تعكس ديناميات السياسة الدولية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حجم تخبط النظام الدولي، فلحد الآن ـ وبسبب التناقض والفوضى في الاتجاهات ـ لم ترتسم معالم هذا النظام، ولا يبدو في الأفق تبلورها في السنوات القادمة.
نعم، ثمة حديث عن الفوضى واللانظام، لكنها سمات تعكس أزمة مخاض النظام الجديد، أكثر مما تعكس سماته الجديدة.
والمثير في هذه الاتجاهات، أنها قلبت صورة الديناميات التي سادت لأكثر من قرن من الزمان، سواء ما تعلق بتوتر العلاقات الدولية، أو بلحظات التوافق الحذر، أو بانشطار المجتمع الدولي إلى معسكرات ثلاثة، ثنائية قطبية بين القوتين العظميين أمريكا وروسيا، ودول عدم الانحياز. فالظاهر، أن مسرح السياسة في المنطقة، أصبح يتغذى بفعل الإرادات الإقليمية أكثر منها بسياسة الفاعلين الدوليين الكبار مثل أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي، وصار التناقض بين مخرجات هذا الفعل هو الصانع للحدث وتطوراته، وربما المفسر لما سيكون عليه النظام الدولي في المرحلة الجديدة.
نماذج هذا التناقض كثيرة، وتظهر في المنطقة برمتها. خليجيا، وبعد أن كانت وحدة مجلس التعاون الخليجي، خطا أحمر في كل السياسات الدولية في المنطقة، تحول هذا المعطى بشكل كامل، بالأزمة الخليجية بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة وقطر من جهة أخرى، ولم تفض مخرجات إدارة الصراع إلى هذه النتيجة، ولا إلى تلك. فبالقدر الذي كسرت فيه قطر الحصار، لم تستطع وساطات الكويت ودروها في إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل نشوب الأزمة، وبقي التوتر مفتوحا، مع قدر من الحيطة والحذر.
وعلى مستوى الدور الإيراني، فد ظهرت مؤشرات متناقضة، بعضها يزكي تنامي نفوذ إيران في المنطقة، وبعضها الآخر، يؤشر على دخول رهان الامتداد في المنطقة إلى مرحلة الانسداد. فمن جهة، سجلت الوقائع قتل الحوثيين لعلي عبد الله صالح في اليمن، مما يعني إفشالا جزئيا لرهان سعودي إمارتي في اليمن للالتفاف على الدور الإيراني فيها. ومن جهة مقابلة، اندلع الحراك الإيراني على خلفية مطالب اقتصادية واجتماعية، وعلى خلفية انتقاد أثر الإنفاق على السياسية الخارجية الإيرانية في إفقار الشعب الإيراني، ولم تنته هذه الدينامية إلى اليوم، إذ رغم إصرار إيران على الاستثمار في نفس سياساتها الخارجية، لا تزال تبحث عن صيغة لاحتواء الحراك، وتدبير صراع مراكز القوى داخلها.
أما على مستوى الدور التركي، فقد برز مؤشران متناقضان، الأول تمثل، في دينامية أكراد العراق واتجاههم نحو إعلان استقلال كردستان، وهو ما يشكل تحديا كبيرا للسياسة الخارجية التركية وتهديدا لأمنها القومي، ومن جهة ثانية، سجلت الوقائع، تحركا عسكريا كبيرا لتركيا في عفرين من أجل خلق وقائع على الأرض على الحدود التركية السورية، تخدم الحسابات التركية. مخرجات هذه الدينامية، أن تركيا لا تزال تنفذ أجندتها في التدخل العسكري، غير مبالية بالتحذيرات الأمريكية والأوروبية.
أما على مستوى ملف الصراع العربي الإسرائيلي، فقد برز مؤشران متناقضان أيضا، الأول، وهو تحرك دينامية واسعة رعتها القاهرة للمصالحة بين فتح وحماس، انتهت باتخاذ حماس لقرار حل اللجنة الحكومية المكلفة بإدارة قطاع غزة، والدعوة لانتخابات عامة بها، ودعت حكومة رامي الحمد الله لممارسة مهامها في غزة في مقابل دعوة محمود عباس باتخاذ خطوات عملية برفع الإجراءات العقابية ضد غزة. لكن في المقابل، تحركت دينامية أخرى للمقاومة على خلفية قرار الرئيس الأمريكي ترامب بنقل سفارة الولايات المتحدة ألأمريكية من تل أبيب للقدس وإعلان القدس عاصمة ابدية لإسرائيل، ذلك القرار الذي انتهى أمميا، بفعل التحرك الدبلوماسي العربي الإسلامي برفض الجمعية العامة له.
في مصر، بينما كانت تسير المؤشرات لتكرس هذا التناقض، خصوصا بعد أن قدم الفريق عنان ترشيحه للانتخابات الرئاسية بمصر، انقلبت الصورة بشكل سريع، بعد أن انسحب الفريق أحمد شفيق من سباق الرئاسيات، ثم اعتقال الفريق عنان واتهامه من قبل المؤسسة العسكرية بالتزوير، بما يعني انتهاء هذه الدينامية في بعدها السياسي- على الأقل ضمن هذه التطورات المحدودة- باستمرار الوضع السابق.
أما على مستوى شمال إفريقيا، فقد ارتسمت تقريبا نفس السمات المتناقضة، إذ في الوقت الذي عرفت فيه تونس والمغرب ارتباكا سياسيا، برزت صورته في إحداث تغييرات حكومية مطردة على مدى سبع سنوات منذ الربيع العربي، تعكس تعديلا مستمرا لموازين القوى، انتهت في الأخير ـ على الأقل في المرحلة الراهنة ـ إلى ترسيم وفاق محكوم بإضعاف موقع الإسلاميين في موازين القوى. وفي المقابل، برزت مؤشرات عودة الحراك الاجتماعي مع تبني المغرب وتونس للمقاربة الأمنية في التعاطي معه.
وهكذا، فما عدا مصر التي استمر الرهان على ثقلها الاستراتيجي في رسم اتجاهات السياسية الدولية في المنطقة، يلاحظ تجاوز الدور الإقليمي للدور الدولي، وانكماش الدور الأمريكي والأوروبي. ما يبرر ذلك أن نتائج التوتر بين مخرجات الإرادات الإقليمية، لم ترتفع بعد إلى تغيير الحسابات في المنطقة، فلا زالت الرهانات نفسها، مع مسارعة للتدخل حين تصل رهانات القوى الإقليمية إلى تجاوز الخطوط الحمر.
مثال إيران واضح، فحين استهدفت الصواريخ الرياض، شغلت إيران بداخلها، ونفس الشيء يقال بالنسبة للتغيير الوضع لسياسي في مصر، أما سوريا، فلحد الآن لا زالت الرهانات في مستوياتها المعهودة، وموازين القوى بين النظام السوري ومعارضيه لم تتغير كثيرا، ودور تركيا، رغم تدخلها العسكري في عفرين، لم يجاوز منطق الدفاع عن الاستهدفات التي تتعرض لها باستعمال الورقة الكردية. أما بالنسبة للصراع العربي الإسرائيلي، فالوضع لا يزال يتأرجح بين ديناميات مترددة لاستئناف مسار السلام، وتهديدات تشعل الانتفاضة من جديد. أما في منطقة المغرب العربي، فالحاكم هو استقرار المنطقة، والأمن القومي الأوروبي الذي تبدأ دائرته في جنوب المتوسط، أما ما عدا ذلك، فعمليات تسوية وضغوط لترتيب التموقعات.
٭ كاتب وباحث مغربي
بلال التليدي