صبري موسى الرقيّ والجمال

صبري موسى الكاتب والصحافي والسيناريست، كان نسيجا وحده في التواضع. التقيت به منذ أكثر من ثلاثين سنة في مجلة «صباح الخير» ولا أذكر الآن سبب زيارتي له، فوجدته يستقبلني ببسمة طيبة ويطلب مني أن انتظر حتى ينتهي مما يكتب، وكان مقاله المعتاد.
لم يكن أمامه غير دقائق قليلة ثم نهض ودخل مكتبا آخر وعاد وقد اتسعت ابتسامته. لقد قام بتسليم المقال، بدت عليه الحيرة الجميلة وهو يمدح في روايتي القصيرة «ليلة العشق والدم» وكان الراحل علاء الديب قد كتب عنها مقالا جميلا في المجلة. قال كأنه يسأل نفسه كيف لم أقرأ لك شيئا من قبل يا إبراهيم؟ وابتسمنا. أخذنا الحديث إلى واقع الحياة الأدبية وكنت إذا تحدثت عن مشكلة ما يشير بيده أن أعبر ويقول «لا تشغل بالك». التقيت به كثيرا بعد ذلك في مصر وخارجها، وجلسات الأدباء محتدمة دائما بالنقاش، لكن حين كانت تأتي سيرة أحد بأمر سيئ كان يبتسم ابتسامة صغيرة ويشير بيده للمتحدث أن يعبر بالكلام. عرفت كيف أن صبري موسى لا ينشغل إلا بالكتابة والإبداع.
في إحدى المرات سأله أحد الزملاء كيف هو وزملاؤه من كتاب فترة الخمسينيات لم يشتهروا شهرة يوسف إدريس. لم يبدُ عليه أي ضيق وإن بدت الدهشة من السؤال، ثم ابتسم كعادته وأشار بيده للمتحدث أن يعبر بالحديث. صبري موسى ترك علامات بارزة في الكتابة الروائية منذ روايته «فساد الأمكنة» التي كانت فتحا عظيما في الكتابة عن الصحراء في الجنوب، ونتيجة لرحلة وزيارات حقيقية للبلاد وأهلها. يقول صبرى موسى عن فساد الأمكنة: «فى ربيع 1963 أمضيت فى جبل «الدرهيب» في الصحراء الشرقية قرب حدود السودان «ليلة» خلال رحلتى الأولى فى تلك الصحراء، وفي تلك الليلة ولدت في شعورى بذور تلك الرواية، ثم رأيت الدرهيب مرة ثانية بعد عامين، خلال زيارة لضريح المجاهد الصوفي أبي الحسن الشاذلي المدفون في قلب هذه الصحراء عند «عيذاب». وفي زيارتي الثانية أدركت أنني في حاجة لمعايشة هذا الجبل والإقامة فيه، ووافقت وزارة الثقافة على تفرغي من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1966 إلى نوفمبر 1967 للإقامة في الصحراء حول جبل الدرهيب». نُشرت الرواية مسلسلة في مجلة «صباح الخير» ثم كاملة عام 1973، وفي عام 1974 فازت بجائزة الدولة التشجيعية.
شغلت الرواية الحياة الأدبية والنقد الأدبي فعالمها جديد وطموحها كبير، وكما قال عنها غالب هلسا، إن عبقرية الرواية لم تكن في سيرة القادم من جبال القوقاز، لكن في أن يتوحد هذا القديس القوقازي مع سكونية وصوفية الجبل. وقال عنها علي شلش، كل شيء في الرواية قابل للرؤية من عدة وجوه، وكل شيء مطلق ونسبي في وقت واحد.. وعشرات من النقاد شغلتهم الرواية الفذة. إنها رواية مكان وبشر قل تكرارها وفتحت بعد ذلك الطريق إلى كتابات من هذا النوع. الأمر نفسه في روايته التالية التي كان الفارق من السنين بينها وبين الأولى طويلا، وأعني بها «السيد من حقل السبانخ» التي كان الخيال العلمي هو منهجها. له طبعا رواية أخرى هي «حادث النصف متر» لا تخلو من جمال، لكن هاتين الروايتين علامتان رائعتان في الكتابة الأدبية. وكونه صحافيا كان مشغولا بالرحلات في مصر وخارجها. كتب عنها المقالات التي صارت كتبا بعد ذلك. وله مجموعات من القصة القصيرة، لكنه أيضا كان كاتبا للسيناريو بامتياز، فكتب سيناريوهات أفلام لا تنسى مثل «الشيماء» من إخراج حسام الدين مصطفى، و«رحلة داخل امرأة» سيناريو رفيق الصبان، وقصة وحوار صبري موسى وإخراج أشرف فهمي. وسيناريوهات أفلام «رغبات ممنوعة» من إخراج أشرف فهمي أيضا و«البوسطجي» عن قصة يحيى حقي، وإخراج حسين كمال و«قنديل أم هاشم» عن رواية يحيى حقي أيضا وإخراج كمال عطية و«قاهر الظلام» من إخراج عاطف سالم و«أين تخبئون الشمس» من إخراج عبد الله المصباحي، و«حادث النصف متر» عن روايته القصيرة من إخراج أشرف فهمي. وهكذا ترى أنه عمل مع مخرجين من أكثر من جيل وكلهم مشهود لهم بالكفاءة أو الجرأة أو التجديد. من يرى فيلم «البوسطجي» ويمكن أن ينسى المشهد الأخير حين يقتل صلاح منصور ابنته زيزي مصطفى فتصرخ باسم حبيبها «خليل» ويلتحم الصوت بصوت طائر في الفضاء، فتبدو صرخة يشاركها فيها الكون. مشهد نهاية رائع جدير بسيناريست وفنان مثل صبري موسى ومخرج مثل حسين كمال قدّم للسينما العربية أعظم المشاهد العالمية مثل مشهد فؤادة (شادية) وهي تفتح الهاويس لتروي الأرض الشراقي التي منع عنها عتريس المجرم المياه.
صبري موسى حاز على جوائز مصرية مهمة آخرها جائزة الدولة التقديرية عام 2003 كما حاز عام 1978 جائزة «بيجاسوس» الأمريكية عن الأعمال المكتوبة بغير اللغة الإنكليزية. شاركته يوما في لجنة القصة في المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وكانت تلك اللقاءات من أجمل الأيام. ظللت حياتي كلها بعد معرفته متحيرا لماذا لم يرتفع صوت صبري موسى أمامي مرة في أي لقاء. صبري موسى كان زاهدا وواثقا أن ما يكتبه هو ما يرضيه وهو ما يسعده قبل أي شيء آخر. تعرض في السنوات الأخيرة لمرض أقعده عن الحركة ولم نسمع منه أي استغاثة رغم طول الوقت وكانت معه في رعايته زوجته الصحافية أنس الوجود رضوان التي مثله لم تشكُ أبدا ولم تطلب شيئا من أحد أو جهة ما وظلت على رعايته وحبه هي التي تصغره بأعوام كثيرة لكنها تحمل مثله نبل الأخلاق والكرم.
لقد فقدنا صبري موسى في يناير/كانون الثاني الماضي وكنت للأسف خارج البلاد. غمرني حزن شديد لكنني كنت أتذكر ابتسامته وأقول لنفسي لعله واجه بها ملك الموت وذهب معه في هدوء ورضا، هو الذي لم أرَ ولا أظن أن أحدا رأى هدوءا ورضى مثل ما كان على وجه صبري موسى. أُرثي صبري موسي هنا وأقول ما يقال إن أعماله ستظل هادية للأجيال، لكن ابتسامة صبري موسى ورضاه لن يراهما أحد إلا من رأوهما من قبل وأحبوا صبري موسى واحترموه مثلي، فابتسامته ورضاه معلقان أمامي كما لا بد أنهما أمام كل أحبائه.

٭ كاتب مصري

صبري موسى الرقيّ والجمال

إبراهيم عبد المجيد

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية