المسودة من الورقي إلى الرقمي

حجم الخط
3

تحضر ثنائية الذاكرة والنسيان عند الوعي بالكتابة باعتبارها فعلا تاريخيا، يتحقق ضمن سياق عام وخاص. كل كتابة لها ذاكرة. ومن الذاكرة نقرأ النسيان. تصبح الذاكرة مرجعا للنسيان، ويتحول النسيان إلى مؤشر على علاقة الكتابة بالذاكرة. نستحضر هنا قول الكاتب المغربي عبد الفتاح كليطو في كتابه «الكتابة والتناسخ مفهوم المؤلف في الثقافة العربية»: «الشاعر هو، قبل كل شيء، مُنقب في الآثار التي طواها النسيان أو كاد. وعليه أن يصارع النسيان، ضد هذه الطلول التي تكسو الديار. ومن حسن الحظ أن السيول جلت الأرض وأظهرت ما كان مستورا».
إن الصراع بين الذاكرة والنسيان يبدأ أولا في الطبيعة، «الآثار التي طواها النسيان» ، ثم يتحول إلى المؤلف الذي عليه أن يُنقب في آثار الآخرين، و« يرسم رسما فوق آخر، ويكتب كتابة فوق أخرى. الكتابة الجديدة تخط فوق الأخرى التي تكاد تمحي». كل كتابة تُصبح طبقات تتشكل من مرئي يبدو جليا أمام القارئ، ولا مرئي، تتحرك القراءة باتجاهه من أجل إدراك ثنائية الذاكرة والنسيان في الكتابة. كما طورت نظريات النص النقاش المعرفي حول هذه الثنائية، خاصة مع مفهوم التناص والحوارية، وتداخل المعارف وغير ذلك من التصورات التي تجعل للنص والكتابة ذاكرة قبلية (نص، نصوص، كتاب، فضاء، أزمنة، أسطورة).
إذا كانت علاقة الذاكرة ـ النسيان قيمة معرفية تُرافق فعل التأليف، فإن شكلا آخر من هذه العلاقة يحضر باعتباره ذاكرة الكتابة. يتعلق الأمر بالمسودة، أو الكتابة ما قبل الكتابة النهائية، أو بتعبير آخر، حالة تشكل ونمو وتطور الكتابة. لكل كتابة مسودة، تشهد على أن الكتابة مرت من حالات ومحطات ومسارات قبل أن تصل إلى الصياغة النهائية. والمسودة خطابٌ يفشي سر الكتابة وهي تتكون، إنها ذاكرة الكتابة والكاتب، وحدها القادرة على جعل الكاتب يقف أمام حالته في الكتابة، أو الزمن الذي احتضن حالته، والقادرة على فضح ارتعاش الكتابة. إنها علامة واضحة على مخاض الفكرة وهي تولدُ، وارتباك الجملة وهي تُصارع من أجل التقاط الفكرة أو الحالة.
لا تستقر كتابة إلا بعد أن تعبُر من المسودة، وكل ترتيبٍ لكتابةٍ، يختبئ وراءه تاريخ التصويب والتصحيح والتعديل والترتيب. لا تهتم المسودة بتنظيف صفحاتها، أو العمل على إخفاء آثار الصراع مع اللغة والفكرة والتعبير، بل إن مظاهر التشطيب تُعبر عن كون الجملة أو الفقرة في الكتابِ، هي لاحقة لجملة أو فقرة سابقة، وأنها لم تكن لتكون كذلك، لولا زمن ما قبل النظام الأخير للكتابة، وكل حذفٍ ما تزال آثاره باقية على المسودة، يكشف سر صراع الأفكار واللغة زمن الكتابة. تتحول الخربشات إلى شاهدٍ على حالة الكتابة، وهي تحيا مولدها ونموها وتطورها. وتختلف علاقة الكتّاب بمسودات كتاباتهم. هناك من يحتفظ بها، كأنه يحتفظ بذاكرة زمنٍ ينفلت منه، عند صياغة الكتابة، أو يجعل من الاحتفاظ بها، إخلاصا لزمن المخاض والحالة. وهناك من يتخلص من المسودة، وكأنه يتحرر من حالةٍ عاشها بتعبٍ مع الفكرة أو اللغة، ولهذا يُفضل التحرر من ذاكرة الكتابة، أي من زمنها. وقد تكون الغالبية من الكتاب لا تنتبه إلى المسودة، عندما تكون منجذبة بالوضعية النهائية للكتابة، وقد صارت كتابا، وأصبح لها قراء، غير أن الغالبية ـ أيضا ـ عندما تلتقي بالمسودة صدفة، وهي تبحث عن ورقةٍ ضائعةٍ، أو بحثٍ أو كتابٍ، فإن المسودة تُعيد الكاتب إلى ذاكرة كتابه، وتفشي سر الحالة التي كان عليها، عندئذ، يغمره إحساس النوستالجية للحالة والمخاض، أو تمتلكه الرغبة في أن يتذكر زمن الكتابة، كما قد تدفعه المسودة إلى الوعي بعلاقته بالكتابة. وعليه، فإن المسودة ليست زمنا عابرا، إنما، هي مكون جوهري للكتابةِ، وعنصرٌ فاعلٌ لإدراك ثنائية الذاكرة ـ النسيان. المسودة عبارة عن ذاكرة الكتاب، توثق لمخاض البداية، وتاريخ تحقق الفكرة، ومسار ترتيب الفقرات، وتشهد علامات التشطيب والحذف والمحو تاريخ زمن الكتابة. قبل أن يصل الكتاب إلى وضعه المطبعي، فقد مر من مراحل عديدة شكلت مظاهر الحالة التي يكون عليها المؤلف زمن الكتابة. قد تتلاشى الحالة، وقد تذوب في نظام الكتابة، فيفقد الكتاب ذاكرة كتابته، لكن العودة إلى المسودة تفشي سر الحالة، حالة المؤلف التي تتحول إلى حالة الكتابة.
لكن، هل يمكن الحديث عن تلاشي مكتسبات المسودة مع زمن الكتابة الإلكترونية والرقمية؟ هل تراجع المسودة مع الكتابة الإلكترونية يجعل الكتابة تفقد زمن مخاضها؟ وهل ستتلاشى ذاكرة الكتابة؟ هل الخدمات التي تقدمها التكنولوجيا للكاتب، من تصحيح وتصويب الفقرة، وإخراج الصفحة، تعمل على إنهاء ذاكرة الكتابة؟ أم يمكن الحديث عن مسودة من نوع آخر مع الكتابة الإلكترونية والرقمية؟
وقفتُ عند أهمية مسودة الكتاب، وأنا أزور «مركز ذاكرة المغرب المعاصر» الذي تم تأسيسه في المغرب سنة 2015، والذي يوجد في المكتبة الوطنية في الرباط، وهو عبارة عن تحقيق لفكرةٍ توثق لبيئة الكتابة. فكرة توثق للكُتّاب المغاربة، سواء الذين رحلوا، أو الذين ما يزالون على قيد الحياة، إلى جانب كتاب أجانب عاشوا/يعيشون في المغرب، وكتبوا/يكتبون عن المغرب، وتبدو الفكرة جديدة، لأن الأمر لا يتعلق بمكتبة الكاتب، أو بأرشفة كتاباته، إنما المركز يحقق فكرة وسطى بين الأرشفة والمكتبة. وتكاد تختزل ذاكرة بيئة الكتابة عند الكاتب، كيف كان يكتب، وما هي قراءاته ويومياته ورسائله ومظاهر حياته، وغير ذلك من العناصر التي باستطاعتها أن تجعل زائر هذه الذاكرة قلب فضاء كتابة الكاتب. وقد تمكن المركز من استضافة عدد كبير من بيئات الكتاب/الكاتبات المغاربة، إلى جانب كتاب أجانب. من بين هؤلاء عالم المستقبليات المفكر المهدي المنجرة، والمبدع إدمون عمران المالح، والمفكر سالم يفوت، والفنان عميد الموسيقى الأندلسية مولاي أحمد الوكيلي، والمناضلة النسائية زهور العلوي وغيرها من الأسماء التي تحضر بقوة في هذا المركز. ما لفت نظري في هذه الذاكرة، هو حضور كتب بمسوداتها. الكتابُ مطبوعٌ وبجانبه مسودته. نقرأ الكتاب وزمن مخاضه، ونتعرف على الكتابة وهي فكرة تتطور مع التصحيح والتشطيب والحذف والتعديل في الترتيب، إن مُرافقة المسودة للكتاب في مثل هذا المركز، تُعبر عن اهتمام الكاتب بزمن الكتابة، واحتفاظه بالمسودة يُقدم صورة عنه، ووجود المسودة بجانب الكتاب يُشكل مادة بحث علمي وثقافي حول تحولات الكتابة من المسودة إلى الكتاب المطبوع.
نلتقي أيضا في «مركز ذاكرة المغرب المعاصر» بأجندة اليوميات، التي رافقت حياة عميد الموسيقى الأندلسية مولاي أحمد الوكيلي، التي تحضر بأجزاء عديدة، تُقدم يوميات الوكيلي من خروجه صباحا من بيته، إلى عودته، وما يتخلل اليوم من أخبار يُوثقها بالمكان والساعة. ما يُثير الانتباه في هذا النموذج من الذاكرة، هو حرص صاحبها على الاحتفاظ بها، وتحصينها من التلف. ويُعبر وجودها عن أهميتها في حياة الفنان الوكيلي. تتحول هذه اليوميات إلى جسرٍ يعبر بزوار مركز الذاكرة إلى زمن نظام حياة مبدع وموسيقي. لكن، هل هذا الزمن سيتلاشى مع الأجندة التكنولوجية؟ هل التلف الذي يُصيب الوسائل والتطبيقات التكنولوجية قد يُؤثر في مثل هذا الزمن؟ أم يمكن الحديث عن شكلٍ مُغايرٍ لزمن اليوميات مع التكنولوجيا؟.
تلك مجموعة من الملاحظات التي ولّدت تساؤلات حول علاقة الكتابة بالذاكرة والنسيان، من خلال نموذجي المسودة وأجندة اليوميات، ومدى تأثر زمن هذه العلاقة بالتكنولوجيا.

٭ روائية وناقدة مغربية

المسودة من الورقي إلى الرقمي

زهور كرام

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    أظن عنوان وطريقة تحليل وكم من معلومات جميلة جدا، نقلت صورة عن مفهوم الإنتاج الكتابي كمصدر من مصادر الاقتصاد في المغرب، ولذلك أظن (مركز ذاكرة المغرب المعاصر) يلخص مفهوم العولمة لمنتج فكري بثقافة الـ نحن كأسرة إنسانية، وأضيف أن العولمة وأدواتها التقنية أضافت معنى جديد للتدوين، من خلال الآلة كوسيلة للحوار، أو وسيط ما بين ثقافة الـ أنا وثقافة الـ آخر، فأصبح من المهم على الإنسان التفكير بوظيفة جديدة للآلة، وهي محاكاة الإنسان في طريقة تعامله مع اللغة، وليس فقط ما كان سابقا ي طريقة محاكاتها مع العضلات، في طريقة أداء أي وظيفة، فقد قيل سابقا لكل مجتمع لسان/عملة، ولكل مهنة لغة/أجر.
    وفي هذا المجال لمن يحب الاستزادة صدر عام 2015 من دار نشر (الكتاب الجديد) كتاب (اللغة بين الدلالة والتضليل) والتي هي كانت دراسة نقدية للدكتور كيان أحمد حازم يحيى على هامش ترجمته كتاب (معنى المعنى) لأوغدن وريتشاردز.
    والتدوين في أجواء العولمة (مشروع مارشال منذ عام 1945) وأدواتها التقنية (الشابكة/الإنترنت منذ عام 1992)، ستلاحظ أو بيّن لي أن الرمز/الإيقونة أو خلاصة لمعنى المعاني كتعريف لمعنى كلمة في قاموس لغة ثقافة الـ أنا، سيكون بالتأكيد هو المعنى المضاد في قاموس لغة ثقافة الـ آخر، ومن هذه الزوايا نفهم اختلاف الفهم بين فلسفة المعسكرين (الإيجابي والسلبي)(الرجل والمرأة)(الحكمة والفلسفة) وفي موضوع النقد أنت في حاجة إلى نصفي القدح، لتكون الصورة كاملة، لأن ببساطة بدون تشخيص صحيح، أو بمعنى آخر دون مجاملة فلان أو خوف من زعل علان، لن يمكن تطوير النظام البيروقراطي لدولة الحداثة، الذي يعاني من تحديات حقيقية في أجواء العولمة، كونها فضحت الكاتب/المنتج من أنه يحتاج إلى ضحية، لكي يتفاعل معها، حتى يستطيع تكوين تجربة ما، يستطيع الكتابة عنها بشيء من المصداقية المهنية، السؤال المنطقي والموضوعي هنا، هل يحق من أجل العملية الإبداعية أن يضحك فلان على فلانة، أو العكس، في لغة الجسد (الحب)، للخروج بعواطف ومشاعر يستطيع الكتابة عنها بشيء من المصداقية، من أجل إنتاج منتج يمكن أن يكون له عائد اقتصادي مربح؟! خصوصا عندما ثقافة الـ أنا ترفض مشاركة ثقافة الـ آخر بالأرباح الناتجة عن المنتج، الذي كتب عنه وأصدر منتجا وتم نجاح تسويقه في أجواء العولمة والاقتصاد الإلكتروني ومفهوم الاحتكار لحقوق المنتج لجانب بعيدا عن الأخر ممن شاركه الحدث؟!

  2. يقول المغرب:

    توقعت، من العنوان، تفصيلا وموقفا من “المسودة” الرقمية، مثل تفصيل والموقف من المسودة الورقية.
    مع ذلك، تحيتي للأستاذة زهور.

  3. يقول بشرى زكاغ المغرب:

    كعادتك دكتورة تنقشين في الصغر، وتمارسين التشخيص المبكر الذي يسبق المرض، وتتحدثين عن مخاطر تلاشي الذاكرة في زمن الرقمنة والتكنولوجيا، وهي فعلا معضلة، فالبشر سابقا نجحوا في حفظ الذاكرة من خلال النقوش والأبنية، ثم من خلال الورقي، بمعنى آخر بفضل السند المادي، أما اليوم فلا سند ولا توثيق لأننا نعيش ببساطة عصر انضغاط الزمن والمكان بلغة ‘ديفيد هارفي’ كل شيء قابل للتلاشي والتقادم، أين هي الأقراص الميغناطيسية المربعة Disquette اليوم، حتى ولو كانت موجودة فلا جهاز يقرؤها، وقريبا نفس الشيء بالنسبة ل CD، بعدها المفاتيح..، فكيف نحفظ كل هذا الكم المتراكم من المعارف الإنسانية للأجيال القادمة؟؟؟؟ ولذلك فالوعي بعصر التكنولوجيا الرقمية والمجتمعات التكنواجتماعية كما نجدها حاضرا ودائما في كتباتك دكتورة مطلوب اليوم قبل غد.

إشترك في قائمتنا البريدية