منذ أسبوعين تقريبا اتصلت بي صحفية فرنسية من أصول جزائرية، تريد معرفة رأيي، فيما سمته بالهجرة العكسية، أي تلك التي يقوم بها جزائريون أو فرنسيون من أصول جزائرية نحو الجزائر هذه المرة وليس العكس. أفراد يقررون الاستثمار في الجزائر وحتى الإقامة فيها ربما، بعد أن اكتشفوا أن هناك فرصا حقيقية للعمل والربح في الجزائر، في أكثر من قطاع، بعد عودة الأمن ونوع من الاستقرار لها.
تعبت الصحافية الشابة في الوصول الى عينة معقولة لهؤلاء العائدين، الذين اعرف من جهتي بعضهم في البلد. لتكتشف بعد انجاز تحقيقها أن هذه الهجرة العكسية لم تتحول بعد الى ظاهرة فعلية، رغم طابعها الاقتصادي المحفز. فالربح المالي ليس كافيا بالنسبة لهؤلاء الشباب للإقامة والاستقرار في الجزائر من جديد، رغم علاقاتهم العائلية والعاطفية التي ما زالت قوية بالبلد وأهله. فالجزائر ما زالت بلدا طاردا، ولم تتحول بعد الى بلد مستقطب، حتى لأبنائه وبناته الذين غادروها في فترات مختلفة هم أو أباؤهم. فما زالت المدينة الجزائر، بما فيها العاصمة، ترفض على سبيل المثال ان تسكن المرأة في شقة لوحدها، حتى ولو كانت سيدة أعمال ناجحة. يصعب أن تجد فيها مكان للترفيه عن نفسها، بعد يوم عمل مضن، أو استقبال ضيوفها ليلا، بدون مراقبة صارمة من المحيط المباشر. محيط اجتماعي يملك قناعة راسخة بأنه مسؤول عن أخلاقك وتصرفاتك، مهما بدت شخصية، إذا كانت امرأة، بدون رجل، يراقبك ويضبط علاقاتك. يستطيع أن يقدم ضمانات للمجتمع عن سلوكياتك، أكان الرجل هذا أبا أو زوجا أو حتى أخا أصغر منك تقوم بالصرف عليه وإعالته.
فالجزائر في وقتنا الحالي، يهرب منها الفقير والغني، الصغير والكبير، المرأة والرجل، كما تبينه المعطيات المتحصل عليها من سوسيولوجيا قوارب الموت التي تزداد وتائرها، كلما تحسنت الأحوال الجوية في المتوسط، كما هو حاصل هذه الأيام من شتاء 2018. مشروع الحرق الذي تحول مع الوقت إلى مشروع عائلي تقدم عليه العائلة بكل أفرادها، بمن فيهم الرضيع والكهل والحامل، كما بينته أحداث الأسبوع الماضي. فالشاب الجزائري يحرق إذا كان فقيرا، من حي شعبي ومن دون تأهيل، لأنه اكتشف ان فرص إيجاده لعمل نادرة جدا، مهما كان تواضع منصب العمل الذي يمكن ان يحصل عليه لاحقا. منصب عمل لن يحسن من وضعه الاقتصادي والاجتماعي ولن يخرجه من الهشاشة، فلن يحصل على سكن إلا وهو يتجاوز الأربعين، ولن يتمكن من الزواج وتكوين أسرة إلا إذا قبل بالسكن مع عائلته الكبيرة في غرفة واحدة لسنوات في حي قصديري.
كما يحرق الشاب صاحب التأهيل العالي لأنه متأكد أن أجره الذي سيحصل عليه من منصب عمله الممكن، لن يخرجه من دائرة الفقر والحاجة. وأنه لن يستطيع تحقيق ذاته مهنيا واجتماعيا، رغم شهادته وتأهليه العالي، في بلد ما زال فيه مطلوب من المواطن أن يكون غنيا جدا حتى يبرر وجود فيه.
تحرق الفتاة الجزائرية هي الأخرى للالتحاق بحبيبها الذي فرضت عليه ظروف بلده الهجرة إلى أوروبا. بعد أن تعرفت عليه على صفحات الفيسبوك، منذ مدة قصيرة وأقنعها أن الإقامة في هامبورغ الألمانية، أحسن لها بكثير من باب الواد. ففي هامبورغ، يمكن ان تعمل وتدرس وتخرج وتعمل أشياء أخرى، لم يكن من المسموح لها القيام بها في بلدها الذي تغلق مدنه على الخامسة بعد الظهر.
يحرق الجزائري الشاب لأنه يريد ان يعيش وليس بالضرورة ان يعمل فقط. يريد ان يعيش سنه، بدون نفاق، يذهب للرقص في مساء سبت، يلتقي بصديقته التي يتصورها جميلة، شقراء ومتحررة، كما يراها كل مساء على صفحات الفيسبوك ويتحدث معها بلغة، حار علماء اللغة في تصنيفها وإلى أي عالم تنتمي.
سوسيولوجيا قوارب الموت تخبرنا أن الحرقة لم تعد مرتبطة بالعوامل الاقتصادية فقط، كما يريد ان يفهم مسؤولونا، الذين ما زالوا مصرين على التعامل مع الجزائري المبتور من أبعاده الذاتية والإنسانية، فهم في نهاية الأمر لا يحبون التعامل إلا مع الجزائري الفقير والمعدم، صاحب الطلب الاجتماعي المُلح. فالجزائري الذي يريد ببساطة ان يعيش لا يتعامل معه النظام الجزائري ولا يفهم سر عدم ارتياحه بالبقاء في الجزائر. نظام طوّر مع الوقت أيديولوجيا مبنية على شحنة كبيرة من النفاق الاجتماعي يتم التعامل من خلالها مع المواطن، مهما كان سنه وموقعه الاجتماعي وقناعاته الدينية، أيديولوجيا أنتجتها الوطنية الشعبوية الجزائرية وهي في حالة احتضار، بعد ان تكلست وأفرغت من محتواها العصري. وطنية شاخت نخبها في مجتمع شاب وأصبحت أكثر محافظة مع الوقت. فالمواطن الذي تتخيله هذه الأيديولوجيا الرسمية وتتعامل معه هو «إنسان» دون سن محددة وحتى دون جنس محدد. إنسان متخيل بدون شعور ولا حياة عاطفية، ليست له أهداف يريد تحقيقها إلا إعادة إنتاج ذاته البيولوجية، في أبسط أشكالها، شبه الحيوانية. يتكفل العامل الصيني عن طريق أموال الريع ببناء مسكن ومسجد له، ليقوم بوظيفتين أساسيتين مطلوبتين منه، عبادات دينية شكلية، وحياة اجتماعية، بدون روح، في احياء لا تصلح الا للنوم والمشاركة في الحروب الاهلية الصغيرة بين سكانها، كلما كان ذلك ضروريا ومطلوبا، كترفيه عن النفس وشكل من أشكال التعارف في هذه الاحياء – المراقد.
الحراق الجزائري الذي لا يريد المسؤول أن يتعرف على الدوافع العميقة والمتعددة بالضرورة التي تدفعه الى الهجرة في ظروف مأساوية، رغم انه عبّر عنها بألف شكل، مباشر وغير مباشر. لعل أصدقها تلك الاهازيج والأغاني التي يطلقها الحراق وهو على قوارب الموت، متجها نحو المجهول. أشكال تعبيرية متعددة جماعية وفردية كان قد قام بها الشاب الجزائري في الملعب والحي قبل قوارب الموت، بدون أن يتم الإنصات له من مسؤول سياسي يعيش ما يشبه حالة التوحُد المرضية التي تجعله في حالة عدم تواصل مع محيطه، حتى قبل التحاقه بنادي الصنوبر (منطقة خضراء قديمة على الطريقة العراقية) الذي يعيش فيه للجيل الثالث على التوالي، في عزله تكاد تكون تامة عن المجتمع وهمومه.
كاتب جزائري
ناصر جابي
لا تكمن أهمية المقال أعلاه فقط في المعلومات الكثيرة التي تضمنها والتي نعرف الكثير منها، ولكن كذلك في كون هاته المعلومات تأتي من كاتب جزائري متحرر من دعاية العسكر الحاكم التي تسيطر- للأسف- على الكثير من الجزائريين الذين اعتادوا- تحت تأثير الدعاية- على تزييف الواقع الذي يعيشه الشعب الجزائري عامة والشباب بصفة خاصة وتصوير المواطن الجزائري وكأنه يعيش في أحسن الظروف الممكنة..
ان الشعب الجزائرى هو المسؤول على هذه الاوضاع المزرية والحكام هم جزء من المجتمع . فكلما اقتربت الانتخابات يتوجه قسم من المجتمع لتزكية الحكام المسؤوليين على هذه الوضعية والباقية ثبقى تتفرج على المسرحية وهذه هي حالة اغلبية الشعوب العربية.
مشكور أستاذ جابي على هذا المقال الصريح والواضح، الشباب يريد الحياة حتى ولو عانقها في سبيلها الموت.