على اسم جمال عبد الناصر

كأن أحدا لم يأت بعده إلى حكم مصر، وكأنه يسكن المستقبل لا الماضي، فالنخب تختلف حوله، والناس العاديون يشتاقون إليه، وتهاجر نفوسهم المتعبة إلى زمنه، وكأنه لم يزل بيننا، كأنه لم يمت بعد، أو كأنه مات أمس، رغم أن جمال عبد الناصر رحل إلى رحاب الله، ووري الثرى في ضريح كوبري القبة قبل ثلاثة وأربعين عاما مضت، وفي مشهد جنائزي محتشد بملايين لم تخرج مثلها في وداع أحد على مدار التاريخ الإنساني.
لا نتحدث عن عبد الناصر الذي كان، بل عن عبد الناصر الذي يكون، والذي ترتفع صوره الآن في مصر، وكأنها إشارة إلى الحلم المفقود، فلم يظهر في هبات مصر الكبرى المتتابعة منذ 25 يناير 2011، وعلى موجات توالت وصولا إلى ذروتها الثورية في 30 يونيو 2013، سوى صورة قائد تاريخي واحد هو جمال عبد الناصر، وبدت الظاهرة مفاجئة لمراقبين، فقد تعرض اسم عبد الناصر لهجوم بالغ الضراوة خلال أربعين سنة مضت، ومنذ بدأت الحملة ضده عقب حرب أكتوبر 1973، وكستار من الدخان الكثيف، يبرر ويحجب حقيقة ما كان يجري وقتها، وتسهيلا لمهام الانقلاب على خط عبد الناصر وثورته، وهو الانقلاب الذي أعقب عبور جيش مصر الذي بناه عبد الناصر، وتحطيمه لخط بارليف، واجتراحه لمعجزة، وكما أريد للسياسة أن تخذل وتخون دم المقاتلين، فقد أريد للحرب أن تكون خاتمة لعصر عبد الناصر، وأن يبدأ بعدها عصر آخر، انحطت به مكانة مصر في العالمين، وبعد أن كانت مصر عند خط أكتوبر رأسا برأس مع كوريا الجنوبية في معدلات التقدم والتصنيع والاختراق التكنولوجي، أصبحت مصر الآن بعد أربعين سنة رأسا برأس أو ذيلا بذيل مع بوركينا فاسو، على مؤشر الفساد الدولي، وكان هذا الانحطاط العظيم هو الوجع الذي فجر موجات هائلة من الحنين لعبد الناصر، وبالذات في لحظة الخروج من القمقم في ثورة 25 يناير 2011، ثم بدت التطورات اللاحقة محبطة، فقد صعدت جماعات اليمين الديني، وهي أكثر كراهية لعبد الناصر في الاسم والموضوع من جماعة مبارك الوارثة لانقلاب السادات، وفي أول ظهور جماهيري لمرسي الإخواني بعد انتخابه رئيسا، بدا مرسي كأنه يشمت ويتشفى بعبد الناصر وعصره، وعلى طريقة الغازي الفرنسي الذي تصور أنه يشمت ويتشفى بصلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين، ووقف عند قبره في دمشق قائلا ‘ها قد عدنا يا صلاح الدين’، التي استعادها الإخوان على طريقة ‘ها قد حكمنا يا عبد الناصر’، وبعبارة مرسي الشهيرة عن ‘الستينيات وما أدراك ما الستينيات’، وكانت تلك سقطة مرسي الأولى التي بشرت بخلعه شعبيا خلال عام واحد، رغم أن مرسي حاول تدارك الأمر في مناسبات لحقت، وبإشادته بدور ‘الزعيم’ عبد الناصر في مؤتمر طهران لدول عدم الانحياز، ثم بعدها في احتفال بعيد العمال في مصنع الحديد والصلب الذي أنشأه عبد الناصر، وقال الرئيس الإخواني وقتها، انه ‘سيكمل ما بدأه عبد الناصر’، وكانت تلك كلها ألعابا في الوقت الضائع، وتلاعبات بمشاعر الرأي العام، الذي يدرك سر عداوة الإخوان لعبد الناصر.
فما من زعيم يعبر عن اسم مصر بأكثر من اسم جمال عبد الناصر، وما من قوة كراهية لاسم مصر بأكثر من الإخوان، ولن ينسى المصريون لمرشدهم السابق مهدي عاكف عبارته القبيحة القائلة ‘طظ في مصر’، ثم ان الإخوان وهذا هو الأهم قوة يمينية معادية بالخلقة لاختيارات عبد الناصر الثورية، وهم جماعة تتقارب إلى حد التطابق مع جماعة مبارك، وقد بدا عناق المصالح ظاهرا بين الجماعتين، وجعلهما معا في خانة القوى المضادة لثورة يناير، كما ثورة يوليو، وما من تنافس بينهما ولا عراك سوى في خدمة اختيارات عصر الانحطاط العظيم، التي تتلخص في الولاء للأمريكيين وخدمة أمن إسرائيل ورعاية مصالح رأسمالية المحاسيب، وهذه حقيقة لم تكن ظاهرة لسواد المصريين من أول لحظة، وكان ضروريا أن يجرب الشعب المصري محنة حكم الإخوان ليدرك الحقيقة المرة، ولكي يلمسها بأطراف أصابعه، فقد اختبأ الإخوان وراء ستار كثيف من الشعارات الدينية، وتحدثوا عن ‘مشروع إسلامي’ سرعان ما تكشف أنه ‘المشروع الأمريكي’ نفسه، وهو ما انتهى بالمصريين للعودة إلى الشارع، وبعشرات الملايين الغاضبة الراغبة في إنهاء الخديعة، وبصورة غير مسبوقة على مدى التاريخ الإنساني بإطلاق عصوره وثوراته، وبدت صور عبد الناصر أعظم كثافة هذه المرة في 30 يونيو 2013، وكأن صورة عبد الناصر هي ‘تميمة الثورة’ المحفوظة في القلوب والمرفوعة فوق الحشود.
وقد حسم ظهور صور عبد الناصر نزاعا بدا ظاهرا بين النخب منذ الأيام الأولى للثورة المصرية المعاصرة، فقد أراد البعض تصوير الثورة الجديدة كانقلاب على الثورة القديمة، وردد البعض كالببغاوات عبارة الثورة على حكم الستين سنة، وكأنه يمكن وضع عبد الناصر مع السادات فمبارك بالسياق نفسه، أو كأن ثورة يناير هي الانقلاب الشعبي على ثورة 23 يوليو 1952، وكأن أحدا لم ير ولا سمع عن انحطاط الأربعين سنة الأخيرة، الذي كان نتيجة مباشرة لانقلاب السادات فمبارك على ثورة يوليو في طبعتها الناصرية الأصلية، وجاءت ثورة يناير بموجاتها المتلاحقة كانقلاب على زمن الانحطاط، وكرغبة في وصل ما انقطع مع عصر الزهو المصري الذي اتصل حتى حرب أكتوبر 1973، وبإدراك أصيل لأثر متغيرات الزمن، فلم تجئ ثورة يناير نسخة مطابقة لثورة يوليو، بل لتواصل نهجها وتتصل بروحها، وبحركة الناس الأحرار هذه المرة، وليس بحركة الضباط الأحرار، وبإضافة القيمة الديمقراطية لقيم الاستقلال الوطني والتصنيع الشامل والعدالة الاجتماعية والتوحيد القومي والتجديد الحضاري، وكانت صورة عبد الناصر هي همزة الوصل بين ثورتين، وهي الطريقة الشعبية في كتابة التاريخ الصحيح للدراما المصرية المتصلة فصولها، ثم ان صورة عبد الناصر بدت كاحتياج في اللحظة وإشارة للمستقبل، فهي تعبر عن رغبة سواد المصريين في رؤية قائد للثورة على مثال عبد الناصر.
والأسباب ليست خافية، ولا تتصل فقط بمقاصد الثورة المصرية المعاصرة، التي عكست نفسها في شعارات، العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهي مقاصد ألصق بروح ثورة يوليو، وإن طمحت لإغنائها والإضافة إليها، ووسط مصاعب تتصل بطبيعة الثورة المصرية المعاصرة نفسها، فالثورة تقوم ولا تحكم، وهكذا هو حالها إلى الآن، الثورة بلا قيادة مطابقة، وهو ما يستدعي وجها آخر للحنين إلى صورة عبد الناصر، نعم يدرك الناس أن عبد الناصر مضى ولن يعود، لكنهم يريدون قائدا آخر على صورته.
وكان هذا الشعور الباطن الظاهر وراء شعبية بدت مفاجئة لقيادات ظهرت على مسرح السياسة، ففي انتخابات الرئاسة الأولى بعد ثورة يناير، ورغم اختلال مشهد السياسة، وتناقضه بشدة مع مشهد الثورة، وغلبة قوى اليمين المعادي بشدة لسيرة عبد الناصر، والمزاج الانتخابي الذي كان سائدا وقتها، والمنجرف إلى تصديق أوهام وخرافات اليمين الديني بالذات، رغم كل هذه الظروف المعيقة، حقق المرشح الرئاسي حمدين صباحى نجاحا مدويا، وكان مفاجأة الانتخابات كلها، فقد حل ثالثا في الجولة الأولى بعد محمد مرسي مرشح جماعة الإخوان وأحمد شفيق مرشح جماعة مبارك، رغم أن حملة صباحي كانت الأضعف بامتياز، مالا وتنظيما بين حملات المرشحين الخمسة الكبار، ولم تصل نفقاتها إلى واحد بالمئة من انفاق حملة مرسي أو حملة شفيق، وبدت الأرقام متقاربة، فقد حاز مرسي على خمسة ملايين و700 ألف صوت، وحاز شفيق على خمسة ملايين و300 ألف صوت، بينما حاز صباحى على أربعة ملايين و820 ألف صوت، أي قرابة الخمسة ملايين صوت.
وكان الأهم من عدد الأصوات هو جغرافيا التصويت، فقد حل حمدين صباحي في المركز الأول بالقاهرة والإسكندرية، وكان تصويت مدن الثورة الكبرى حاسما لصالحه، وكان الأول بامتياز في إجمالي تصويت العاصمة والوجه البحري ومدن القناة، ولم يخذله غير تصويت ‘الصعيد’ الذي كان منفصلا وقتها عن قضية الثورة وحوادثها، بينما لم يعد الأمر كذلك تماما في الصعيد الآن مع موجة الثورة الثالثة في 30 يونيو.
كان رأسمال صباحي الأهم ولا يزال هو إيحاءات عبد الناصر فيه، وهي ذاتها أي إيحاءات عبدالناصر التي تجعل من الفريق أول عبد الفتاح السيسي بطلا شعبيا في مصر اليوم، فالسيسي هو الأكثر شعبية الآن، ولو ترشح للرئاسة في انتخابات مقبلة، فسوف يفوز بالضربة الشعبية القاضية، وقد تصل نسبة فوزه إلى تسعين بالمئة، وشعبية السيسي لا تعود إلى كونه قائدا للجيش، فقد كان المشير طنطاوي من قبله قائدا للجيش، ولمدة فاقت الربع قرن، ولم تكن له هذه الشعبية الفياضة، ولا حتى نصفها، والسبب ظاهر، فالسيسي له صفة رمزية أكثر تأثيرا، وإيحاءات عبد الناصر أكثر ظهورا فيه، وكثيرا ما تقترن صوره بصورة عبد الناصر أكثر الغائبين حضورا .

‘ كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مصر:

    اي فشل اكثر من دماء آلاف المصريين قتلوا في اليمن والكونغوا ثم الفضيحة الكبرى نكسة 67 … فعلا عبد الناصر كان زعيم لكنه زعيم مهزوم لم ينتصر في معركة واحدة في حياته .

1 3 4 5

إشترك في قائمتنا البريدية