعويل على الوصول إلى ميدان تحرير إيراني، أمر مستبعد، كما أنه لا يمكن أن يصب في مصلحة جيران إيران بالمحصلة، لأنه يمكن أن يلقي بالجميع في استثمار تراكم الصراع المذهبي في فخاخ متبادلة في المحيط الحيوي لإيران. ليس من الحكمة في شيء قراءة المشهد الإيراني عربياً من منظور مناصري أو مناهضي النظام السوري، فعلى الرغم من مطالبة المحتجين لنظامهم بالكف عن التدخل في سوريا واليمن، إلا أن ذلك أتى من منظورهم الاقتصادي، ومن قناعة أنه ليس ثمة عائد مقبول لذلك التدخل في المدى المنظور، ولا يعبر عن قناعة كاملة لديهم، فبلد مثل ايران بوراثتها لإمبراطوية تاريخية مهيبة، هي أقرب لأن تخوض في منهج التوسع والسيطرة، وهو الأمر الذي كان سائداً من أيام الشاه ومن كافة الأنظمة السابقة، وكانت يحول دونه الأوضاع الاقتصادية والتراجع التقني الذي عايشته ايران، ولذلك فالاعتقاد أن الهامش العربي جزء من تحريك الاحتجاجات يعد ضرباً من المزايدة الذي لا ضرورة منه ولا طائل من ورائه، سوى اختلاق محاولات للتورط في حدث إيراني معقد لا يمكن تفهمه في ظل اللحظة الحاضرة فقط، فالحديث عن إيران وجوارها العربي، مع وجود الافتراق المذهبي ودونه، يجب أن يشتمل على كل أطياف الماضي والمستقبل، وهي الحساسية التي تفتقدها الدول العربية في إدارة صراعاتها الداخلية والخارجية.
أرهقت حالة الصراع ايران وجيرانها العرب تحديداً، وكانت النتيجة إهدار مبالغ طائلة من الأموال كان من شأنها وأد التوتر الاجتماعي السائد والمحتمل في المنطقة، فالذي يدفعه العرب من أجل حمايتهم من إيران، وما يدفعه الايرانيون من أجل مضايقة العرب، كلها موارد مهدرة كان يمكن لو استغلت بطريقة جيدة أن تبني سوقاً هائلة ومنتجة تمتد من شمال إفريقيا إلى آسيا الوسطى. المشكلة أن الأنظمة القائمة على شرعيات عقائدية أو مجموعة من الشعارات لا يمكنها إلى حد بعيد أن تقدم التنازلات بالمرونة نفسها التي يمكن أن تقدمها الأنظمة السياسية الأخرى، التي تمتلك عقداً اجتماعياً قائماً على المعادلة البسيطة بين المواطن والدولة، لتمثيل مصالحه وتلبية حاجاته، مقابل واجبات مادية ومعنوية، فالأنظمة المستندة إلى شرعية غيبية تنتظر حلولاً ووعوداً من السماء هي جميعها عاجزة عن مواجهة لحظة الخبز والحرية، التي لا بد أن تدفع بنفسها لتحاكم النظام، وهذه أنظمة لا يمكن أن تعيش بدون أعداء ولو فقدتهم فإنها ستتوجه لصناعتهم، ولذلك فإنها تعتبر بقاءها وحده انتصاراً في حد ذاته، ولذلك استطاعت الأنظمة العربية أن تستمر حتى بعد هزيمة واسعة ومريعة كما حدث في 1967.
آخر ما يحتاجه النظام في ايران والمحتجون عليه هو النصائح التي تسدى لهم من جيرانهم الذين لا يمتلكون حقوقاً يبررها الاختلاف الجوهري في معادلة السلطة أو التفوق في الممارسات السياسية أو الحضارية، فالقصة في إيران أكبر كثيراً من أمنيات أو نظريات أو تهويمات يطلقها الإعلام، أو ألتراس سياسي وثقافي عربي اعتاد أن يفترق بعصابية حول الأشياء فاستدعى إلى خلافاته مشكلات العالم من بورما إلى كتالونيا.
كاتب أردني

إيران بين وعود السماء ومشكلات الأرض

سامح المحاريق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية