دروس الأعوام السبعة بعد الربيع العربي

حجم الخط
0

بعد سبعة أعوام على ظاهرة الربيع العربي لايزال الاختلاف قائما حول القضايا المرتبطة بثوراته. هذا الاختلاف يشمل ما يلي: أولا هل هي ثورات شعبية حقا انطلقت لتعبر عن إرادة الجماهير وتطلعاتها أم كانت (وفق بعض التصورات) مشروعا غربيا لتمزيق العالم العربي ضمن مقولة «الفوضى الخلاقة»؟ ثانيا: إن الجميع يتفقون على وجود ثورة مضادة، ولكن يختلفون على القوى التي تشكلها. فهناك من يعتقد أن الثورة المضادة تتمثل أساسا في الأنظمة القديمة التي كانت مهددة بالسقوط، بينما يعتقد البعض أن هناك دولا محددة هي التي خططت لإجهاض الثورات كافة بعد أن امتصت الضربات الأولى، وأنها طورت نفسها لتتحول إلى مشروع كامل مضاد لكل الثورات والمعارضات.
ثالثا: هناك اختلاف حول ما إذا حقق أي من الثورات هدفه بإقامة منظومة ديمقراطية جديدة على أنقاض النظام القديم. فهناك من يعتقد بأن ثورة تونس حققت هدفها مثلا، ولكن هناك من يرى أنها ليست كذلك وأن النظام القديم لا يزال قائما. رابعا: لا يوجد توافق كامل على احتضان جميع الثورات، لأن رموزا سياسية كبيرة وقعت في فخ قوى الثورة المضادة واصبحت انتقائية في تصنيف الثورات انطلاقا من اعتبارات ايديولوجية ومذهبية.
خامسا: إن هناك من يعتقد بإمكان القبول بما يمكن وصفه بـ «نصف ثورة» بينما يرى الآخرون أن التغيير لن يحدث إلا على أنقاض أنظمة الاستبداد وأن السماح ببقاء تلك الأنظمة يعني فشل مشروع التغيير ومنع حدوث التحول الديمقراطي المنشود.
سادسا: إن المشروع التغييري في العالم العربي ليس متكاملا، بمعنى غياب التوافق بين أطياف المعارضة سواء على الصعيد القومي أم على مستوى القطر الواحد. وهذا يعني إمكان استغلال بعض الأطراف ضد الأطراف الأخرى وإضعاف روح التغيير الثوري. سابعا: هناك اختلاف حول مدى قدرة الشعوب على تحقيق التغيير بدون الاعتماد على قوى خارجية، وبالتحديد التحالف الانجلو ـ أمريكي. وقد لوحظ خلال الربيع العربي كيف انطلقت الدعوات للقوى الغربية للتدخل ضد بعض الأنظمة المستهدفة، خصوصا في ليبيا وسوريا. بينما ترى أطراف أخرى خطأ استراتيجية الاعتماد على الغرب لإحداث التغيير، فهو أحد أسباب هيمنة الاستبداد من جهة، وإنه لن يقدم دعما بدون مقابل. ثامنا: هناك من يرى أن المعارضات العربية لم تكن مبدئية بشكل مطلق، بل كانت تبحث عن طرق قصيرة لتحقيق الأهداف، ومنها مسايرة الدول الغربية خصوصا الولايات المتحدة والسعي لطمأنتها أو طلب النصرة منها أو تغيير لغة الخطاب لكي لا ترفضه واشنطن، واعتقد البعض أن استرضاء «إسرائيل» ضرورة لنجاح التغيير.
إنها اختلافات كبيرة لا يمكن تجاوزها بسهولة كما أن من الصعب إصدار الحكم حول الصحيح والخاطئ منها. وإذا كانت ظروف الثورة آنذاك حائلا دون استيعاب تساؤلات كهذه فإن مرور سبعة أعوام كاملة بدون أن تكون هناك مراجعة شاملة لما حدث وإجراء عصف ذهني عميق حول قضايا الاختلاف المذكورة يعني أمورا عديدة: أما أن جيل التغيير قد انقرض تماما أو استسلم لـ «الواقع» الذي تهيمن عليه قوى الثورة المضادة.
ثانيا: إن رموز المعارضة الإسلامية لم تستطع القفز فوق خطوط التمايز القطري أو الفكري أو الديني أو المذهبي، وبالتالي بقيت تتعاطى مع ما جرى وكأن شيئا لم يحدث وكأن السلبيات ستزول بنفسها. إن غياب التقييم الموضوعي وإجراء محاسبة عميقة وصادقة يحول دون تقويم الموقف، وبالتالي يجعل من الصعب الاعتقاد بحدوث نتائج مختلفة فيما لو حدث ربيع آخر مستقبلا. ويغيب عن هؤلاء حقائق عديدة منها ما يلي:
أولا إن قوى النظام السياسي العربي راجعت أنفسها وأصبحت أكثر تماسكا في مواجهة مشاريع التغيير التي تتبناها المعارضة. بينما بقيت القوى المعارضة متشرذمة، وغير قادرة على التواصل في ما بينها. ثانيا: إن الضربات الموجعة التي وجهت لقوى المعارضة خصوصا في الدول التي شهدت ثورات الربيع العربي، أنهكتها وجعلت كلا منها مشغولا بنفسه، يلملم جراحه، ويسعى لإعادة تنظيم صفوفه. وتمثل الحالة السورية ذروة البشاعة البشرية في التعامل السياسي، وتمثل تونس نموذج الثورة التي أجهضت بوداعة، بينما تدفع ليبيا ثمن التخلص من نظام القذافي بمواجهة خطر التقسيم وغياب الدولة المركزية القوية، وتدفع اليمن ثمنا باهضا لثورتها التي أطاحت برئيسها مع بقاء نظامه. أما مصر والبحرين فتمثلان بشاعة الانتقام السلطوي من القوى التي ثارت عليه. فسجونهما مكتظة بدعاة الحرية والتحول الديمقراطي، وأحكام الإعدام بلا حدود، والتنكيل تجاوز كل حد.
ثالثا: إن الثورات لم تتوفر على قيادات تاريخية صامدة تستطيع استيعاب واقع الأمة والانطلاق لتوحيد شعوبها ومعارضاتها على طريق التغيير. رابعا: إن عنصر المباغتة الذي استخدمته الأنظمة لاستهداف معارضيها حال دون توفر قيادات فاعلة تسعى لتوحيد المعارضة أو إيجاد أرضية لتقاربها. خامسا: إن قوى الثورة المضادة أصبحت قادرة على إعادة توجيه البوصلة بعيدا عن مشاريع التغيير، وأقرب إلى منطق التعايش السلبي مع الوضع طالما استقرت أوضاع البلدان. ولا شك أن هذا التصور يعتبر تراجعا عن القيم الأساسية لمشاريع الثورة والتغيير. ولقد أصبح واضحا مدى انتهازية قوى الثورة المضادة التي استخدمت أقذر الوسائل لمنع التغيير ومن بينها تشجيع التطرف والإرهاب والطائفية.
من المؤكد أن هذا الاختلاف يعكس أمورا عديدة: أولها تباين الرؤى بين مفكري المعارضات العربية حول ما حدث وما يمكن عمله. وبرغم عقد جلسات مصارحة عديدة لا تزال المعارضات غير قادرة على استيعاب ما حدث من جهة ورفض فكرة المحاسبة الذاتية الصارمة التي توضح نقاط ضعف مشروع الإصلاح والتغيير من جهة أخرى.
ثانيا: إن العجز عن استيعاب التحالف المضاد لقوى المعارضة العربية والذي تتصدره السعودية والإمارات و إسرائيل» يساهم في تشوش الأذهان وتداخل الأمور. مطلوب أن يتحلى رموز المعارضة وزعماؤها بوعي أعمق لاستيعاب حجم الإنفاق على مشاريع التصدي للمعارضة ورفض التغيير. ومع أن هناك، للمرة الأولى، إدراكا لدور قوى الثورة المضادة (التي تشمل السعودية والإمارات وإسرائيل والتحالف الانجلو ـ أمريكي) في دعم الاستبداد ومنع التغيير، إلا أن هناك أيضا حواجز تحول دون بلورة عمل مشترك يساهم في ترشيد المعارضات العربية وتوحيد خطابها وأهدافها.
ثالثا: إن التلكؤ في توحيد قوى المعارضة العربية ترك المجال مفتوحا أمام قوى التطرف والإرهاب التي تم توجيهها بعيدا عن التغيير، من أجل توفير الذرائع للإمعان في الفتك بالمعارضة التقليدية التي كانت عصب الربيع العربي. ومع تعمق الاستبداد والقمع والإفراط في الممارسات الديكتاتورية فإن الأرضية أصبحت جاهزة لانتفاضات شعبية جديدة.
الفرق هذه المرة أن هذا الحراك سيتم في غياب آلاف النشطاء المغيبين في السجون أو المنافي، وبالتالي فقد لا تكون هناك نتائج إيجابية مضمونة لذوي الاتجاهات الإسلامية.
رابعا: ربما من الطبيعي أن تكون تصورات قطاعات المعارضة العربية متباينة نظرا لتعدد ارتباطاتها الخارجية وانتماءاتها الدينية والمذهبية. وقد انعكس ذلك على المواقف السياسية لقوى المعارضة. ويمكن الاعتراف بأن القضية السورية كانت السبب الأساس لاختلافات كبيرة بين قوى المعارضة، أضفي عليها طابع مذهبي، وقد تعقدت هذه القضية كثيرا وتعدد الفرقاء فيها، وتتواصل المواجهات وفق خطوط الاختلاف العرقي تارة، والانتماءات التاريخية والمذهبية تارة أخرى. وستظل هذه القضية في عمق الأزمات التي تعصف بالمشروع التغييري المنشود. فلو حدث ربيع عربي جديد الآن لتواصل الاختلاف بشكل أعمق بسبب استمرار الأزمة السورية. هذا في الوقت الذي لا تبدو فيه الدول المعنية بالوضع السوري مستعدة لخوض الحروب نيابة عن الشعب السوري، أو القطيعة الكاملة مع نظام دمشق. ولذلك أصبح ضروريا أن يكون هناك تفكير استراتيجي يتجاوز القضية السورية في الوقت الحاضر على الأقل. خامسا: إن قادة الكيان الإسرائيلي يتصيدون في الماء العكر بأساليب عديدة، فهم يحصدون ثمرة جهود غيرهم، ويوجهون جهودهم لكسب المزيد من الدعم السياسي وتوسيع العلاقات الخارجية وجذب قوى أجنبية كبيرة إلى الأراضي المحتلة من أجل الاستثمار وتطبيع العلاقات. إنه تحد آخر يواجه أصحاب المشروع السياسي الإسلامي الذين غيبت السجون أكثر رموزهم.
سبعة أعوام ولا يزال كل فريق يحتفظ بموقعه، يدافع عنه ويكيل الصاع صاعين لمن يستهدفه، ويرفض إعادة النظر في الموقف أو التوجه أو التحالفات المرتبطة بذلك. إن غياب الديناميكية الحركية يجعل التخطيط لمشروع التغيير المستقبلي في المنطقة صعبا جدا. ومن خلال السجالات التي حدثت في العديد من المحافل الإسلامية مؤخرا يتضح حجم الصعوبة التي يواجهها المشروع التغييري في عالم ارتد على نفسه وأصبح يبحث عن لقمة العيش قبل أن يتوجه إلى الديكتاتوريين والمحتلين والفاسدين.
فلكل مجموعة معارضة تجربتها الخاصة في البلد الذي تعمل ضمن حدوده الجغرافية، ومجموع التجارب قد يوفر رؤى أعمق للتحديات التي يبرزها التحول الديمقراطي المنشود. يضاف إلى ذلك غياب الحماس الغربي للمشروع الذي كانوا يعتبرونه محوريا في سياساتهم الخارجية. كما أن تجاهل الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان يساهم، هو الآخر في تخفيف وميض المشروع الديمقراطي الذي يفترض أن لا ينفك عن حقوق الإنسان. صحيح أن قوى الثورة المضادة تعيش أزمات عديدة ولكن أولويتها مرتبطة بالمشروع الإسلامي في المنطقة. وقد أظهرت قضية نبيل رجب، الناشط الحقوقي البحراني تداخل الحقوق مع السياسة من جهة، وتقديم المصلحة على المبدأ من جهة أخرى، وهيمنة العقلية الشيطانية على النظام السياسي العالمي ثالثا. برغم هذا فمن المؤكد قدرة قوى المعارضة، لو جمعت أمرها، استعادة حيويتها وتجديد همتها لتخوض معركة الحريات المقبلة التي ستكافح الاستبداد في ربيع عربي آخر لن يتأخر طويلا.

٭ كاتب بحريني

دروس الأعوام السبعة بعد الربيع العربي

د. سعيد الشهابي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية