لا تظلموا الذئاب!

حجم الخط
2

من حقك أن تصف المستبدين والقضاة الظلمة والمغتصبين والقتلة وعديمي الضمائر بما شئت، لكن من فضلك لا تستسهل وصفهم بالذئاب، فقد أثبت العلم أن الذئاب تمارس العدالة ما بينها، وتنأى عن ظلم بعضها بعضا.
في كتابهما الممتع «العدالة في عالم الحيوان» يدرس عالم سلوك الحيوان مارك بيكوف وجيسيكا بيرس الحياة الأخلاقية للحيوانات، ويشيران إلى دعوة العالم روبرت سولمون إلى أهمية إطالة النظر في حياة الذئاب، التي تعيش في جماعات، والتي يعتبرها نموذجاً للسلوكيات التعاونية المنظمة، مؤكداً أن قليلاً من الذئاب من يفتقر إلى صفة العدالة، وأن الذئاب تتمتع بحرص شديد على الشكل الذي يجب أن تكون عليه الأمور في ما بينها.
لا يعني مفهوم العدالة هنا شيئاً نظرياً أو مثالياً، بل يعني الحس بما يجب أن تكون عليه الأمور، ولذلك حين ندرس المواقف اليومية التي يجد أعضاء قطيع الذئاب أنفسهم في مواجهتها، سنجد أن الذئاب يراعي بعضها احتياجات بعض، بل واحتياجات الجماعة عامة، بل سيدهشنا قيامها بالموازنة بين اعتبارات الحاجة إلى الطعام، واحترام أفراد القطيع لممتلكات بعضهم بعضا، ما يدفع سولومون للتأكيد على أهمية تعلم المزيد بشأن عدالة الذئاب وأصول عقودها الاجتماعية.
لإعطاء نظرة مركبة للمسألة، يشير علماء حيوان آخرون إلى أن ما يعتبر سلوكا قويما بين قطيع من الذئاب، قد لا يكون كذلك في قطيع آخر، لأن هناك سمات تميز الشخصية الفردية وشبكات العلاقات الاجتماعية التي تنشأ بين أعضاء القطيع، فلا يوجد هناك، كما نفترض «طبيعة واحدة للذئاب»، بل هناك «طبائع للذئاب»، وهو ما يجعل عالم الأحياء الشهير بول إيرليخ يذكرنا بأنه لا توجد طبيعة واحدة للبشر، بل هناك عدة طبائع، لذلك ستجد منظومة أخلاقية أكثر تنوعاً وانسجاماً في قطعان الذئاب المتآلفة، مقارنة بمجموعات ذئاب البراري (القيوط) والذئاب الحمراء الأقل اجتماعية. في الوقت نفسه تكشف الأبحاث الطويلة التي أجراها ديفيد مِك أن ما ينظم أحجام قطعان الذئاب، ليس له علاقة بتعاونها في اصطياد فرائس ضخمة، بل له عوامل اجتماعية، مثل عامل المنافسة، حيث تنهار قطعان الذئاب وشريعتها الأخلاقية إذا ما زاد عدد الأفراد في القطيع الواحد عن اللازم.
يفتتح الباحثان كتابهما بمقولة مقتبسة من كتاب «عقول وأخلاقيات الحيوانات البرية» لوليم هورانداي يقول نصها: «من المحتمل أن يكون هناك عدد من الأشخاص النابهين الذين لا يدركون أن للحيوانات شريعة أخلاقية، وأنهم يعيشون بموجبها ويتقيّدون عادة بها أفضل من تقيّد البشر بشريعتهم». وبعد ذكر أمثلة تثبت أن للحيوانات شريعتها الأخلاقية، وأن لديها القدرة على إبداء التعاطف والإيثار والعدل والإنصاف، يشير الكاتبان إلى تأكيد عدد من الباحثين على أن القرن الواحد والعشرين سيكون قرن الكشف الحيواني، في ما يتعلق بأبحاث الذكاء والمشاعر الحيوانية والحياة العاطفية للحيوانات، حيث تتوالى بشكل يومي الكشوفات المذهلة التي تهدم الفرضيات المسبقة لدى البشر عن الحيوانات، فيثبت أن تعاطف الثدييات لا يقتصر فقط على أقرانها من الجماعة نفسها، بل يمكن أن يشمل الجيران والغرباء الذين يمكن أن تبدي نحوهم مشاعر أقل ما يقال عنها إنها مشاعر تعاطف وتقمص وجداني، خذ عندك مثلاً ما تم كشفه عن قيام الخفافيش مصاصة الدماء بمشاركة وجبتها التي تستخلصها من الماشية مع نظرائها الذين يفشلون في تأمين طعامهم، خصوصاً إذا كانت هذه الخفافيش قد شاركتها في الطعام من قبل، وقيام الجرذان بمعاونة الجرذان الغريبة عنها في العثور على طعامها، لا سيما إذا ساعدها جرذ غريب عنها من قبل.
يعرض الكتاب لاستنتاجات العلماء المختلفة حول علاقة الحيوانات بالقسوة والعدالة والإنصاف، وفي أحد فصوله الممتعة يعرض لممارسات الإنصاف في المعاملة خلال اللعب عند الكلاب وذئاب البراري، حيث تتطلب الآليات الاجتماعية للعب أن يوافق اللاعبون عليه أولاً، وألا يقدم أحدهم على التهام الآخر أو قتله أو التزاوج معه، وعند خرق هذه التوقعات لا يستجيب الآخرون إلى هذا الإجحاف، فيتم إنهاء اللعب ويتم تجنب الأقران الذين طلبوا اللعب ولم يحترموا القواعد، وهو ما تمت ملاحظته أيضاً عند دراسة اللعب لدى حيوانات الكنجارو، التي ثبت أنها تعدل لعبها حسب سن رفاقها، فمتى كان رفيق اللعب أصغر سناً، يعتمد الحيوان الأكبر وضعية دفاعية مسطحة، وتحل المناوشات الخفيفة محل القتال العنيف، وهو ما يشبه إلى حد كبير تتابعات اللعب عند الجرذان، التي ثبت أنها تعلي من أهمية الإنصاف والثقة خلال تفاعلات اللعب، حيث يحاول الجرذان اللذان يلعبان الحفاظ على علاقة تماثلية كي لا يؤذي أحدهما الآخر، ويميل الجرذ الأقل حجماً إلى القيام خلال اللعب بتصرفات عبثية للتأكيد على أن الهدف هو اللعب وليس الشجار.
لا يقدم الكتاب توصيفاً مثالياً لعالم الحيوان الذي يذكرنا وليم هورانداي بأنه «يحفل بنصيبه الوافي من الأبطال، كما أنه لا يخلو من الأشرار والمتنمرين والجبناء والقتلة». كما يدرك مؤلفا الكتاب عدم ارتياح عدد كبير من الناس إلى فكرة خلع صفات أخلاقية على الحيوانات، لأنهم يرون في ذلك تهديداً للتفرد الذي يتمتع به البشر، ولذلك يفردان قسماً من الكتاب لمناقشة ما يطرح من إشكاليات حول عدالة الحيوانات ومسؤوليتها الأخلاقية، ويحرصان على التأكيد على أن الحيوانات كائنات مسؤولة أخلاقياً في السياق المحدود لمجتمعاتها، فأخلاق الذئاب تعكس ميثاق الشرف الذي يوجه سلوك الذئاب داخل مجتمعها، فتصبح الذئاب كائنات مسؤولة أخلاقياً في هذا السياق فقط، لذلك لا تشعر بمسؤولية أخلاقية تجاه الأيل حين تقوم بافتراسها.
لكن ذلك لا يمنع وجود اختيارات أخلاقية تقوم بها فصائل من الحيوانات كالثدييات مثلاً، وهو ما يجعل مجموعة من الفيلة تنقذ مجموعة من الظبيان الأسيرة، وأنثى خفاش فاكهة تساعد أنثى أخرى لا ترتبط بها بأي صلة في أثناء الولادة، وقطة تساعد صديقها الكلب العجوز الأصم الكفيف على تخطي العقبات في الطريق إلى طعامها، ومجموعة من قردة الشمبانزي تضرب القردة التي تأخرت على العشاء عقاباً لها، لأنه من غير المسموح لأي قرد أن يشرع في الأكل قبل حضور الجميع، وتجعل طائر الغداف الذي ينتمي إلى فصيلة الغربان يتضامن مع أقرانه من أجل الوصول إلى صينية طعام لا يستطيع طائر بمفرده الوصول إليها، والضباع المرقطة تتعاون مع بعضها في الأسر للحصول على الطعام بدون أي تدريب، وتقوم الذئاب بتوزيع الطعام بحيث يسد أفراد الجماعة كلها حاجتهم، وكل هذه أمثلة لسلوكيات أخلاقية، رصدتها دراسات عديدة جعلت العلماء على يقين بأن الحياة العاطفية للحيوانات لا تقل ثراءً عن حياة الإنسان، وهو ما تواصل الدراسات اكتشافه المستمر، لتزيد من معرفتنا بعالم الحيوان، ولعلها تنجح في إنقاص غرورنا ورغبتنا في نفي الظلم والعدوانية عن أنفسنا كبشر، بنسبتها إلى الذئاب وغيرها من الحيوانات الضارية، التي لا نحتاج إلى أن نكون علماء متخصصين، لنؤكد أنها لم ترتكب جرائم مروعة كالتي ارتكبناها نحن البشر في حق بعضنا بعضا، ولا نزال، وسنظل.

ـ «العدالة في عالم الحيوان» ـ مارك بيكوف وجيسيكا بيرس ـ ترجمة فاطمة غنيم ـ هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)

٭ كاتب مصري

لا تظلموا الذئاب!

بلال فضل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    في معشر كل جنس حيواني قوانين غريزية يحترمها الجميع كممالم النمل والنحل مثلا لكن الانسان الذي يتفرد بين الحيوانات بان قوانينه وضعية وليست غريزية وهو اول من يخرقها انظروا الى قوانين الدول العربية فاول من يخرقها هم الذين يدعون حمايتها وهل ههناك من حيوان واحد حتى الأسد ملك الوحوش يعطي امرا بقتل بني جنسه الا اسدنا الذي قيل عنه انه حيوان

  2. يقول طه مصطفى - النمسا:

    في زمان كانت المرأة كائن بلا قيمة في أكثر المجتمعات , وكان إستعباد البشر بعضهم البعض شئ عادي ومقبول, ينزل الوحي ليقول للناس (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم).
    والشاعر اللذي فهم أن العدل عند الذئاب أفضل من عدل الانسان فقال (وليس الذئب يأكل لحم ذئب– ويأكل بعضنا بعضا عيانا)
    دراسة رائعة تأكد حقيقة أننا كبشر لسنا مفضلين على الحيوانات كخلق, بل لكوننا مكلفين ومخيرين , فالتفضيل هنا وظيفي وليس على أساس طبقي!
    تحياتي أستاذ فضل !

إشترك في قائمتنا البريدية