«القمم العالية»: جماليات الشعر العالمي لعشرة شعراء

حجم الخط
0

 

منذ بدء ظهور الشعر العربي الحديث في أوائل الخمسينيات، وحتى لحظتنا الراهنة، هناك سيل لا يتوقف في ترجمة الشعر العالمي، بدأه رواد الشعر الحديث، ليقدموا للقارئ وللمتذوق العربيين الفن الشعري المكتوب في المدن العالمية، سابرين عبر تلك الترجمات، جماليات اللغة التعبيرية للشعر الأجنبي، وكاشفين في الوقت عينه، أخيلة وتراكيب وأشكال البنى الشعرية في أفق هذا الشعر، الذي راح يتطوَّر على نحو لافت، على يد حفنة من الخلاقين في الشعر العالمي، مما أدى إلى العدوى الحداثية التي وصلت إلينا في مطالع القرن المنصرم، وبهذا انبرى السياب الرائد الأبرز من رواد الشعر الحديث، إلى ترجمة من أحبَّ واقترب من ذائقته الفنية من الشعراء العالميين، فترجمهم في كتاب صدر في بيروت حينها، إبّان فترة انشغل بها النقد والشعراء والباحثون بتفاصيل الحداثة الشعرية، فلم يُثرْ هذا الكتاب الذي ضمَّ نخبة من أبرز شعراء الحداثة العالميين، وقت صدوره، ردود أفعال أو إقبالا عليه، نتيجة تقدُّم الشعر بعد ثورة الرواد، عَقِبَ عقد من الزمان من ظهور التجربة الجديدة التي مثلتها الحداثة الثانية، بتحرير الشعر من نسق العروض، وما رافقه من قيود تاريخية، وقد تجسَّد ذلك فيما يعرف الآن بقصيدة النثر، فصاحبتها ثورة في حركة الترجمة الشعرية، فترجم يوسف الخال وأدونيس وعصام محفوظ وأنسي الحاج وسركون بولص، وغيرهم ممن رافق مسيرة مجلة «شعر» اللبنانية، الكثير من الشعر الأجنبي، متمثلاً في أبرز رموزه الشعرية .
في ظل هذا الفوران الترجمي، تقدم الشعر العربي، وأصبح عالمياً، كونه يملك تاريخاً طويلاً، وثروة ايقاعية وموسيقية ونغمية خاصة به، وحتى اللحظة الراهنة وبعد مرور عقود من تواصل الفن الشعري، تساوقت حركة الترجمة مع الشعر العربي، لترفده بالجديد دائماً، مسلطة الضوء على الإصدارات الحديثة في هذا الحقل الجمالي والفني، الذي بدأ ينحسر مع فورة الرواية نوعاً ما، لكنه الآن وبعد خمود هذه الفورة الروائية، عاد الشعر من جديد ليحتل مكانه الأول، بين الفنون التعبيرية، وإن ببطء وتلكؤ وفوضى في عملية الإصدار الشعري .
جديدنا في هذا المجال، هو صدور ترجمة شعرية للشاعر العراقي الستيني، ياسين طه حافظ، لعشرة شعراء عالميين، رافقتها مقدمة وجيزة جداً، لكن الذي أنقذ هذه المقدمة هو تقديم المترجم لكل شاعر على حدة باختصار وافٍ، يفي ويحيط بحياة ومنجزات الشاعر في الوقت ذاته. وهؤلاء الشعراء هم على التوالي: البريطاني من أصول كاريبية ديريك والكوت، الأرجنتيني خورخه لويس بورخيس، الإسكندراني من أصل يوناني قسطنطين كفافي، الإيطالي يوجين مونتالي، الصيني آي كوائنغ، الروسي، الأمريكي جوزيف برودسكي، الجيكي ياروسلاف سفيرت، الجيكي فلاديمير هولان، البولونية فيسلافا زيمبورسكا، البولوني جيسلاف ميلوش .
على أن الملاحظ في هذه الترجمة، وحسب اطلاعي، أن جميع الشعراء باستثناء الصيني كوائنغ، قد تمّت ترجمتهم في السابق، وثمة من ترجم بترجمات مختلفة ومتنوعة، فالشاعر ديريك والكوت ترجم أكثر من مرة، كان آخرها ترجمة الشاعر العراقي الشاب غريب اسكندر، وبورخيس لدي في مكتبتي ترجمتان لأشعاره، وكذلك كافافي أكثر من ثلاث ترجمات، مونتالي ترجم في مصر قبل أكثر من عقدين، الروسي برودسكي ترجمه أكثر من واحد، بينهم العراقي برهان شاوي، سيفرت ثمة ترجمة مصرية وسورية له، فلاديمير هولان ترجمه في مختارات عام 1981 الشاعر سعدي يوسف، وصدرت حينها في بيروت عن دار ابن رشد، بينما المترجم ياسين طه حافظ يقول إنَّه يُترجم للعربية لأول مرة، البولونية زيمبورسكا، التي ترجمها في مختارات قبل عقدين الشاعر العراقي هاتف الجنابي الذي يعيش في بولونيا منذ أربعين عاماً، تحت اسم فيسوافا شيمبورسكا، وليس فيسلافا زيمبورسكا، وكذلك مواطنها ميلوش، فقد ترجمه الجنابي في مختارات قبل عقدين من الزمان تحت اسم جيسواف ميووش وليس جيسلاف ميلوش، ويرد في سياق حديثه، أي حافظ، عن شيمبورسكا اسم الشاعر البولوني المعروف نادوس روزفيكس، والصحيح هو تادئوس روجيه فيتش، حسب الجنابي، الذي ترجمه أيضاً في مختارات، وكذلك الشاعر البولندي الشهير هربرت زيبنيغ يغدو بترجمة حافظ، زبجبنيو.
إلى ذلك ثمة إشكالية في الترجمة من ناحية تسمية الأعلام لدى حافظ، فمغواير يصبح مكاير وهو اسم بريطاني، والدليل اسم الشاعرة الصديقة التي رحلت في لندن قبل عامين، ساره مغواير. اما القاص الروسي العظيم غوغول المشهور بمعطفه، فيمسي بترجمة حافظ، كوكول، هذا ناهيك عن أسماء المدن والقصبات والعواصم، فالأورغواي وبارغواي وغواتيمالا والتانغو تتحول بترجمة حافظ إلى اركواي وباركواي وكواتيمالا والتانكو، وثمة هنات أخرى، «فراكبوا الخيول» صحيحها راكبو الخيول، و»ارتدو» صحيحها «ارتدوا» و»تنفذ» صحيحها «تنفد» و»ألم تأتي» الصحيح هو «ألم تأتِ»، و»تمنحني دفءٌ «الصحيح «تمنحني دفئاً»، أمّا «هنّ» فلا يصح استخدامها لغير العاقل.
بيد أن ما مرّ من إشارات لا يقلل دون شك، من أهمية الكتاب ومن الجهد الفني والجمالي والصوغ الشاعري المبذول بين صفحاته.
يبدأ حافظ بالشاعر البريطاني من أصل كاريبي ديريك والكوت، فيترجم له ثماني قصائد، من قصيدة «المحرّر» نختار الآتي:
«في بار
عند التقاطع، قبل دخولك إلى فالنسيا اوكرانده
وآثار القلعة، في آخر البار، باردة هناك ومظلمة
مثل سجن، حيث يتراقص شعاع شمس على زجاجات الروم،
مثل ذبابة نارية في كثافة الكاكاو،
مثل مصباح عسكري يبحث عن إرهابي».
وعن بورخيس القاص وصاحب الخيال المثير والثري، والذي بدأ حياته شاعرا مثل الكثير من الروائيين والساردين وكتاب القصة في العالم، فعن الشعر يقول بورخيس: «أظن أن الشعر يختلف عن النثر، فالقطعة التي تقرأ وهي موجهة إلى العقل هي نثر، والقطعة التي تقرأ موجهة إلى المخيلة ينبغي أن تكون شعراً» .
ومن القِطع الموجهة للخيال «قصيدة حدسية» نختار التالي :
« الرصاصات جلدت الهواء عصر هذا اليوم،
الريح عالية، تهبّ مملوءة حجراً
وبينما النهار وهذه المعركة المضطربة،
يجهدان إلى الانتهاء، تغلب رعاة البقر،
النصر كان لهم، للبرابرة» .
وعبر ذكر البرابرة، نصل إلى الإسكندراني كفافي، هذا الشاعر الأسطورة، قصائده التي تتردَّد في أذهان الشعراء حيثما كانوا، ما أجملها، وما أقربها إلى الحياة والروح والمعنى الموغل في الوجود الإنساني. في إحدى القصائد عن الملك الاسطوري ديمتريوس يقول :
« وهكذا دخل خيمته
وغطى وجهه بعباءة سوداء
بدلاً من عباءته الملكية الثمينة التي صار لا يرتديها،
لم يعد يشبه ملكاً، بل مثل ممثل عادي
انسلَّ مبتعداً «
أما الشاعر الإيطالي مونتالي الذي اتسم شعره بالغموض وضبابية الاستعارة وقوته أيضاً، فهو أحد من نال نوبل على شعره السبيك والمنحوت بأناة، وهنا سأختار بيتاً سلساً ويتميز بالوضوح :
« بالنسبة لي أفضل الشوارع التي تنتهي
في مهابط عشبية حيث فتى
يلتقط البندق نصف الجاف،
وينال أحياناً رشفة من جعة» .
بينما نجد أجمل ما ترجم في الكتاب هو قصيدة جوزيف برودسكي بعد رحيل الشاعر الإنكليزي جون دن «مرثية إلى جون دن»، وهي إحدى أروع القصائد العالمية التي كتبها برودسكي، هذا الشاعر الروسي الذي لاقى ما لاقى على يد «كي جي بي» جهاز المخابرات المعروف في الأزمنة السوفييتية السابقة. وهي قصيدة كتبت بتفوق عال، وبراعة نادرة، وهي في ترجمة حافظ حافظت على روح النص الأصلي وأعطته رونقاً رائعاً ومعبّراً ومثالياً في تقريب وهج القصيدة إلى القارئ العربي، ولقد أطلع كاتب هذه السطور على ترجمات عدة، ومن ضمنها النص الإنكليزي للقصيدة التي أطلقت برودسكي في سماء العالمية، ومنها نختار الآتي :
« جون دن يغرق في النوم، كلّ الأشياء جواره تنام أيضاً،
الجدران، السرير والأرض كلها تنام، المنضدة، الصور، والأفرشة والمشاجب والمسامير، حقائب الثياب، الدواليبُ، الشموعُ، الستائرُ كلّها تنام، المغسلة، القنينة والأقداحُ، الخبزُ، سكين قطع الخبز، الخزفُ، الكريستالُ، الدوارقُ والقدورُ، شراشف الأسرة، مصباح النوم، ساعة الحائط، المرآة، السلم، الأبوابُ، الليلُ في كل مكان، في شراشف الأسرة، في الورق على المكتب، في الكلمات، في كل حديث عقيم، في الجذوع وملاقط النار، في الفحم المسود، في المواقد الميتة، في كل شيء، في الثياب الداخلية، في الجزم، في الجوارب، الأطياف، الظلال وراء المرآة، في ظهور الكراسي وحوض الغسيل والصليب، في النسيج القطني والمكنسة جانب الباب والنعال، كل هذه الأشياء غرقت في النوم، نعم كل الأشياء تنام» .
ثمة شعراء آخرون ضمهم الكتاب، وهم شعراء كبار وعالميون وحائزو نوبل، كشيمبورسكا وميووش، بالإضافة إلى الجيكيين سيفرت وهولان، وهما من الشعراء المؤثرين والفاعلين في تجديد القصيدة الأوروبية وتحديثها .

«القمم العالية»:
ترجمة وتقديم ياسين طه حافظ
دار المدى، بيروت 2016
319 صفحة.

«القمم العالية»: جماليات الشعر العالمي لعشرة شعراء

هاشم شفيق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية