في مثل هذا اليوم قبل 39 عاما تكللت ثورة الجماهير الإيرانية بالنصر وإسقاط نظام محمد رضا شاه بهلوي، وإعلان قيام الجمهورية الاسلامية. وبذلك بدأت حقبة جديدة من التاريخ الحديث للعالم، تميزت بنوع آخر من الصراع على النفوذ السياسي والايديولوجي. جاء ذلك بعد 35 عاما من نهاية الحرب العالمية الثانية التي تمنى الغربيون ان لا يحدث مثلها بعد ما شهده من كوارث مادية وبشرية. وبلغ الحلم الغربي ذروته بان يكون المشروع الديمقراطي نظاما عالميا مدعوما باحترام حقوق الانسان. وتم العمل لوضع تشريعات دولية تروج هذه الاطروحة التي كانت سلاحا اعلاميا مفيدا في الصراع الذي سرعان ما احتدم بين الغرب الليبرالي والشرق الشيوعي.
في تلك الحقبة كان موضوع حقوق الانسان اداة سياسية منطقية في الصراع مع الاتحاد السوفياتي. واستفاد الإيرانيون من ذلك كثيرا، فاصبح الرئيس الأمريكي آنذاك، جيمي كارتر، محاصرا بالاسئلة حول الانتهاكات التي كان الناشطون الإيرانيون يعانون كثيرا. وعرف عن كارتر اهتمامه الشخصي المحدود بذلك الموضوع، الامر الذي ساهم في تخفيف الحماس لبقاء نظام الشاه، الحليف القوي لأمريكا وإحدى الدعامتين لسياستها في الشرق الاوسط. كان المشروع الغربي ينطلق على اساس ان احترام حقوق الانسان سيؤدي إلى عالم مستقر، أكثر انسانية، وأقرب للمشروع الغربي الديمقراطي.
ولكن ما مدى واقعية هذه الفرضية؟ هذه الاطروحة تتأسس على فرضية ان احترام حقوق الانسان سيؤدي لتغير سياسي تدريجي يؤدي لقيام الديمقراطية في بلدان العالم. وربما تحقق شيء من ذلك في دول اوروبا الشرقية التي تمردت لاحقا على الحكم السوفياتي واستفادت من المشروعين الحقوقي والديمقراطي. وسبب ذلك ظاهرة الانتقائية التي يمارسها الغرب الذي اصبح يستخدم حقوق الانسان سلاحا ضد روسيا والصين وإيران، ويتغاضى عنها في الدول الحليفة كالسعودية والبحرين الامارات. الثورة الاسلامية في إيران فرضت على الغربيين اعادة النظر في توجهاتهم، فسرعان ما تخلوا عن كلا الاطروحتين. فاذا كان التغير السياسي في دول العالم الثالث، وفق المشروع الغربي، سيتحقق عندما تستطيع الشعوب تقرير مصيرها وانتخاب النظام السياسي الذي ترتئيه، فان تلكؤها التدريجي في التمسك بالمشروع، مهد الطريق لبديل آخر للتغيير، يتمثل بالمشروع الثوري الذي جسدته ثورة إيران. الغربيون التفتوا لذلك مباشرة فاعادوا تقييم تجربتهم واولوياتهم وادخلوا تغييرات على ايديولوجيتهم، كل ذلك لمنع قيام الثورات التي ادت لتغيرات جوهرية في دول العالم الثالث، سواء أمريكا اللاتينية ام اوروبا الشرقية. وجاءت ثورات الربيع العربي محرجة للسياسة الغربية لتصبح اكثر اصرارا على منع تغير الاوضاع الراهنة في الدول العربية التي تسير في الفلك الغربي.
مشروع الثورة كاداة للتغيير اصيب بانتكاسات كبيرة في الاربعين عاما الماضية. فما عاد الغربيون يقبلون بها طريقا للتغيير خصوصا بعد ان اصبح الداعون لها «أعداء» للغرب مثل فيدل كاسترو وتشي غيفارا والاتحاد السوفياتي سابقا، وإيران لاحقا. ويوازي ذلك غياب الارادة الغربية في التمسك بالمشروع السياسي ذي الدعامتين: حقوق الانسان والديمقراطية. وبشكل تدريجي اصبح الغرب اكثر ميلا لدعم الانظمة الصديقة وان كان ذلك على حساب تلك الدعامتين. ولذلك لم يجد الغربيون غضاضة في الاحجام عن دعم مشاريع التحول الديمقراطي، حتى لو تطلب ذلك دعم الانظمة الموغلة في الاستبداد السياسي وانتهاك حقوق الانسان. فلم يكن هناك حماس غربي ابدا لثورات الخبز التي اندلعت في الثمانينات في مصر وتونس والمغرب. ودعم الغربيون نظام العسكر في الجزائر عندما انقلب على المشروع الديمقراطي الذي كان في بداياته، بعد الفوز الساحق الذي حققته الجبهة الاسلامية للانقاذ في اول انتخابات برلمانية في العام 1992. وكان من النتائج التي ترتبت على ذلك الانقلاب مقتل اكثر من مائتي ألف من الجزائريين في السنوات العشر اللاحقة. هنا لم يكن التغيير ناجما عن ثورة بل عن توسع القاعدة الشعبية للحركة الاسلامية الامر الذي وفر لها نجاحا عبر صناديق الاقتراع، ورفض حكم الجنرالات الذي تميز بالقمع والاستبداد بشكل مفرط. الغربيون لم يقدموا على اية مبادرة لاحتواء ممارسات العسكريين، كما لم يسمحوا لصناديق الاقتراع ان تقرر هوية النظام او شكله. ولان لدى الغربيين حساسية مفرطة ازاء الثورة كأداة للتغيير، تقلصت طرق التغيير تماما، فاصبح الباب مفتوحا على مصراعيه لمشاريع العنف والعنف المضاد. وشهدت مرحلة التسعينيات بداية ظاهرة الارهاب التي بدأت محدودة ثم توسعت لتنتشر في كافة اصقاع العالم ولتتحدى «الآخر» أيا كان شكله او هويته او دينه او مذهبه. الغرب مهد لبروز هذه الظاهرة، وربما اعتبرها خيارا افضل من التغيير الثوري لعلمه انها لن تتحول إلى مشروع سياسي بديل للمشروع الغربي.
وتجسد النفاق الغربي ازاء مشروع التحول الديمقراطي الذي كان شعاره المفضل في حقبة الحرب الباردة، بموقفه المتخاذل إزاء ثورات الربيع العربي. لقد فوجئ باندلاع تلك الثورات التي كانت تنتشر كالنار في الهشيم في مثل هذه الايام قبل سبعة اعوام. في بداية الامر اظهر شيئا من التعاطف مع تلك الثورات، ولكن سرعان ما انحاز إلى قوى الثورة المضادة ورفع الغطاء عن الجماهير التي كانت حاضرة في الميادين بجرأة وحماس وإصرار على التغيير وتحقيق التحول الديمقراطي بأساليب سلمية. وعاد الغرب إلى طبيعته الرافضة لاي تغيير بأسلوب الثورة التي يعتبرها «سلاحا» استخدمه المحور الاشتراكي ضد الانظمة الاستبدادية الموالية للغرب. وقد احتفى البريطانيون الاسبوع الماضي بمرور مائة عام على «الثورة النسائية» التي طالبت باعطاء المرأة حقوقها السياسية وفي مقدمتها حق التصويت الانتخابي. ومن الصعب وصف تلك الحركة بـ «الثورة» بل كانت حركة متواصلة تهدف لتحقيق هدف محدود بمشاركة قطاعات نسائية واسعة. وقد فقد بعضهن حياته في المواجهات مع قوات الامن التي كانت تقوم بتفريق تجمعاتهن. ونجحت تلك الحركة النسائية في تحقيق هدفها الاساسي، واصبح للمرأة البريطانية حق المشاركة في الممارسة الانتخابية. وما تزال شوارع العواصم الغربية تكتظ بالاحتجاجات والتظاهرات التي ينظمها النشطاء للمطالبة ببعض الحقوق المدنية والسياسية، ولكن لا يمكن تصنيفها ضمن الثورات الهادفة للتغيير الشامل.
النظام الإيراني الحالي يعلم انه مدين للثورة الكبرى التي قادها الامام الخميني عندما انطلقت بدايتها في 1963 احتجاجا على صدور قرار عن البرلمان الإيراني يسمح باستثناء الأمريكيين الذين يخدمون في إيران من القضاء الإيراني. وتمثلت حلقتها الاخيرة بالثورة التي استمرت اكثر من عام حتى اسقطت نظام الشاه 1979. ولذلك يشعر هذا النظام بمسؤولية خاصة تفرض عليه دعم الحركات الثورية المطالبة بالتغيير. وها هي الولايات المتحدة وبريطانيا تتدخلان عسكريا في سوريا وتدعمان بعض المجموعات التي تقاتل ضد النظام السوري تارة، وضد بعضها البعض تارة اخرى. وفي الاسبوع الماضي شنت القوات الأمريكية هجوما على مجموعات داعمة للنظام كانت تستهدف مجموعات كردية انفصالية ادى لقتل اكثر من مائة شخص. أليس ذلك تدخلا مباشرا في شؤون بلد آخر؟ ذلك التدخل ليس دعما لمشروع ثوري بل لعمل عسكري متواصل منذ ستة اعوام، ادى لقتل مئات الآلاف من السوريين والمقاتلين الاجانب. هذا الدعم الأمريكي الظاهري انما يهدف لاحداث توازن استراتيجي مع الروس الذين يدعمون النظام السوري بتدخل عسكري مواز. غير ان القوى الواقفة على جانبي الصراع تدرك استحالة حسم الازمة الا ضمن مشروع سياسي يتجسد بحوارات مشتركة بين كافة الفرقاء. اما مشروع التغيير الثوري في سوريا فقد وجهت له ضربات قاتلة سواء بتحويله إلى العنف ام بتدخل القوى الاجنبية لدعمه او محاربته، او بخسائر المشاركين فيه المادية والبشرية. اما السعودية فتخوض حربا مدمرة على اليمن، بمشاركة الامارات والبحرين ودول اخرى، وهو ليس تدخلا فحسب بل احتلال عسكري مقيت.
ان مشروع الثورة الهادف لتحقيق تغير سياسي جوهري في منظومة الحكم ليس ظاهرة جديدة، بل انه متواصل عبر الزمان والمكان، ويهدف عادة لانهاء النظام السياسي الاستبدادي واستبداله بنظام حكم آخر يسمح بقدر من الحرية والمساواة والعدل بين المواطنين.
٭ كاتب بحريني
د. سعيد الشهابي