منطق القوة المتغطرسة وصناعة الرأي العام

يُمكن أن يتحول الإعلام إلى أداة لتفريغ المواطن من الداخل، وإعادة صياغة تطلعاته، وفق أجندات يُتفقُ عليها مُسبقا، فداخل المجتمع الأمريكي يحرص الإعلام بجميع أشكاله في جعل صورة فلسطين صورة مختزلة إلى حد كبير وبلا ملامح، في المقابل يتم إظهار إسرائيل كبلد محاصر بالأعداء من كل الجوانب، وضحية تثير التعاطف يعاديها العرب لأنهم معادون للسامية.
وهذا الجهد الإعلامي المزيف للحقائق حدث أيضا عندما تجاهلت الولايات المتحدة وبريطانيا احتجاج الجماهير في أكثر من بلد غربي رفضا للحرب على العراق، ولم تلتفتا لقرارات مجلس الأمن الذي أعطى مهلة للمفتشين الدوليين للبحث عن أسلحة الدمار الشامل. وتم غزو العراق استنادا إلى مبررات ثبُت فيما بعد أنها كاذبة ومُلفقة ولا أساس لها من الصحة. وتلك كانت مغامرة عدوانية مجنونة قام بها توني بلير وبوش الابن، فعن أي قيم ديمقراطية يمكن أن تتحدث بريطانيا وأمريكا؟
والعداء السافر والتدخل في شؤون الدول حدث ويحدث باسم القيم الأمريكية، لقد قالها بوش إننا سوف نقاتل لأجل نصرة الخير مقابل الشر، وإننا سوف ننشر القيم الديمقراطية، القيم الأمريكية في كل أنحاء العالم. بهذا المعنى وقع ما وقع، وفي الحقيقة لا يمكن أن نتحدث سوى عن ديمقراطية بترولية مرجعيتها الدولار والسوق والهيمنة عند غياب القيم الأخلاقية الانسانية العليا، كمرجعية نهائية يحتكم إليها الجميع.
لم تهتم الولايات المتحدة يوما بالشعوب، بل حرصت على دعم الحكومات الديكتاتورية وضمان بقائها في السلطة ضد تطلعات شعوبها. والمبدأ الأكثر شمولا هو إذا لم تخدم منظمة دولية مصالح السياسة الأمريكية، فهناك سبب ضئيل للسماح لها بالحياة، والشأن ذاته مع الأنظمة في الدول ذات السيادة، وعقيدة الدولة المارقة مازالت سارية المفعول، سواء تولى الديمقراطيون الحكم أو عاد الجمهوريون إلى البيت الأبيض. وهو المعطى الذي جعل الولايات المتحدة تعمل على إنهاء المشروع المادي والفكري لأي دولة عربية قابلة للنمو والتطور، وقادرة على الاصطفاف مقابل إسرائيل، ما يُفسر أعمالها التخريبية لدول الطوق التي تُحيط بالكيان الصهيوني، دمرت العراق البلد القوي بموارده وطاقاته البشرية عن طريق العقوبات الاقتصادية، ومن ثمة التدخل العسكري المباشر. ثم جاء دور سوريا وحدث ما حدث. وأحلت أنظمة عميلة تتناغم والرغبة الصهيونية في القضاء على أعدائها، من حاصل رغبة أمريكية اسرائيلية مشتركة في تغيير خريطة الشرق الأوسط، بحيث تُتاحُ لأمريكا السيطرة المباشرة على أكبر احتياطات النفط في المنطقة، وتكسب اسرائيل مقومات السيطرة والقوة، ومثل هذه الرغبة عبر عنها ترامب في أكثر من تصريح إعلامي قبل توليه الحكم وأيضا بعد وصوله إلى البيت الأبيض.
ثمة ركيزتان أساسيتان للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، أولها ضمان أمن اسرائيل وتفوقها العسكري وهو ما يبرر كل ما تقوم به الولايات المتحدة سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا في الهيئات الأممية منذ عقود، وازداد اتضاحا هذه الأيام ضمن معركة القدس. وثانيها أن تضمن واشنطن لنفسها تدفق النفط من منطقة الخليج، وتحديدا من المملكة العربية السعودية. ولكن ما حدث في الجمعية العامة أياما خلت جدير بأن يُثبت للقادة السياسيين في الكيان الصهيوني أن خرق القانون الدولي وتجاوز قرارات الأمم المتحدة لم يعد في متناول اسرائيل وظهيرها الأمريكي ، فأغلب دول العالم لم تسمح لدولة مارقة دفعت باتجاه فرض كيان وظيفي بالقوة أن تختار له العاصمة التي تريد. وبالمحصلة النهائية لا يمكن للقوة والعسكرة والاخضاع أن تدوم، وهي استراتيجية عقيمة لا تخلف سوى الدمار وتزرع بذور الحقد والكراهية لأجيال.

كاتب تونسي

منطق القوة المتغطرسة وصناعة الرأي العام

لطفي العبيدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية