كلما شدّ برد نيويورك حيله علينا، وافترى في نزوله وانحداره تحت الصفر، أتذكر عم عبد البر.
كان عم عبد البر أشهر بوّابي عمارات شارعنا السكندري في أيامه الخوالي باللام وليس بالراء، وكان ابنه الحيلة قد سافر في منتصف الثمانينيات للعمل في إيطاليا، لكن من سفّروه نصبوا عليه مستغلين بلاهته وآمال أبيه، فذهبوا به إلى مالطة بدلاً من إيطاليا، وهو أمر لم يفرق كثيراً مع عم عبد البر، على عكس ابنه، فالأب كان على ما يبدو، يحتاج إلى تواجد ابنه في أي دولة على الضفة الأخرى من المتوسط، ليدسّها في أي حوار من أي نوع عن أي شيء، وكأنه هو الذي سافر إلى مالطة.
في الصيف يقول عم عبد البر لأي شاكٍ من الحر: «وهو ده حر أصلاً، طب والله العظيم الحر في مالطة بيقلي السمك من غير زيت»، وفي الشتاء يقول للمتذمرين من برودة الجو وغزارة المَطَرة: «وهو ده برد يا بني إنت وهو.. ده ودانك في مالطة ممكن تقع من البرد وتقعد تدور عليها في الشارع وسط التلج.. وهو ده شِتا أصلاً.. ده الشتا في مالطة بيغرّق عماير بحالها مش بس شوارع زي شوارعكو المعفنة دي»، وفي البدء لم يكن أحد يجادله منعاً لكسر خاطره، فغربة الأحباب صعبة وثقيلة على القلب، واستدعاؤهم عمّال على بطّال مما يهوّن مرارتها، لكن عم عبد البر مع مضيّ الوقت، أساء التعامل مع تحمّل الناس له، فبدأ يتصرف بوصفه قنصل مالطة في الإسكندرية، أذكر أنني عبرت مرة إلى جواره وهو يحدث ولي أمر غاضب عن تفاصيل وخفايا الدروس الخصوصية في مالطة، وأن الحكومة تقوم بعمل دعم شهري للأهالي ليستعينوا على مصاريفها، على عكس ما تفعله حكومتنا المتسخة، وقد كان ذلك أهون من مرة أخرى، ألفيته يجيب فيها باستفاضة ينقصها الرسوم التوضيحية، على سؤال وجهه شاب عابث يتقن إخفاء هزله: «ألّا هي النسوان في مالطة بتتختن برضه يا عم عبد البر؟».
لكن كل هذا كوم، وارتباط عم عبد البر في ذهني بالبرد الزمهرير كوم آخر، وتفصيل ذلك أن ابنه الحيلة، بعد أن عاد بسلامة الله من غربة دامت عامين، تزوج من إحدى بنات بلدته، وحل محل أحد أقاربه في إدارة شؤون عمارة جديدة في الشارع المجاور، وبعد عام ونيف، وصلت إلى شارعنا أخبار خناقة حامية الوطيس، دارت في مدخل تلك العمارة بين العريس العائد من الغربة وأهل عروسته، استخدمت فيها الدِّكك والأسلحة البيضاء والأحزمة و»السناسن»، لأن العروسة اشتكت بعد طول صبر، من تأخر العريس في أداء ما هو مطلوب منه، فضلاً عن أداء ما هو متوقع، عافانا الله وإياكم، ولأن الابن كان قد ورث عن أبيه العناد والمكابرة، فقد رفض في البدء نصيحة عروسته المتعلمة بالذهاب إلى الحكيم المداوي، ونصيحة أمها بالذهاب إلى سيدي البوصيري وسيدي أبو الدردار، بل وأخذته العزة بالإثم و»الجنجحة» إلى مناطق خطرة، عايب فيها على ملامح العروسة العكرة التي لا تشجع أي شيء على التحرك، إن توفرت رغبة التحريك، فما كان من البنت وأمها إلا أن كسرتا صمتهما، وأوصلتا الأمر إلى رجال العائلة الذين مزقوا ابن عبد البر خير مُمزّق، وحين لم تعد الفضيحة قابلة للكتمان، اضطر عم عبد البر لمقاومة سريانها بين الناس، بالحديث عنها علناً، ليقسم لكل من يمر به دون مناسبة، إن ابنه كان سبعاً ضارياً قبل غربته، وأن أولاد الحرام الذين سفّروه إلى مالطة، لم يحذروه مسبقاً من بردها القارس، الذي داهمه على حين غرة، فصعق خصيتيه وأصابهما بالتجمد، ولأنه كان في غربة، فقد أهمل في الذهاب إلى الطبيب، فضربهما الصعيق كما يضرب الأرض الخصبة فيصيبها بالبوار، لينجح عم عبد البر في تحويل ما جرى، من فضيحة مغرية بالتأليس والمألتة، إلى واقعة تراجيدية تصطك لها الأسنان، وتدفع السامعين للاستعاذة بالله من غدر الزمان الذي يذل أعناق الرجال، ومديح الوطن الذي يحن على أبنائه مهما قسا برده.
كان لا بد أن أحكي ذلك كله قبل سنوات، للصديق الذي سبقني إلى الغربة في بلاد الشتاء اللئيم، لأبرر له سؤالي المتحرج والمتدرج، عمّا يقوم بتدفئة الأجزاء الحميمة من الجسد، بعد أن أفاض عليّ في شرح أهمية تدفئة الرأس والأذنين والأصابع، ليدلني على عالم الملابس الحرارية، التي تجعلك في مشاوير مدينة ساحلية مثل نيويورك تتصبب عرقاً في عز الصقيع، فلا تتذمر ولا تشكو، وإن فعلت فتذكرك لابن عم عبد البر، سيدفعك للصبر، والشكر لمن هدى عبيده لحسن مواجهة البرد، وهو ما جعل أهل الدول الاسكندنافية الذين تصل درجات الحرارة لديهم إلى ما تحت الثلاثين، يطلقون مثلاً بديعاً يقول: «لا يوجد طقس سيء، توجد ملابس سيئة»، وهو ما لم يدركه ابن عم عبد البر، الذي إن صدقنا رواية أبيه، دفع ثمن انتمائه إلى الرعيل الأول من المهاجرين نحو البلاد الباردة، بعد أن كانت الهجرة وقتها مقتصرة نحو البلاد الأشد حراً وتلزيقاً. قارن حال ابن عم عبد البر وغيره، بأحوال مئات المهاجرين المصريين من أجيال تالية، وهم يقفون من أجل لقمة عيشهم، على عربات الطعام في نيويورك وغيرها، في عز صقيع الزمهرير، وقد عرفوا أسرار التعامل مع البرد وتقلباته، فصار لكل جو بارد طبقاته من الملابس ونوعه الخاص من الأقمشة، خاصة أن الطقس البارد يزيد عدد مناوبات القادمين حديثاً منهم، ممن لم تستقم أحوال أوراقهم الرسمية، حيث يترك لهم بعض زملائهم الأقدم أماكنهم، ليعودوا إلى البلاد الدافئة، التي لو كانت أحوالها أحنّ عليهم كجوها، لما غادروها أبداً.
لا زلت أدين لأحد هؤلاء الجدعان بنصيحة ثمينة في أول شتاء حضرته في نيويورك عام 2013، حين نصحني ألا أفرح حين أرى من شباك بيتي، سطوع الشمس في كبد سماء الشتاء، لأن تلك الفرحة تندرج تحت بند «فرحة الأهبل ببربوره»، فهي توحي لعديمي الخبرة بإمكانية النزول من البيت، متخففين من ملابسهم الثقيلة، كما نفعل في بلادنا حين نرى شمس الشتاء، فنغني لها وندلعها بالشموسة والشماميسو، وما إلى ذلك من صنوف المرقعة المشروعة، أما هنا فالشمس الساطعة تعني صفاء الجو وخلوه من الغيوم، مما يجعل هواءه البارد يتحرك بكامل حريته في الـجـو، دون أن يـجـد من يهدئ اندفاعه، فيلعب لعبته المفضلة بمباغتة أي نسيج بشري يصادفه، ليخترقه نحو العظم مباشرة، وهو ما عقبت عليه بقولي: «زي ما حصل لابن عم عبد البر»، قبل أن أعيد حكاية الحكاية التي لم ينجح تغليفها بالسخرية، في إخفاء نظرات القلق التي بدت في عيني بلدياتنا الجدع، الذي تركني أكمل السندوتش في صمت زاده غناء الست شجناَ، قبل أن يطلب أن أدعو الله له بسرعة إنجاز أوراقه، ليتمكن من قضاء شتاءاته القادمة في مصر.
تغيرت علاقتي مع البرد منذ ذلك الشتاء، ليس فقط لأن الاعتياد يقتل الرهبة ويؤقلم الأجساد، بل لأن التدفئة مبذولة في كل مكان، على عكس الحال في أوطاننا التي تختلف معاناة الناس من البرد فيها حسب ظروفهم وإمكانياتهم، حتى أنها في بيت قديم كالذي أسكنه، تصير مصدر إزعاج، حين تعلو مع انخفاض درجات الحرارة، فتشكو من العرق، دون أن تجرؤ على فتح الشباك للتهوية، لكي لا تشكو بعدها من الالتهاب الرئوي الحاد، وكلما وجدت نفسك متلبساً بالشكوى، تشكر الله لأنك لم تبتل بعاصفة ثلجية قاسية أو إعصار مدمر. ومع الوقت وجدت نفسي وقد تحولت من طالب للنصيحة إلى مركز للإفتاء في شؤون البرد، وهو ما حدث مطلع هذا الشتاء، حين وقفت في طابور باص المدرسة مع جاري السوداني حديث العهد بشتاء نيويورك، فاستمعت لشكواه بفوقية منعشة، وضبطت نفسي بعدها وأنا أقول له بيقين عم عبد البر: «وهو انت لسه شفت برد يا زول»، قبل أن أحكي له حكاية ابن عم عبد البر، لعله يلحق نفسه بشراء الحراري من الملابس والضاري من الأنسجة، لكن الحكاية أتت معه بأثر عكسي على ما يبدو، لأنني لم أره منذ ذلك اليوم، لا هو ولا أولاده، لأسمع قبل أسبوع من عم أنطوني بواب العمارة، أن أخينا الزول قرر فجأة نقل إقامته إلى فلوريدا، ولعلك لن تلومه على هذا القرار المتعجل، إذا عرفت أنه عريس جديد.
كبرنا يا أمي وعبرنا الأطلنطي، وأصبحنا حين نجد درجة الحرارة ست درجات مئوية تحت الصفر، نقول لبعضنا بحبور: «بس الجو النهارده معقول».
بلال فضل
تصل درجة الحرارة في مدينتنا في الشتاء الى 9/10تحت الصفر في الصباح الباكر…
وتلتحف الارض بالجليد لدرجة انه في بعض الاحيان لاتتحرك المراكب في المدينة سواء سيارات او حافلات او …..
ونسمي هذا البرد ب(السم) لانه سام فعلا وتكثر اعراض الام المفاصل واوجاع البطن من هذا السم …. ولاتغرنا الشمس الساطعة في السماء الصافية فهي دليل آخر على ان هذا اليوم سيكون (منيل بستين نيلة على قول الاحبة في مصر)…لان الرياح ستلعب كل ادوار البطولة …
ونفرح بالثلج..رغم تلبد السماء بالغيوم الاّ ان جوه فيه دفئ من نوع خاص…
للأسف تبدلت الطبيعة كثيرا واصبح في السنوات الاخيرة لايزورنا الثلج الاّ كل سنتين تقريبا ..العام الماضي استمتعنا بالثلج كثيرا الذي كان يميز كل شتاءاتنا التي اذكرها منذ طفولتي والذي يصل الى الركبة …
تبدلت البلاد والعباد والطبيعة وكل شيئ آخذ في السيلان…..
تحية للكاتب القدير….
مبدع كالعادة