عن الواقع العربي والإمكانيات المستقبلية

حجم الخط
3

نظرة سريعة إلى العالم العربي بمجمله، تكشف صورة قاتمة للواقع في هذه الأيام، وتنذر بمستقبل غير مطمئن على الإطلاق. لكن نظرة متعمقة لمن يعرف تاريخ المنطقة وما مرّت به من تجارب بالغة القسوة، وبرغم أنها تؤكد قتامة صورة الواقع الذي نعيشه ونعانيه، فإنها تكشف عن باب واسع لصورة مستقبل مختلف.
لفهم هذا الدرس واستيعابه لا بد من تأكيد ضرورة التمييز بين ما هو طارئ، (بالمعنى التاريخي)، حتى وإن عمّر عقودا، أو حتى بضع قرون، وبين ما هو ثابت وقائم ودائم لقرون كثيرة ولألفيات من السنين أيضا.
كل الدول العربية القائمة الآن، باستثناء تام لمصر، وباسثناء بسيط للعراق واليمن، هي «دول قُطرية» حديثة النشوء والتكون. ورحم الله المفكر العربي اللبناني، مُنَح الصلح، الذي سمعته مرّات لا تحصى، وهو يكرر القول: «مصر.. وبقية القبائل العربية»، بما يعني أن تعبير «الدولة»، بما يكتنزه من معانٍ، ينطبق على مصر وحدها، من بين ما نطلق عليه جزافا، نحن وغيرنا، تعبير «الدول العربية».
لقد مضت منذ عقود تلك الأيام التي كنا نحلم ونطمح ونتظاهر فيها، مطالبين بإلغاء حدود ووجود الدولة القُطرية العربية، لصالح إقامة دولة «الوحدة العربية»، ولضمان تثبيت أقدام الأمة العربية، كشريك مؤثر في النظام العالمي، وقادر بقواه الذاتية على حماية المصالح العربية ومستقبلها، وعلى المساهمة الفعالة في صنع وتطور الحضارة البشرية، علميا وثقافيا واجتماعيا.
هذا وقت مضى، ولا أقول «اندثر». ففي العقود القليلة الماضية التي عشناها، ترسخ، إلى حدود التعصّب، واقع وجود «الدولة القُطرية» العربية، المتحالفة مع أحد المعسكرين، أيام «الحرب الباردة» التي انتهت بسقوط الاتحاد السوفياتي، في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، (وها هي ملامح عودتها تلوح في الأفق هذه الأيام). في تلك المرحلة، وفي العقدين التاليين لها، أصبحت فيها خريطة العالم العربي أشبه ما يكون برقعة الشطرنج: المغرب، كدولة قُطرية، أقرب إلى المعسكر الغربي، وأما جارتها الجزائر، كدولة قُطرية أيضا، فأقرب إلى المعسكر الشرقي، ذلك في حين أن البلاد التالية في المغرب العربي، وهي تونس، فإنها أقرب إلى المعسكر الغربي، عكس جارتها، ليبيا. وتتكرر صورة مشهد رقعة الشطرنج، بين المربع الأبيض، وجاره ونقيضه المربع الأسود، في المشرق العربي أيضا. هكذا هو الحال بين العراق وسوريا، وبين سوريا ولبنان، وكذلك بين سوريا والعراق من جهة، والأردن من جهة أخرى. وقد لا تشذ عن هذه القاعدة، جزئيا، إلا الأوضاع في الجزيرة العربية، حيث تمكن الشيخ زايد (ومن معه من شيوخ المشيخات المجاورة) من تشكيل «دولة الإمارات العربية»، وتمكن الرئيس اليمني الراحل من إعادة توحيد اليمن باستعادة «دولة» عدن اليمنية، وكذلك تشكّل مجلس التعاون الخليجي. دون أن ننسى هنا أيضا تاريخ العلاقات الملتبسة بين «الدولة القُطرية»، اليمن، وجارتها السعودية، وكذلك ما نشهده منذ حزيران/يونيو الماضي بين «الدولة القُطرية»، قَطَر، وكل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر أيضا.
المؤلم، بل ربما المضحك المبكي في هذا الوضع، أن من تنطّح ويتنطح هذه الأيام، لإلغاء الحدود والكيانات القُطرية العربية، هو حركات دموية وإجرامية ومتخلفة، تتخذ من الإسلام غطاء، وتُحوّل الأكثر حماسا لدولة «الوحدة العربية»، ليصبح الأكثر حماسا للدولة القطرية العربية و«سلامة ووحدة أراضيها».
هذا الوضع العربي السائد، يوصلنا إلى محطة ضرورة الإجابة عن سؤالين أساسيين:
ـ هل هناك دولة قطرية عربية واحدة، قادرة على حماية نفسها وضمان مصالحها ومستقبل شعبها، حتى على المدى القريب، بل والمدى الملموس أيضا؟.
ـ ما هي البدائل المتوفرة، والممكن توفرها؟.
جوابي على السؤال الأول هو النفي القاطع. بل حتى أنه بين جميع دول العالم الـ193، ليس هناك إلا بضع دول تعد على أصابع اليد (مثل الولايات/الدول المتحدة الأمريكية، وروسيا والصين)، قادرة بمفردها على حماية وجودها ومصالحها ومستقبلها.
هذه الحقيقة الأكيدة، تجعل من موضوع التحالفات، وبما ينسجم مع النظام العالمي السائد، في كل مرحلة ومرحلة/ الضامن الثابت للدولة ومصالح شعبها.
من هنا نصل إلى السؤال الثاني الخاص بالبدائل المتوفرة لـ«الدولة القُطرية» العربية. ونبدأ بتحديد المخاطر وكذلك التحديات التي تواجه كل هذه الدول القُطرية، وكل واحدة منها على انفراد.
ـ بديهي أن نقول إن الجسم الغريب في المنطقة العربية، إسرائيل، هو العدو الحقيقي الأخطر، الذي لا يهدد المستقبل العربي فقط، بل هو دمّر، ويدمّر ما استطاع، الحاضر العربي، بدءاً بفلسطين التي يحتلها ويستعمرها، مرورا بالجولان السوري الذي يستعمره ويستوطن فيه، وانتهاء بتسميمه للعلاقات العربية العربية، والعربية الإقليمية، وأكثر من ذلك، تسميم العلاقات العربية الدولية، مستعينين ومستفيدين من أجل ذلك، بجرائم لتنظيمات إسلامية عربية، ساهمت إسرائيل أساسا في نشوئها ودعمت انحرافاتها.
ـ ثم بعد ذلك دول استعمارية عظمى وغير عظمى، وأولها أمريكا، الحليف لإسرائيل والحامي لها.
ـ يلي ذلك دول جوار قوية، طامعة بالهيمنة على محيطها، والسيطرة على موارد دول هذا المحيط، وخاصة البترول والغاز، إضافة لفرض بضائعها على أسواق تلك الدول، وهي بذلك تدخل حلبة الصراع مع دول وقوى عظمى عالمية، تهيمن على مقدّرات «الدول القُطرية» العربية حاليا ومنذ عقود عديدة. وبهذا يكون صراع دول الجوار، وتحديدا إيران وتركيا، مع الدول المعادية والمهيمنة حاليا على دول عالمنا العربي، وخاصة دول المشرق العربي، صراعا لا لدعمنا وحماية مصالحنا ومواردنا، بل تأمينا لمصالحهم الوطنية والقومية. وبكلمات أكثر وضوحا: إنهم يتقاتلون علينا. إنهم لا يتقاتلون من أجلنا.
إذن، والحال كذلك، ما العمل؟
إذا كانت جميع الدول القُطرية العربية، مهددة في وجودها كما هي عليه اليوم، ولا توجد إمكانية لأي واحدة منها، منفردة، ضمان حاضرها ومستقبلها، يصبح الحل الأمثل على الإطلاق، كما كان ماضيا، وكما هو في الحاضر في المستقبل، هو التكاتف والالتفاف حول الدولة العربية الأساسية الأولى، مصر.
منافع وفوائد الالتفاف حول مصر، والتكامل معها، لا تخلِّص مصر وأهلها من متاعبها الاقتصادية فقط، بل تحولها فعلا إلى رافعة عربية تحمي مجمل مصالح الدول القُطرية العربية والمستقبل العربي بمجمله، وتشكل رادعا حقيقيا يمنع الإضرار بهذه المصالح، بل ويمنع، بالتأكيد، تفكير وتخطيط دول إقليمية ودولية، للإقدام على مثل تلك الخطوة. فهو يخلق تكاملا لا ينتصر في حرب قد تنشب، بل يردع ويمنع نشوب حرب أساسا.
لا حاجة، ولا فائدة أيضا، من البكاء على حليب عربي اندلق وضاع. لكن دعونا نعترف أن أقل من عشرين مليار دولار، من السعودية والإمارات، مكّنت مصر من الثبات والصمود في وجه محاولات أمريكية (وغير أمريكية)، مكشوفة ومستورة. فماذا لو تم مضاعفة هذا المبلغ عشرين ضعفا، ليصبح أربعمئة مليار دولار، تدار بالشراكة والتعاون مع السعودية والإمارات ودول خليجية أخرى قادرة على الدعم والمساندة.
لا شك أن تقديم «السمكة» (من السعودية والإمارات إلى مصر)، أمر بالغ الإيجابية، وجدير بالتقدير، لكن تقديم «الصنارة» هو المطلوب، وهو العمل الذي يعود بمنفعة وفوائد حقيقية وكافية، لضمان أمن وسلامة ومصالح ومستقبل مجموع الدول القُطرية العربية، وليس مصر وحدها. وذلك طبعا من أجل تكامل بين مجموع الدول القُطرية العربية، وليس من أجل خلق محور عربي يواجه محورا عربيا آخر. وكل ذلك تأمينا للمصالح العربية المشتركة الآن، وفي المستقبل المنظور، دون إغلاق الباب أمام طموحات وآمال للمستقبل المتوسط والبعيد.
لن يحمي حاضر ومستقبل أي دولة قُطرية عربية، لا التقرب من إسرائيل، ولا التحالف مع أمريكا، حليفة وحامية إسرائيل.

٭ كاتب فلسطيني

عن الواقع العربي والإمكانيات المستقبلية

عماد شقور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Dinars:

    مستقبل العرب مرتهن بمدى تراجع الغرب الذي يرعى إسرائيل.
    حاليا العرب ليست لهم القدرة على مواجهة الغرب.
    مُفكرو العرب يتفاوت وضعهم أو بالأحرى حالهم من بلد لآخر.
    هناك قوة روسية لو استُغلت لطمس قوة الغرب فإن الضغط الإستبدادي يخف عن العرب.
    المفكرون العرب مطلوم منهم توجيه تلك القوة نحو الغرب حتى يتراجع عن العرب.

  2. يقول محسن عون/تونس:

    نعم الرّاي و نعم القلم. شكرا

  3. يقول خليل ابورزق:

    اكبر جريمة ارتكبت بحق العالم العربي بعد نكبة فلسطين و زرع اسرائيل كانت كامب ديفيد التي قطعت رأـس الامة العربية مصر عن جسدها العربي فاضاعت الاثنين. و تسببت بكوارث كبيرة اهمها انحدار مصر الى الهوة التي و صلتها في جميع المجالات. و وقوع الدول القطرية من الجزائر الى لبنان الى العراق و الكويت و اليمن و سوريا في فتن مدمرة كما رأينا و نرى، و كان من الممكن وأد هذه الفتن في بدايتها لو كان لدينا نظام عربي متماسك برئاسة مصر.
    اما ثاني اكبر جريمة فقد كانت تخريب الربيع العربي (الاصح تسميته الانفجار العربي) الذي وضع بذرة الديموقراطية و الحرية و الامل بالتقدم، و لكن الاموال السعودية و الامارتية بالذات هي التي خربت ذلك و ساعدت على اقتلاع النبتة الصغيرة و هي جنينية فأخرت المستقبل المأمول لبضعة سنين و قد يكون بضعة عقود لحين الانفجار القادم.

إشترك في قائمتنا البريدية