هناك بشكل عام، نوعان من البشر في ما يخص علاقتهم مع السلطة بكل معانيها، لا سيما تلك التي تمس العدالة بينهم بأبسط مفاهيمها الحاضرة في لغاتهم. هناك نوع أميل إلى المسايَرة، وآخر إلى المعاندة، وبينهما طبقات كثيرة. في هذه الطبقات تحديداً يكمن الخلل، ويقع الخلط والتناقض والانفصام؛ أي حين تُعانَد سلطة ما من جهة، وتُسايَر أخرى ليست أقل ظلماً منها من جهة أخرى، وغالباً ما يكون معنى العدالة عند المعانِد، ذلك الذي يقول ‘لا’ في وجه ظلم ما، معنى مشوهاً وناقصاً بصورة فادحة. إن التشوه والانفصام قد يصل المشاعر والأحاسيس، لذا قد نجد مشاهدَ للظلم تسيّل دموعاً سرعان ما تجف أمام مشهد مماثل أبطاله آخرون، بل قد نجد الضحية بعد انتزاعها حقها قد تحولت إلى جلاد أشد ظلماً وفتكاً من جلادها السابق، مبررة ذلك أمام نفسها والآخرين بسهولة فجة (من الثأر والانتقام إلى الأمن والأمان)؛ سهولة تفضح عمى أو تعامياً غريباً عن قلب الأدوار في المسرحية. أما العدالة، فسريعاً ما تصبح محض شعار؛ محض كلمة تُستخدم في خطاب لا يرمي إلى شيء سوى انتزاع السلطة في المشهد الأخير. من الممكن دوماً إرجاع التشوه في مسائل أخلاقية، كالعدالة إلى ‘طبيعة’ ما بشرية تميل إلى الغزائزية والأنانية والازدواجية والانحياز والعوَر وخداع الذات، وكل الأمور التي يفترض أن تُهذب بالتعليم والثقافة. وهكذا يمكن إرجاع التشوه الأخلاقي الصارخ في العالم العربي، شعوباً وسلطات، إلى انحدار فكري ومعرفي خلّفه الاستعمار والاستبداد والتراجع الحضاري. على أن ربط الأخلاق بمستوى فكري معين، بالأخص في لعبة السلطة، قد لا يبدو دقيقاً تماماً؛ فالكثير من الأقوال والأفعال التي لا تشي بالحد الأدنى من الإحساس بمعنى العدالة تصدر عن مسؤولين وحكام هم من حملة أعلى الشهادات ولا ينقصهم أبداً الفكر أو الذكاء. وهكذا، بينما يكون التشوه في الفكرة والسلوك سببه جهل وغباء مطبق عند البعض فَشِل التعليم في علاجه (بل أحياناً في بلادنا يفاقمه)؛ يكون سببه أولوية السلطة عند آخرين فيعمون أو يتعامون عن جهة أخلاقية تهدد نفوذهم؛ وأحياناً يجتمع الأمران معاً، والنتيجة عندئذ مضحكة مبكية (جورج بوش الابن مثلاً). والأمثلة في السياق العربي على اجتماع الغباء، رغم الشهادات بشهوة السلطة معروفة، وأصبحت مؤخراً مَعِيناً للبرامج الساخرة الرامية لا إلى التهريج فقط، بل إلى التأثير في الرأي العام (كبرنامج باسم يوسف)، في معركة بديهة وذكاء يُفضَح فيها الجهل والنفاق والانفصام. وربما تكون هذه البادرة وأهدافها مقدمة لفضح المزيد من هذه الظواهر (ظواهر السلطة الجاهلة والمنافقة أينما كانت) الممتدة من المحيط إلى الخليج. الجميع يذكر مثلاً تداول فيديو الحريري، حين كان رئيساً للوزراء وهو يقرأ باللغة العربية، رغم أن وضعه اللغوي ليس استثناء أبداً. أما في ما يخص النفاق والانفصام، فيكفي تذكر كم تشدقت (وما تزال) قيادات بموقفها المقاوم لأمريكا وإسرائيل، مقحمة في خطابها السياسي فلسطين والشعب الفلسطيني، الذي لم تفعل من أجله شيئاً، وإن فعلت فذلك محض ديكور أخلاقي أو رمية نرد في لعبة النفوذ لا أكثر، بينما تذبح شعبها بلا تبكيت ضمير لأن الضمير هذا مشوه حتى الصميم بفعل الجهل أو إدمان السلطة أو بسببهما معاً. على أن هناك في الطرف المقابل على مستوى القيادات من هو قادر (كحسن نصر الله مثلاً) على تحريك جماهير كثيرة، فصاحةً وحكمة وذكاء بل وصدقاً وأخلاقاً، لكن الأخيرة أثبتت طواعيتها لبعض التغيير والتبرير بحسب الصراع السياسي وألعاب النفوذ. الأمر ذاته قد ينطبق على جمال عبد الناصر الذي يرى فيه كثيرون نموذجاً يكاد يخلو من التشوه الأخلاقي، حد أن أصبح رمزاً للعدالة الاجتماعية بسبب الكثير مما حققه فعلاً للطبقات الكادحة من عدالة ومساواة، وهو للمفارقة لم يحتج لكي يدرك ذلك ثقافة واسعة وشهادات عليا. لكن النظرة ليست نفسها عند من قمعَهم فعلاً من الإخوان وسواهم كبعض المثقفين الذين انتقدوه بوضوح في زمانه (طه حسين ويوسف إدريس وغيرهما)، وعند من يرى في الشمولية وغياب التعددية السياسية خياراً سياسياً مشوهاً بعيداً تماماً عن معنى العدالة. على أن زهد عبد الناصر المادي وما أظهره من رغبة في التنحي في خطابه الشهير، أسهم عند كثيرين بلا شك في رسم صورة الراغب في العدالة غير المدمن على السلطة. ويبقى السؤال قائماً حول ما إذا كان هناك نموذج شبه مثالي فعلاً من حيث تطبيق العدالة، وحول إمكانية تحديد الفرق بين العدالة كغاية وبينها كوسيلة. لقد قرأت قبل سنوات مقالاً هنا في ‘القدس العربي’ رأى كاتبه أن التاريخ العربي الحديث لا يحفل على مستوى الحكام إلا باسم واحد تخلى عن السلطة في سبيل مبدأ أعلى، وهو شكري القوتلي الذي تنازل عن الحكم لعبد الناصر لصالح مشروع الوحدة. مع ذلك، فحقيقة أن دستور سورية عُدل في 1948 للسماح بانتخاب القوتلي لولاية ثانية، قد ينُظر إليه الآن كما قد يُنظر إلى بعض ما يجري في بعض دول أمريكا اللاتينية من توجه نحو استحواذ حزب أو فرد على السلطة بتعديل الدستور، باسم الحرب على الرأسمالية في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية. تلك ‘الجزئيات’ قد تبعد كثيراً أصحابها عن صورة مثالية لمعنى العدالة، كما يفهمها ويحس بها من تضرهم هذه ‘الجزئيات’ فيعدون أنفسهم مظلومين. أما المنتفعون فيلزمهم دوماً الكثير لتربية الضمير، سواء كانوا بيضاً استعبدوا السود؛ أو إقطاعيين استعبدوا الفلاحين؛ أو رجالاً يقمعون النساء؛ أو مستعمِرين أو حكاماً مستبدين. الحقيقة أن التاريخ يظهر بوضوح أن الضمير نادراً ما يُربى وحده في حضور المصلحة والانتفاع، وأن المظلوم وحده هو من يقف في وجه تشوه العدالة، إلى أن يصبح هو في موقع الحكم فتتبدل غالباً الأمور. في السياق الغربي يمثل أوباما مثلاً النوع الثاني في التقسيم السابق، أي الذي يقدم السلطة على العدالة رغم الذكاء والثقافة، بل رغم ما يعنيه لون بشرته في التاريخ. فصاحب أعلى الشهادات من هارفرد وكولومبيا تصرف يوماً على سجيته وتَبع إحساساً ما بالظلم، حين صب في تصريح متلفز جام غضبه على الشرطة التي اعتقلت عام 2009 أستاذاً أسود من جامعة هارفرد، إذ ظنته سارقاً بينما كان يحاول الدخول إلى بيته، وبعد أن رفض طلبَ الشرطي إبراز هويته. في ردة فعله الأولى اتهم أوباما الشرطي بالغباء وبالعنصرية، وذكّر بتاريخ الظلم الذي طالما عانى منه السود واللاتينيون الأمريكيون من قبل الشرطة. لكن بعد ذلك، وبدل أن يستجيب الشرطي لطلب الأستاذ بتقديم الاعتذار، وبعد أن تبين أن شعبية أوباما مهددة بسبب تعليقه المرتجل، قام بتوضيح ‘سوء استخدامه للكلمات’ قائلاً إن الشرطة ‘بالغت’ في ردة فعلها بقدر ما ‘بالغ’ الأستاذ أيضاً في ردة فعله، ثم دعا الشرطي والأستاذ إلى ‘قمة’ في البيت الأبيض لشرب البيرة، وانتشرت الصور الجميلة، وانتهى الأمر. المهم أن أوباما حافظ على شعبيته وسلطته، أما الحق والعدالة، فهي أمور بسيطة حُلت بأن أهدى الشرطي للبروفيسور قيودَ اليدين التي استخدمها في اعتقاله. في سياق مماثل (لكن مع بعض الغباء) هناك تصريح ميركل المعروف في 2008 (وهي تحمل درجة الدكتوراه في كيمياء الكم ومعروفة ببراعتها في الرياضيات) عن أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية في ألمانيا مرتبط بكون الهنود أصبحوا يأكلون وجبتين في اليوم بدل واحدة، منذرة بالكارثة الاقتصادية التي سوف تنزل ببلادها لو أصبح كل الصينيين يشربون كأساً من الحليب كل يوم. لا تهم العدالة من جهة هؤلاء: فالمهم شعبها والأوروبيون والأمريكان وقبلهم ضحايا الهولوكوست وكل من يساهم رضاهم في إعادة انتخابها. عند دخول السلطة لاعباً فاعلاً أمام الأخلاق والضمير، غالباً ما تخسر الأخيرة. ولقد نبه مرة محمود درويش إلى أن موقفه من فلسطين لا يمكن له أن يكتسب مصداقية كاملة، لأنه في الجانب الطروادي لا الإغريقي من الصراع، بل وسأل نفسه ما إذا كان سيحتفظ بنفس الموقف لو لم يكن الضحية. باختصار عند السلطة أو في الطريق إليها يتكشف مدى الصدق والثبات في المفاهيم والمشاعر المتصلة بالعدالة ومرادفاتها الأخلاقية، وغالباً يكون الذي يتكشف نفاق وتشوه كبيران. لذلك لا يمكن القطع بأن حتى الديمقراطية الغربية كما هي قائمة الآن ستنتج دائماً وبالضرورة أفضل الممكن من حيث تحقيق العدالة وحقوق الإنسان، رغم أنها متقدمة عن غيرها من أنظمة الحكم في العالم بمراحل كبيرة. لقد كان ساركوزي الذي عانى ‘المهاجرون’ كثيراً في سنوات حكمه منتخباً ديمقراطياً في بلد أنتج يوماً أعظم الثورات في التاريخ. أما ما أراد إظهاره من تعيين رشيدة داتي المغربية الأصل، متحدثة باسم حملته، ثم وزيرة للعدل في حكومته فلم يكن أكثر من ديكور يوهم بشيء من التغيير نحو العدالة بالغ الزيف في حقيقته. أمريكا، ألمانيا، وفرنسا لا داعي ربما للابتعاد جغرافياً في الحديث عن أمثلة صارخة في التشوه والنفاق، فالأقربون أولى بالوشي والانتقاد، يكفي أن من الأنظمة العربية من تتوكل بحماية المقدسات في فلسطين، في الوقت الذي يعيش في ظلها كثير ممن أصولهم فلسطينية متساوين مع أقرانهم المواطنين في الواجبات مختلفين في الحقوق، ومهددين بسحب جنسياتهم بطريقة لا تكاد تحدث في أي دولة في العالم، وكأن الحجر أهم من البشر على حد تعبير درويش. وكما مر حول الضمير، فإن الأصوات المنددة بالحال هي غالباً أصوات الضحايا فقط، لا المنتفعين الذي يجدون مبررات سريعة للدفاع عن اللاعدالة بمنطـــق آخر مشوه للعدالة، يجتر قصة الوطن البديل والحفاظ على حق الفلسطينيين التاريخي في بلادهم إلى آخر ذلك من استغباء فاجر لما تبقى من العقول، يكون فيه ظلم المواطن وسيلة عبقرية لكسر شوكة إسرائيل وتحقيق العدالة للفلسطينيين. كم من برنامج ساخر يحتاج كل قطر عربي لفضح تشوهات أخلاقية تكفي لاستمرار برامج كهذه لسنوات وعقود. إن العدالة كمفهوم لها بالتأكيد تاريخها الفكري المعقد في الفلسفة والعلوم الاجتماعية التي ما تزال تحاول فهمها وفهم علاقتها بفكرة المساواة وبحقيقة السلطة. وفي المناظرة المعروفة بين تشومسكي وفوكو، حاول الأول ترجيح فكرة أن العدالة كإحساس له وجوده في اللغات، هي جزء من الطبيعة البشرية الكونية، بينما حاول الثاني الدفاع عن فكرة أنها محض منتَج تاريخي اجتماعي قد لا يوجد حتى كمفهوم في غياب مجتمع طبقي. ورغم الإغراء في اعتقاد تشومسكي وقدرته على تفسير معظم حركات التحرر والتمرد عبر التاريخ، التي نشهد بعضاً منها الآن (والتي لا يفهمها فوكو بمعزل عن رغبة كل ثورة بانتزاع السلطة لا بتطبيق مفهوم مثالي مطلق للعدالة)، إلا أن رأي فوكو يفسر الجانب الآخر القبيح: جانب التشوه والانفصام. لقد انقسم الفلاسفة قبل (ما بعد الحداثة) بين من رأى كمعظم الإغريق والقروسطيين والعقلانيين، أن العقل هو الذي يدفع الإنسان إلى فعل عادل متجاوزاً بذلك رغباته ونزعاته الأنانية، وبين من رأوا كالإمبيريقيين أن العدالة مسألة شعورية ترتكز على قدرة الإنسان على الإحساس بالتعاطف تجاه الآخرين، وأن تلك الأحاسيس هي التي تخلق مفاهيم الفضيلة والصواب الأخلاقي. لكن بالنظر إلى الارتباط الوثيق بين الفكرة والإحساس بغض النظر عن مسألة الأسبقية، فإن العدالة كما باقي القضايا الأخلاقية لا يمكن لها أن تنفك، فهماً وإحساساً، عن المعرفة والثقافة، وإن لم تنجح الأخيرة دائماً في تهذيبها (أو جعلها تصمد أمام شهوة السلطة).
شكرا لك يا سيدتي انه مقال رائع
مقال رائع يا دكتورة..وان اختلف معك في المدح المبطن لبعض الشخصيات التي ذكرت في المقال الا انني احترم اسلوبك الانساني الراقي في طرح هكذا مواضيع
ذلك الشبل من ذاك الأسد. تحية لك وللدكتور خالد الكركي
رائعه د.بلقيس مقالك عالجرح النازف ليل نهار.تحبه لك .