ايمان الناس بمبادىء عامة قد يجعلهم أكثر تشددا وتطرفا حين تتنزل هذه المبادىء المطلقة على الواقع وتحتك بالشارع والميادين العامة والساحات، حيث يصبح التأويل والتفسير ونسبيته واحتكاكه بالظروف عرضه للتناقض والنقص وعدم اكتمال المثالية المحفوظة في الذهن والديمقراطية أيا كان شكلها لا تتعدى كونها عملية تراكمية نسبية تاريخية أي محكومة بالظروف التاريخية إلا أن هناك أفضليات تظل رغم كل هذا واضحة ونبراسا ومدعاة للتوافق عليها كخطوط عريضة كأفضلية الحرية والعدالة على الاستبداد وسيطرة وطغيان القلة على الاكثرية. الاشكالية كم أراها بعد ثورات الربيع العربي ذات جانبين أحدهما طبيعة الانقسامات في المجتمع العربي، حيث كونها إنقسامات أهلية ذات طابعي ديني او قبلي ولم تتحول بعد الى انقسامات سياسية وهو المطلوب والذي تأخر كثيرا نظرا لسيطرة الاستبداد وطول مرحلته. والجانب الآخر يتعلق بحيازة المجال العام طوال فترة الاستبداد الطويلة وحصر المجتمعات في زاوية واحدة أدت بالتالي الى انفجاره كما شهدنا على الرغم من انه تاريخيا كان التنوع والاختلاف، موجودا ومؤسسا دستوريا، حيث كان نظام الملل والنحل معمولا به في العصر العثماني وربما قبله كذلك. وقد اشار إبن خلدون في مقدمته الى أن العصبية والدين وتكاثر العصبيات معوق قاتل لقيام الدولة واستمرارها. فالقضية أعقد من مجرد الذهاب الى صناديق الاقتراع بعد سقوط الاستبداد المزمن لأن المجتمعات ماتزال تحمل جيناته وأعراضه خاصة ان معظم التشكيلات الاجتماعية الاهلية كانت تعمل في الظلام وفي السر مما يجعلها أكثر ميلا إلا السيطرة واغتنام الفرصة السانحة، حيث لم تتعود على العلن وطمأنينته وشفافيته. لقد خرجت اوروبا من الحروب الدينية الى العصر القومي وتأسست الدولة القومية قبل أن يبزغ من بين احشائها المجتمع المدني الذي كان قادرا بعد مرحلة من الزمن من إدارة شؤون الدولة سياسيا بعيدا عن الانقسامات الاهلية القاتلة لانهم مروا بتجربتها واكتووا بنار الحروب الدينية والمذهبية طويلا. لم يعد الامر اسقاطا على الواقع بقدر ما كان استنباطا له بظروفه وبتربته. والجدير بالذكر أنه ليست هناك ثورة دونما شعور من جانب الشعب بسرقة وحيازة المجال العام واحتكاره، ولكن الاشكالية في أن مثل هذه الثورة ذات مدى قصير ما يلبث اصحابها بعد انتصارها الأولى على الاستبداد أن يجدوا أنفسهم منزوعين الى مرجعياتهم أو خوفهم من بعضهم البعض خاصة إذا لم تتوفر للمجتمع قاعدة اجتماعية مدنية عريضة، واكتفى الأمر بكون المرجعيات الأولية هي المحرك الاساسي ضد الاستبداد وليست هناك مرجعية أولية مهما كان مصدرها لا تحارب الاستبداد لأنه ضد الفطرة الانسانية أساسا. كيف يمكن الانتقال من طور الانقسام الاهلي المذهبي إلى طور الانقسام السياسي المدني هذا هو تحدي الأمة بعد الثورات ويتطلب ذلك بالضرورة مرحلة انتقالية تتضافر فيها الجهود وتبتعد المجتمعات في إدارتها لهاعن قاموس المرجعيات الأولية الديني منه أو الاجتماعي، كالتكفير والخيانة والعمالة. وأنا على يقين أن الأمة لن تخرج عن دينها ولا عن عقيدتها مهما كانت النتائج لذلك قضية أن ما تم في مصر أو تونس أو ليبيا من صراع نحو الانتقال الى الانقسام السياسي الذي يكفل للجميع حيزا من المجال العام يؤدي بالتالي الى قيام الدولة المدنية يشكل أمرا ضد الاسلام إدعاء خاطىء لان تاريخ الأمة يشهد أنها تعرضت لأصعب واشد كرب ضد هويتها الاسلامية ومع ذلك هي الأمة الوحيدة بين الأمم التي تذكر بأنها عربية واسلامية لترابط الهويتين بشكل لا يمكن معها إنفصال إحداهما عن الأخرى. عبد العزيز محمد الخاطر [email protected]