«يا طول عذابك يا ليلى»

حجم الخط
6

«إن مستقبلي مع العرب والإسلام، وحياتي مع العرب والإسلام، وأموالي في بلاد العرب والإسلام، وأهلي وزوجي كلهم عرب ومسلمون، فهل من المعقول أن أضحي بكل هؤلاء، وأنضم إلى دولة زائلة لا تربطني بها أي رابطة، لا أفهم لغتها ولا أدين بدينها، وليست لي فيها أي مصلحة، فهل يستطيع عاقل أو مجنون أن يصدّق ما نسبوه إليّ كذباً».
بهذه الكلمات الحزينة افتتحت النجمة الأسطورية ليلى مراد بياناً كتبته بخط يدها، وأرسلته إلى كافة الصحف العربية في نهاية عام 1952 لتنفي خبراً مجهّلاً نشرته صحيفة سورية، زعم أنها زارت إسرائيل وتبرعت لحكومتها، مشككاً في أنها اعتنقت الإسلام بعد زواجها من النجم أنور وجدي، وهو الخبر الذي سبب لها أزمة عنيفة على المستوى الفني والجماهيري والرسمي، تمكنت من تطويقها نسبياً بفضل مساندة زملائها، وعلى رأسهم أنور وجدي، رغم أنه طلقها قبل أسابيع من ظهور الشائعة، لكنه تضامن معها بقوة في نفيها، قبل أن تؤكد السفارة المصرية في فرنسا أن ليلى كانت في الوقت الذي تحدثت عنه الصحيفة موجودة في باريس، وغادرتها مباشرة إلى مصر، ثم تخفت الضجة بصدور بيان قاطع من الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، موجه إلى غرفة صناعة السينما يبرئ ليلى مما اتهمت به.
في كتابه «الوثائق الخاصة لليلى مراد» يروي المؤرخ الفني المتميز أشرف غريب كيف حرصت ليلى مراد على محو آثار تلك الأزمة طيلة السنوات التالية لوقوعها، حيث شاركت في رحلات قطار الرحمة، وحملات جمع تبرعات لتسليح الجيش المصري التي ساهمت فيها بمبلغ ألف جنيه، وغنّت في ميدان التحرير على ظهر سيارة مكشوفة في احتفالات الثورة، وقدّمت نشيد التحرير وعشرات الأغنيات الوطنية، وقامت ببطولة وإنتاج فيلم عن القضية الفلسطينية هو «الحياة الحب» الذي قدمت فيه أغنية «لحن الشهيد» من تأليف مأمون الشناوي وألحان محمد عبد الوهاب، وذكّرت الجميع بأغنيتها الدينية الشهيرة والرائعة «يا رايحين للنبي الغالي»، فضلاً عن حرصها المتكرر على تأكيد أن جميع أهلها عرب ومسلمون، إشارة إلى إسلام شقيقتها سميحة وشقيقها منير، لإدراكها للأسف أن عدم تفريق الحملات الإعلامية والدينية التي تقوم بالتعبئة الشعبية ضد اليهود، وليس ضد الصهيونية فقط، ستدفع الكثيرين للتشكيك في وطنيتها لو بقي أحد من أهلها على اليهودية.
يشير أشرف غريب إلى رسالة كتبتها ليلى إلى «قائد الثورة المباركة محمد نجيب» بتاريخ 21 مارس/آذار 1953، نشر صورتها الفنان التشكيلي الكويتي جعفر إصلاح في كتابه «روح مصر»، روت فيها ليلى لنجيب أنها التقت خلال زيارة إلى اليونان بمدير استديو من أصل يهودي، استغرب تحفظها منه، رغم أنهما أبناء ديانة واحدة ووطن واحد، فقالت له: ديني هو الإسلام ووطني مصر، فقال لها: إن كنت حريصة على الرجوع إلى مصر من أجل الشهرة والأموال سنعوضك عنها أضعافاً مضاعفة، ونحن على علاقة بأكبر مخرجي ومنتجي هوليوود، فقالت: يمكن أن أعيش في بلدي بدون طعام ولا شراب ولا أتركها أبداً، وحين عادت إلى مصر اتصلت فوراً بمحمد عبد الوهاب وأبلغته بما حدث، فقال إن الموضوع خطير، ولا بد من تحديد موعد مع مجلس قيادة الثورة، وذهب في اليوم التالي معها ومع محمد فوزي لمقابلة عبد اللطيف البغدادي وصلاح سالم، وحين بدأت كلامها بالقول: أقسم بالله أن أقول الحق، ضحكا وقالا لها «إنتِ مكبّرة الموضوع أكثر من اللازم واحنا عارفين كويس من هي ليلى مراد»، لكنها فوجئت بعد شهر باستدعائها في ساعة متأخرة من الليل إلى مجلس قيادة الثورة، لتجلس في غرفة لوحدها لمدة ساعة، ثم دخل عليها بعض الضباط وقالوا لها إنه تم القبض على «عدة أعداء للوطن، يشكلون جماعة تتعاون مع اليهود»، وإن عضوا بالجماعة قالت إنها التقت بليلى التي أعطتها بعض الأموال على مدى خمس لقاءات، وختمت ليلى رسالتها لنجيب بأنها رغم نفيها القاطع لما قيل، تم استدعاؤها إلى مجلس قيادة الثورة عدة مرات، فساءت حالتها النفسية ولم تعد تغادر منزلها، وأعلنت استعدادها للمحاكمة أو الإعدام «محبة في تراب مصر» لو كانت قد أذنبت.
لم يثبت على ليلى أي اتهام، ولم يعرف أحد هل كان ما حدث لها من قبيل التحرش «الوطني» بالفنانين؟ الذي مارسه عدد من الضباط عقب قيام الثورة، لكن المؤكد أن ذلك عصف بحياة ليلى، التي تزوجت من المخرج فطين عبد الوهاب، الذي ساندها في تلك الفترة، وقدّمت آخر أفلامها «الحبيب المجهول» عام 1955، ليحقق نجاحاً كاسحاً يليق بنجمة السينما العربية الأولى، التي لم تحقق نجمة بعدها تلك النجومية التي جعلت الأفلام تُصنع باسمها، لكنها تعرضت لأزمة صحية خلال حملها في ابنها زكي، فتركت العمل لفترة بسيطة حتى تستريح صحياً، وحين حاولت العودة اصطدمت بعراقيل غريبة ومتكررة، دفعتها لأن تعلن اعتزالها وهي في السابعة والثلاثين من عمرها، وهو ما يرجعه أشرف غريب إلى «براءتها السياسية» التي دفعتها للرهان على محمد نجيب، فغنت له بحماس وحفاوة، وسمحت بالتقاط ونشر صور لها وهي تتأمل صورته بحب، لعله يوفر لها الحماية، خاصة أن نجيب ـ كما روى المنتج منيب شافعي ـ طلب من ضباط الثورة رفع أيديهم عن ليلى مراد، فدفعت ثمناً باهظاً لذلك بعد إقصاء نجيب، بعكس أم كلثوم التي راهنت على عبد الناصر ولجأت إليه عن طريق صديقها مصطفى أمين في أزمة منع إذاعة أغانيها بعد الثورة، ويرى أشرف أن مصير ليلى تكرر مع محمد فوزي، الذي أظهر أيضاً ولاءه علناً لنجيب وغنى له، ولذلك قامت الثورة بتأميم شركة مصرفون، في حين جنّبت شركة صوت الفن لصاحبيها عبد الوهاب وعبد الحليم التأميم بدون مبررات منطقية، وللتأكيد على ذلك ينشر غريب نص شكوى ليلى للمذيعة آمال العمدة، عن فشل محاولاتها في الرجوع للسينما طيلة 12 سنة، بسبب مماطلة وتعنت مسؤولي مؤسسة السينما، رغم استجابتها لكل شروطهم ومطالبهم.
يؤكد أشرف غريب خلال بحثه الدؤوب أنه ربما لم يقل أحد لليلى صراحة اعتزلي والزمي بيتك، لكن تضييق الخناق عليها وتعطيل محاولاتها للعودة، تواصل حتى تقدّم بها العمر، فقررت التفرغ التام لولديها أشرف وزكي، اللذين ظلت محاولات التشكيك في وطنية أمهما تطاردهما حتى بعد وفاتها، ليقولا في حوار أجراه معهما أشرف بعد وفاتها عام 95: «لمصلحة من التشكيك في إسلام ليلى مراد؟»، لتنشر مجلة «الكواكب» حوارهما بعنوان يقول: «القوات المسلحة ستقيم لها حفل تأبين فهل تقيم الدولة حفلات تأبين لليهود؟»، ليختم ذلك السطر السخيف وقائع رحلة معاناة تعرضت فيها أهم نجمات السينما المصرية للتشكيك في وطنيتها، وتعطل نجاحها الفني بسبب شائعات وأقاويل وحسابات سياسية وإدارية غبية، لتصبح قصتها المريرة فصلاً مهماً وكاشفاً من فصول إفساد السلطة الغشيمة للفنون، التي كانت أبرز مظاهر قوة مصر الناعمة، والتي لا يدرك الأغبياء أنها قوة لا يصنعها إلا الموهوبون وحدهم، ولا تجدي فيها سياسة «تمام يا افندم».
….
ـ «الوثائق الخاصة لليلى مراد» ـ أشرف غريب ـ دار الشروق.
رابط صالح للاستماع قبل المقال وبعده:
http://bit.ly/2DwIDT6

٭ كاتب مصري

 

«يا طول عذابك يا ليلى»

بلال فضل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    عاشت الممثلة والمطربة المصرية الراحلة ليلى مراد حياة حافلة بالأضواء والشهرة، وكان لأصولها اليهودية تأثيرا كبيرا عليها، سواء إبان حياتها أو بعد وفاتها، لتألقها في مرحلة حرجة من تاريخ مصر تزامنت مع إعلان قيام دولة إسرائيل كوطن قومي لليهود.
    ورغم اعتناقها للإسلام وتغيير اسمها اليهودي، ليليان زكي موردخاي، وزواجها الممثل المصري المسلم الراحل، أنور وجدي، وشدوها بأغنيات دينية، لم يسلم تاريخها من المغالطات والأكاذيب.
    وبعد مرور أكثر من 20 عاما على وفاتها، قرر أشرف غريب، الباحث والناقد الفني، إصدار كتاب بعنوان “الوثائق الخاصة لليلى مراد” للتصدي لما رآه مغالطات في حق ليلى مراد مستعينا بوثائق رسمية وتاريخية تسجل المراحل المختلفة لحياة ليلى مراد.
    ويستعرض الكتاب وثائق تروي سيرتها الذاتية، بما فيها قصة تحولها من اليهودية إلى الإسلام، وحقيقة علاقتها بإسرائيل ولجؤها إلى اللواء محمد نجيب، أول رئيس لمصر، لحمايتها من إسرائيل، وبعض تفاصيل زواجها من أنور وجدي، أحد رواد السينما المصرية.
    قال أشرف غريب، الناقد السينمائي ومؤلف الكتاب، لبي بي سي إن حياة ليلى مراد “تناولتها كتب كثيرة من خلال السرد والحكي، لكنها انطوت على قدر كبير من المبالغة والمغالطات.”
    وأضاف أن “حياتها كانت مثارا للجدل، لذا لزم التعامل معها بطريقة لا تحتمل الشك، وهو ما لا يتأتى إلا من خلال الوثائق الرسمية.”
    – عن البي بي سي عربي 8-2-2016 –
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول صوت من مراكش:

    يقال ان سبب ابتلاء الموسيقار الراحل محمد فوزي بذاك الداء الغريب

    الذي انهى حياته هو صدمته التي جراء تأميم شركته و هذه و صمة عار

    في جبين الثورة وفي هذه القراءة للسيد بلال فضل نزداد يقينا في كون

    سلطة الثوار آنذاك قد دعمت فنانين على حساب آخرين

    الفنانة الكبيرة ليلى مراد اذا كانت احدى ضحايا الضباط الاحرار في تصرفهم في شؤون

    لا يفقهونها و لا غرابة ان نسمع يوما عن خبايا الحيف الذي تعرض له ملك العود فريد الاطرش

    فالرجل قد ظلم كثيرا شكرا للسيد بلال فضل على هذه القراءات الشهية و نتمنى ان يفوق عددها الألف بكثير

    نحياتي

  3. يقول سوري:

    عندما انظر الى فناني الامس من خميلة محمد عبد الوهاب ومحمد فوزي وفريد الاطرش واسمهان وليلي مراد وعبد الحليم حافظ وام كلثوم و.. وفناني اليوم من قبيلة هشك بشك وفناني فنادق الخمس نجوم ااسف لحال ثقافتنا المتدهورة الى الحضيض
    رحم الله الفنانة الكبيرة ليلي مراد مهما كان دينها

  4. يقول د محمد شهاب أحمد / بريطانيا:

    انا قلبي دليلي
    واحدة من أجمل أغاني زمن الإبداع الموسيقي ، من ألحان محمد القصبجي ، مبدع ” رق الحبيب”

    محمد فوزي توفي بمرض التليف خلف الصفاق Retroperitoneal fibrosis الذي تسبب بفشل الكلى

    تَرَكُوا لنا إبداعهم و رحلوا
    رحمهم الله جميعاً

  5. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    مقال يقدم نموذج عما يفعله حكم العسكر ، و كيف ان الولاء الأعمى المطلق هو المقياس الذي يعلو على اية كفاءة و موهبة و شعبية ، مجرد عدم الولاء ، او السكوت عن الموالاة او الولاء لجهة اخرى بحيث لا يؤذي الدولة حتى ،

  6. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    ياسلام عليك ياأخي بلال فضل على هذا المقال الرائع عن ليلى مراد هذه الفنانة القديرة الرائعة وبصوتها الرائع. صدقاً لم أكن أعرف أنها أسلمت ولم أسمع بهذه القصص العجيبة للأسف, وكنت أحتفظ لها بصورة رائعة كفنانة تستحق كل الاحترام والتقدير (وكان قلبي دليلي) ولم أشك يوماً أنها إنسانة عربية أصيلة لايمكن أن تكون قد ارتكبت خطأً بحق وطنها, مع أن أمثال هذه الفلزات القديمة الثمينة من الفنانين العرب ليست كثيرة في يومنا هذا وخاصة عندما أتذكر مساندة بعض الفنانين للسلطة والاستبداد والقمع.

إشترك في قائمتنا البريدية