عمان- «القدس العربي»: فجأة تختفي الحساسيات وتتقارب الاتجاهات وتتسارع الاتصالات… هذا تحديدا ما حصل خلال خمسة أيام فقط على صعيد العلاقة الأردنية التركية، التي عايشت مشاهد مؤثرة وعميقة وغير مسبوقة على مستوى التنسيق الثنائي ورفع منسوب الاتصال خلال أيام قليلة.
يسأل الأردنيون ــ الذين لا تتيح لهم وظيفتهم الرسمية الاطلاع على ما يجري ــ أنفسهم وبعضهم عن خلفية وأسرار الاهتمام التركي الكبير في الأردن حيث زارها في أقل من خمسة أيام وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو ثم رئيس الأركان خلوصي أكار.
ثمة في الأفق ما يدفع للاعتقاد أن تركيا تتجه نحو علاقات استراتيجية أوسع مع الأردنيين. حصل ذلك وسط انطباع خاص في الأوساط السياسية بأن الأمر من جراء «غمزة أمريكية» لها علاقة بجولة وزير الخارجية ريكس تيلرسون الأخيرة التي توقف فيها على محطة عمّان وأنقرة بالتوازي.
وصل الأمر بالحكومة التركية الى حد الإقدام على خطوة غير علنية ومهمة جدًا قد لا تخص الأردن مباشرة لكنها تعنيه بشكل كبير. تمثلت في تقليص مفاجئ للغطاء التركي الذي تم توفيره سابقًا لاجتماعات فلسطينية لها علاقة مرة بمؤتمر الشتات الفلسطيني الذي انعقد في اسطنبول قبل أقل من عام ثم لها علاقة مرات بتلك الاجتماعات التي يجريها فلسطينيون تحت عنوان إعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية.
أنقرة قررت فجأة تقليص الغطاء للمساحة التي وفرتها في هذا السياق حيث تم إبلاغ المنظمين المحتملين بالاعتذار عن استضافة المزيد من الاجتماعات تحت لافتة الشتات الفلسطيني أو إعادة انتاج مؤسسات منظمة التحرير وهياكلها. ما الذي يعنيه ذلك؟ قد لا تكون ثمة علاقة مباشرة بين الأردن وهذا الأمر لأن السلطة الفلسطينية هي المعنية بالمقام الأول.
تنمو بصخب
لكن يمكن ملاحظة أن الاتصالات التركية مع الجانب الرسمي في الأردن والسلطة الفلسطينية تنمو بصخب حاليًا في الوقت الذي يعيد فيه بعض الأتراك حساباتهم بخصوص إنتاجية وجدوى الاسترسال في احتضان جماعة الإخوان المسلمين وتعبيراتها مثل حركة حماس على حساب نظام رسمي عربي يتحكم بالأمور. ولا يمكن القول إن أنقرة في طريقها للتخلي طبعًا عن الإخوان المسلمين او حركات الإسلام السياسي العربية التي احتضنتها منذ انطلق الربـيع الـعربي.
لكن يبدو من الواضح أن المرجعية التركية أكثر ميلا للاستثمار اليوم في دول وأنظمة مجاورة لا يوجد أصلا ما يبرر الخصومة والعداء معها.
تلك بكل حال وصفة قديمة للاعب من وزن أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء الأسبق المرشح للعودة اليوم في إطار تقارب ملموس جرى بينه وبين الرئيس رجب طيب أردوغان.
نظرية أوغلو الشهيرة بعنوان «خلافات صفر مع الجوار» تبدو صاعدة مجددا خصوصا عند مراقبة الأداء التركي السياسي اللامع والبارز في إقامة حوارات منتجة وفعالة مع دول أوروبية مهمة مثل ألمانيا وفرنسا او في سياق محاولة احتواء التجاذب والصراع القديم مع اليونان.
وحتى في سياق التفاهم الذي يبدو أنه استراتيجي وفعال مع الحكومة العراقية تحت بند محاربة الإرهاب الكردي مع السني بالتوازي. وفي مثل هذه التراتبية السياسية للبوصلة الدبلوماسية التركية يمكن رصد التفاهمات الاستراتيجية مع إيران.
نمو العلاقات
الأهم أن نمو العلاقات مع الأردن تحديداً والذي تحول الى ساحة مفتوحة الاحتمالات إقليمياً تسلل بثبات مؤخراً وخلال أيام قليلة وسط هذا الترتيب الإقليمي التركي المرصود والمسيَّس. ويكتشف الرأي العام الأردني مثلا فجأة وجود ضريح للشهداء الأتراك في مدينة السلط يزوره رئيس الأركان التركي خلوصي أكار.
ويكتشف الخبراء فجأة أن الاختلاط والاحتكاك مسموح بين رموز المؤسسة العسكرية التركية ورموز المجتمع الأهلي في مدينة السلط حيث قام رئيس الأركان التركي بتكريم رئيس بلدية المدينة.
يبدو أن الحساسيات التي كانت متعلقة أيضاً بما سمي سابقاً بإعادة إعمار الأوقاف العثمانية في الأردن في طريقها للزوال او التفاوض. ويبدو أن الأردن يتخلص فجأة أيضاً من حساباته المعقدة المترددة في توقيع اتفاق تبادل تجاري وتفعيل اتفاق سابق كان جامدا للتعاون في مجال النقل البحري مع تركيا. الرجل الثالث لحزب التقدم والعدالة والمختص بالأمن والملف العربي عموما إسماعيل إشلر يزور عمّان من دون ضـجيج.
ثم يحضر برفقة ضجيج إعلامي صاخب وزير الخارجية مولود أوغلو ثم يقابل رئيس الأركان خلوصي أكار الملك عبد الله الثاني ويجري مباحثات لم تعرف طبيعتها مع المؤسسة العسكرية الأردنية قد تتضمن لاحقا تفعيل نحو 20 اتفاقية عسكرية موقعة سابقا ولم تنشط مع القوات المسلحة بين البلدين.
يقف الوزير أوغلو وسط حرم السفارة التركية في عمّان ويلتقي رموز الجالية التركية فيبلغهم أن الرئيس أردوغان سيزور الأردن مجددا ويبلغهم بما هو أهم عندما يعبر عن سعادته لأن المزيد من الشباب الأتراك يتجهون لتعلم اللغة العربية في المؤسسات الأردنية حصرياً. يستمر الأتراك في امتداح الخطوة الرمزية المهمة التي اتخذت قبل عامين بإغلاق مدرسة عملاقة في عمان كانت تديرها وتملكها جماعة غولن. وتستمر المجاملة بين البلدين بصورة أعمق قليلا وسط شكوك بأن تراجع تركيا عن استضافة اجتماعات لها علاقة بهياكل منظمة التحرير الفلسطينية وبالشتات الفلسطيني خطوة قد تكون مبرمجة أيضا وفقا لمقياس همسة أردنية موازية لتلك الهمسة الهادفة التي نتج عنها تبنٍ غير مسبوق للوزير أوغلو للرواية الأردنية لملف القدس أثناء الاشتباك اللفظي الشهير مع أحمد أبو الغيط ومؤسسة الجامعة العربية.
يحصل كل ذلك لسبب له علاقة بالتأكيد أولًا بمستوى الانفتاح المفاجئ في القرار الأردني على أنماط سياسية واتصالية جديدة تحت عنوان التخلص من مخاوف جذب الاستثمار. والتأكيد ثانياً على أن ثمة هندسة جديدة للتحالفات والاتصالات تترقب حصول شيء ما ضخم ألمح العاهل الاردني قبل نحو شهرين وفي منزل المتقاعد العسكري ثلاج ذيابات الى أنه قد يحصل في شهر آذار المقبل وعلى مستوى التحول الإقليمي.
يمكن قراءة مثل هذا الانفتاح التركي الاردني شبه المفاجىء على انه استراتيجي في مجال الاستثمار التركي في المملكة وبما يخص مكافحة الارهاب، وانه لا يعدو كونه تكتيكيا في المجالين السياسي والعسكري.