تونس ـ «القدس العربي»: صبراتة مدينة ليبية ساحلية جميلة تطل على البحر الأبيض المتوسط، وتقع في المنطقة الغربية، وهي قاب قوسين أو أدنى من الأراضي التونسية، وشبيهة من حيث الطقس والتضاريس والمناخ وهندسة المباني والآثار والمعالم التاريخية بالمدن الساحلية التونسية.
وتحدها شرقا منطقة صرمان، وجنوبا الجبل الغربي، والعجيلات من جهة الجنوب الغربي والأراضي الليبية المتاخمة للحدود التونسية غربا والتي تعرف بأراضي زوارة. أما شمالا فإن البحر المتوسط يجعل صبراتة مدينة منفتحة على محيطها وعلى الشعوب القريبة منها في القارتين، السمراء والعجوز.
عراقة
تتحدث أغلب المصادر عن أن الفينيقيين القادمين من المشرق ومن حواضر صور وصيدا وجبيل وطرابلس الشرق وغيرها، والذين هاجروا بأعداد كبيرة إلى السواحل الجنوبية الغربية للمتوسط قرونا قبل ميلاد المسيح، هم من أسسوا صبراتة. وخضعت المدينة لاحقا، مثل سائر المدن الفينيقية في غرب المتوسط، إلى قرطاج التي استقلت بذاتها عن فينيقيي المشرق واختلطت مع السكان الأمازيغ لشمال افريقيا وصارت جمهورية من حيث نظامها، وإمبراطورية من حيث شساعة الأراضي التي خضعت لنفوذها في القارتين الافريقية والأوروبية.
ومع أفول نجم القرطاجيين بعد قرون من الهيمنة على المتوسط واقتحام مجاهل المحيط الأطلسي شمالا وجنوبا، أصبحت صبراتة جزءا من الإمبراطورية الرومانية. وتم ضمها إلى مقاطعة أفريكا الرومانية التي تضم الأراضي التونسية أساسا وجزءا من الغرب الليبي وجزءا من شرق الجزائر والذي أصبحت عاصمته مدينة قرطاج التي أعاد الرومان بناءها بعد تدميرها وحرقها من قبلهم. ومدن «صبراتة» و «أويا» و «لبدة» هي المدن الثلاث التي جعلت الرومان يطلقون على أويا تسمية تريبوليس «المدن الثلاث» التي أصبحت طرابلس الغرب.
وخضعت صبراتة بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية للوندال ثم البيزنطيين «الرومان الشرقيون» إلى أن جاء الفتح الإسلامي وافتك المسلمون صبراتة من القسطنطينية وقضوا على هيمنة البيزنطيين. وخضعت المدينة مثل سائر مدن بلاد المغرب لولاة القيروان الذين يعينهم الأمويون من دمشق. ثم خضعت صبراتة لحكم بني الأغلب الذين استقلوا في افريقيا (جزء من بلاد المغرب الإسلامي) في زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد، إلى أن جاء الفاطميون وأسسوا مدينة المهدية «تونس» ثم عادوا إلى القيروان «تونس» ومنها إلى القاهرة «مصر» حيث نقلوا إليها ملكهم محرضين بني هلال وبني سليم على الهجرة نجو بلاد المغرب.
استوطن عدد هام من قبائل بني سليم العربية في مدينة صبراتة وشهدوا حكم الموحدين وورثتهم الحفصيين وساهموا في تعريب المدينة. ومع قدوم العثمانيين أصبحت طرابلس إيالة مستقلة بذاتها بعد أن كانت جزءا من الدولة الحفصية في تونس، وأصبحت جزءا من إيالة طرابلس العثمانية التي أنهى وجودها الاستعمار الايطالي.
معالم
ترجع أغلب آثار المدينة إلى القرنيين الأول والثاني بعد الميلاد حين قام الرومان بإعادة بناء الآثار البونية «القرطاجية» وخصوصا المعابد والساحات العامة ومقرات مؤسسات الدولة والأماكن العامة من حمامات ومسارح وغيرها. كما أعيد بناء الأحياء السكنية البونية التي تشبه في هندستها أحياء قرطاج التي خضع لها قبل انهيارها ما يعرف اليوم الغرب الليبي.
ولعل أشهر الصور الماثلة في الأذهان عن صبراتة، صورة المسرح الأثري الذي حافظ على هندسته المعمارية الجميلة حتى أصبح رمز المدينة بامتياز وأشهر ما فيها. كما تضم الفوروم الأثري والبازيلكا وكنيسة جوستينيان وتتميز أيضا برسومها الفسيفسائية التي تعود إلى العهد الروماني. وتعتبر آثار صبراتة تراثا عالميا مصنفا من قبل اليونسكو حاز على شهرة واسعة لكنه غير مستغل الاستغلال الأمثل للتعريف بالمدينة وعمقها الحضاري. فلا تقام فيها مثلا مهرجانات كبرى أو تظاهرات تساهم في التعريف بها كما يحصل في جوار ليبيا من ناحية الشرق والغرب على حد سواء.
وخشي كثر على هذا التراث الإنساني الذي تزخر به صبراتة من الجماعات التكفيرية التي سيطرت على المدينة في وقت ما وكادت أن تحولها إلى إمارة تكفيرية. فقد سبق لحملة الفكر ذاته أن عبثوا بمدينة تدمر الأثرية السورية على مرأى ومسمع من العالم ولا شيء كان يوحي بأنهم سيتصرفون بخلاف ذلك ويحترمون آثار صبراتة ومعالمها الرائعة.
صبرة العربية
وعن صبراتة، وبخلاف ما ذهبت إليه مصادر تاريخية عديدة، يقول ابوعجيلة علي جابر، مستشار رئيس الهيئة العامة للسياحة والعلاقات والتعاون الدولي في ليبيا وعضو اللجنة الدائمة لاتحاد بلديات التراث العالمي في حديثه لـ«القدس العربي»: «مدينة صبراته ليبية سماها اليونانيون (لبرزوتون بولس كاي ليمن) منذ ألف سنة قبل الميلاد، وتذكر المصادر التاريخية ان اليونانيين هم من أسسوا هذه المدينة، ثم وقعت تحت سيطرة الرومان، وعرفت باسم (صبراتن) وتعني سوق الحبوب، كما كانت تعرف باسم (صبره) عند العرب وبهذا الاسم ذكرها ابن خلدون في تاريخه والتيجاني في رحلاته. واسم صبراتة اليوم لا يشمل المدينة الأثرية فحسب بل كل المدينة».
ويضيف: «تشتهر المدينة بالإرث الحضاري والأثري المكتشف والذي ما زال قيد الدراسة والتنقيب، وهي مدينة عربية إسلامية يتكلم أهلها اللغة العربية ويدينون بالإسلام، فتحها عمرو بن العاص. وتقع المدينة غربي طرابلس العاصمة بحوالي 67 كيلو مترا، وتطل على ساحل البحر المتوسط ويسكنها عدد من القبائل الصغيرة كلهم ينتمون إلى القبيلة الأم «العلالقة» ويصل عدد سكانها حسب آخر إحصائيات عام 2010 إلى 102038 مواطنا، كما اشتهر أهالي صبراتة بالتجارة والزراعة وصيد الأسماك».
ويؤكد أبو عجيلة على أن صبراتة دخلت لائحة التراث العالمي في 17 كانون الأول/ديسمبر 1982 وهي تعتبر من أهم المواقع الآثارية والسياحية في ليبيا، وتتميز بالطقس المعتدل وشاطئ البحر والحركة التجارية المزدهرة والاستقرار ورقي ثقافة أهلها. وأدرج الموقع الأثري صبراتة على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر في تموز/يوليو 2016 شأنه شأن مواقع التراث العالمي الليبية الخمسة «لبدة ـ شحات ـ غدامس ـ النقش الصخري أكاكاوس» وذلك نظرا لعدم الاستقرار السياسي والأمني الذي تفاقم مؤخرا عام 2014. وتبذل الجهود حاليا لإعادة الموقع من لائحة الخطر بعد استكمال كل الإجراءات المعتمدة في منظمة اليونسكو.
ولم تشهد المدينة، حسب محدثنا استقرارا أمنيا بعد 17 شباط/ فبراير 2011 نتيجة انتشار الميليشيات المسلحة والجماعات المؤدلجة والجريمة وتهريب المهاجرين غير القانونيين عبر المتوسط من قبل عصابات محلية ودولية. ومع ذلك كله فان السلطات المحلية في المدينة قائمة بدورها المنوط بها، الأمر الذي يجعلها تتميز بجودة الخدمات، ونظافة الشوارع والأزقة، واستمرار مرافقها في العمل من حيث التعليم الجيد والصحة، حيث يقدم مستشفى صبراتة التعليمي، والمعهد القومي لعلاج الأمراض خدماته لكل سكان المنطقة الغربية دون توقف.
ويضيف الباحث والمؤرخ الليبي: «لقد نظمت المدينة عددا من المؤتمرات والاجتماعات وورش العمل وأهمها تجمع دول الساحل والصحراء عام 2009 والمؤتمر الذي جمع كل بلديات ليبيا في العام 2014. واكتسبت صبراتة أهميتها ماضيا وحاضرا وربما مستقبلا من موقعها الجغرافي المتميز، وقبول أهلها للآخرين، ومن الموقع الأثري والمرافق العامة وأهمها مجمع مليتة لتصدير الغاز الذي يقع على أطرفها الغربية في الحدود مع مدينة زوارة».
اقتصاد متنوع
ومثل أغلب المدن الحدودية، توجد في صبراتة حركة تجارية نشيطة تساهم في تطوير التجارية البينية التي تعتبر الأرقام المتعلقة بها جد ضعيفة في بلدان المغرب العربي. ففي ليبيا بضائع مدعمة واستيراد لكل شيء الأمر الذي يجعل أسواق المدن الحدودية الليبية مثل صبراتة قبلة التونسيين لاقتناء ما تحتاجه السوق.
ويعتبر سوق العلالقة الذي تجاوزت شهرته حدود ليبيا أهم أسواق صبراتة على الإطلاق بالنظر إلى حجمه وتعدد أنواع البضائع المعروضة فيه واستمراره يومين كاملين أسبوعيا. ويهتم بما يعرض بهذا السوق الليبيون وغير الليبيين من العرب والافارقة على وجه الخصوص وذلك قبل أن تتفجر الأوضاع في 2011 وتقل أعداد الوافدين الأجانب على ليبيا.
وباعتبارها مدينة تاريخية، فإن صبراتة تزخر بموروث حضاري كبير تجسد في الصناعات التقليدية الموروثة عن الأجداد. ومن بين الصناعات التي برع فيها أهلها، السجاد وصناعة الحلي وحياكة اللباس التقليدي الخاص بالمدينة. وقد برع الليبيون في هذه الصناعات في مرحلة ما قبل اكتشاف البترول وكان إلى جانب الصيد البحري عماد الاقتصاد الليبي.
وبخلاف أغلب المدن الليبية، يتعاطى كثير من أهالي صبراتة النشاط الزراعي باعتبار خصوبة الأراضي المحيطة بها والمناخ المعتدل وتوفر المياه بكميات معتبرة. وترتكز الفلاحة «الصبراتية» على أنواع الزيتون والأشجار المثمرة وغيرها، وتغيب الزراعات الكبرى والسقوية التي تحتاج إما تساقطات موسمية كبرى أو وجود مياه الري بشكل دائم ومتى احتاجها الفلاح.
وصبراتة أيضا غنية بالنفط تضم أساسا حقل بحر السلام الواقع على بعد 110 كيلومترات من الساحل الليبي. ويضم الحقل آبارا متعددة تحت سطح البحر ومنصة عائمة مثبتة في البحر بعمق 190 متراً وتتكون من منشآت للفصل والمعالجة المبدئية للغاز المنتج وما يلزم لصيانة الآبار المحيطة بالإضافة إلى مرافق لإسكان العاملين طاقة استيعابها 120 شخصا، وتضم أيضا مهبطا للمروحيات. وتقدر طاقة إنتاج هذا الحقل 986 مليون قدم متر مكعب من الغاز و 31 ألف برميل من النفط الخام يوميا، ويصدر النفط والغاز بعد معالجتهما إلى ايطاليا.
روعة قاسم