تطور وسائل إنتاج النخب على يد السلطة بالجزائر

حجم الخط
1

تظهر التجربة المجتمعية في الجزائر، أن إنتاج النخب قد لا يكون بالضرورة شرطا مجتمعيا ببروز وتطور عموم خطابه المعرفي والأيديولوجي المتنوع، فقد تتولاه بالاصطناع والتخليق جهات حريصة على مصالحها، ليغدو جهازا موجها ضد حركة التاريخ، لهذا تظهر النخب الجزائرية، إما تائهة في زوايا خاطئة من الرؤية لمعضلة المجتمع، وتنخرط في جدالات تصلح للاستئناس الأيديولوجي، كما هو شأن مسألة الهوية، اللغة، حقوق المرأة وقانون الأحوال الشخصية، وإما مندرجة في سياق التطور الهجين وغير المنطقي الذي تحرص عليه السلطة بإغراءات المال، الذي شمل بإغرائيته تلك كل المجتمع.
الحقيقة أن شمولية القبضة على المجتمع الجزائري من يوم استلمت من يد الاستعمار من قبل جماعة وجدة، حكمت على ألا يُسمح له بأي محاولة للتطور خارج النسق الذي تراه وترتضيه له تلك الجماعة، على صعيد الخيال، كما على صعد الحراك التاريخي الأخرى، ومن ذلك مسألة إنتاج النخب، التي يتيحها الوعي والبطش في التاريخ بتلقائية الحال وطبيعة الشيء، ففي كل مرة تتدخل السلطة في ذلك لتمسخ مسار نشوء الجماعات والنخب العاكسة لمستوى وحال الوعي الحاصل، ما فجّر صداما دائما بين المجتمع والسلطة، لتصادم صدى وصدأ خطابها مع وميض الأمل الذي تحلم به الأجيال، في تفاعلها مع حركة التاريخ الدائبة في التطور، بعيدا عن كل مكبلات السلط الأيديولوجية والسياسية والمالية، وهنا نتساءل كيف تمسخ السلطة في الجزائر النخب، وتستنسخ جماعتها المعيدة لإنتاج خطاب الأمل والخوف على الذات الوطنية، الذي به كرست نفسها صاحبة الحق «الوطني» دون سواها من أجيال الأمة؟
تذهب كل الدراسات والكتابات التي تناولت علاقة السلطة في الجزائر بالمجتمع، على أنها كانت ذات طبيعة ملتبسة، قائمة على الإكراه والاسترابة الدائمة، سواء من هذا الطرف أو ذاك، فلكون السلطة لم تنبثق كما يقتضيه شرط التاريخ من أول لحظات ميلاد الوطن والوطنية المستقلة من إرادة الأمة، حرصت السلطة على ألا تسمح بخروج الوعي وخطابه عن إرادتها، أو خروج إرادة الوعي عن خطابها، فتغوَّلت بكليتها في مناطق إنتاج الوعي والإرادة المستقلة عن السلطة ومشروعها للاستدامة على رأس الأمة، معنى ومبنى، وبذلك استحوذت توجيها وتوظيفا على كل منابع تفجر النخب القاطعة مع لحظة القلق التاريخي للوطنية الفتية المتولدة عن كفاح سياسي وعسكري طويل، كلّف الأمة أغلى ما لديها من رؤوس مال، بشرية، معنوية ومادية.
ولكون سلطة المعرفة أرحب وأكثر قوة من سلطة السياسة، كانت النخب المعارضة لإرادة ومشروع الحكم المارق عن إرادة الأمة وشط التاريخ في الجزائر، لا تفتأ تنفلت من القبضة الخطابية والمؤسسية للجماعة الحاكمة، وهو أعاد سؤال انبثاق السلطة طريقته، حقيقته، وأحقيته ليشمل كل شرائح المجتمع بعدما كان محصورا في النخب السياسية ومثقفي اللحظة الوطنية الأولى، مؤذنا بانتشار الوعي وما يستتبعه من إرادات التغيير بموجاته المتتالية. لقد مثلت فترة الأحادية، بحق ربيع العمل النخبوي المنصرم والمنفلت عن إرادة الاحتواء والتدجين السلطوي في الجزائر، فرغم القمع والتنكيل، كان مشروع الاختلاف وحلم التغيير يلوح متراقصا في الأفق، يجذب إليه جحافل الأجيال العالقة في وحل الكابوس السلطوي، ويتسع باتساع نطاق الوعي الذي كان يأتي على الخطاب الرسمي، رغم قوة وسائله الضخمة المتأتية من وسائل الدولة، أي الوسائل العامة.
كانت الوطنية ومسألة تحريرها من القبضة الانقلابية وسلطة الاستدامة على مقدرات البلاد والجثوم على مستقبل أجيال الأمة، هي قطب الرحى في معركة نخب المجتمع، المارقة عن مشروع السلطة الانقلابية وهذه الأخيرة التي رفضت الاستسلام لطبيعة التطور الحاصل على مستوى أنساق الحكم وأساليب إدارة الشأن العام التي توالت في العالم مذ سقطت الدولة الحارسة الأمنية بسقوط جدار برلين، وراحت تتلون بدون أن تتغير في العمق، تسعى دوما للاندراج الشكلي وسط هذا التغيير الذي كان عالميا وصار عولميا، من ذلك أنها حولت الوطنية التي حملتها منذ انقلاب 1962 مفهوما وممارسة عن إطارها الأول ذي المفهوم النازع أكثر للبعد الأيديولوجي، نحو الإطار الواقعي المادي، مع حفاظها على وسائل إنتاج النخب التي تسوق لخطابها، على المستويين الرمزي والمادي.
إصرار السلطة على التموضع في سياق عالمي جديد يضبط مسألة الحكم، ويجدد المفاهيم المرتبطة به، مع اندحار اليسار من الصراع القطبي وتراجعه في مسرح النزاعات الجيوسياسية العالمية، بالانتقال مع الموج الجيلي العاصف القادم من سوق الوطنية السياسي، الذي حفلت به مؤسسة التنشئة السياسية والثقافية كدور التعليم بمستوياته الثانوية والجامعية، الذي كان موضع تكسر وانكسار خطاب السلطة، رغم جمعياتها وجماعاتها التي أنشأتها إذ ذاك داخل ما كان يعرف بالمنظمات الجماهيرية، والتي كانت تغدق عليها المال والوسائل العمومية الضخمة، لتحيل الكل إلى وطنية السوق، حيث المال يشتري ويجرف الجميع بالاستثناء الصغير الذي لا يؤكد القاعدة.
المال صار الوسيلة البديلة والمبتذلة لخطاب الوطنية ذات المنشأ الاستقلالي، التي تماهت فيها السلطة وقولبت فيها وعي الموطن لعقود ثلاثة تلت الاستقلال، وهذا عبر إنشاء مصادر خاصة تنهل وتنهب من المال العام، لتضفي الطابع العالمي على نموذج الدولة المتحولة من نموذج إلى آخر، وتؤكد انخراطها في الموديل الدولي الجديد القائم على اقتصاد السوق، وحرية التملك بوصفها مظهرا من مظاهر الخضوع لحكم نهاية التاريخ! فظهرت نخب مالية بشكل صادم مصادم للمنطق بشكل فجائي، قاطعة من نسق تطور رأس المال الصغير في الجزائر الذي كان ينشأ رويدا عبر حركة المقاولات الصغرى، التي ظهرت بداية السبعينيات، والتي كان يفترض أن تغدو البديل الخاص الموضوعي للقطاع العام، لكن بقاء إرادة السلطة السياسية الانقلابية الأولى، مبسوطة على منابع إنتاج كل النخب بما في ذلك الاقتصادية، رفض ما تفرضه طبيعة الأشياء وعصف بحالة التطور الطبيعي تلك، منتجا نخبا مالية ذات خلفية اجتماعية مناطحة لمنطق الأمور، ذلك لأنها تنحدر كلها أو جلها من الطبقات الشعبية البسيطة، إن لم نقل الفقيرة! وهذا بإعطائها امتيازات بنكية عمومية.
الموجع في كل ما سلف هو أن هذه النخب المالية المصطنعة صارت هي المتحكم في باقي النخب، لاسيما منها النخب المعرفية التي على صخرتها تحطم وهم الوطنية الانقلابية في فترة الصراع السياسي بين المجتمع والسلطة، في ما عُرف بالفترة الأحادية. فنظام الحكم اليوم القائم على مستوى جهازه التنفيذي الخالص على نخب تكنوقراطية أو خريجة المدرسة الوطنية للإدارة، لم يعد يجد غضاضة في السير وفق إملاءات أصحاب المال أو الأوليغارشية الجديدة، ما خلق خطابا وطنيا لا يستقيم فيه على نسق محدد طبعه التنافر بين كل المستويات، وهو ما خدم الحكم أكثر مما خدم طرفا آخر، سواء في المعارضة أو جماعات الضغط الحرة الحقوقية منها والنقابية. وفي سياق نقد العلاقة المضادة الطبيعة، التي جمعت نخب المال المصطنع بنخب المعرفة والسياسة، نُسب إلى أحد عناصر الاوليغارشية المصطنعة، رغبته في افتتاح أول الجامعات الخاصة بالجزائر! فالمال المنزوع من كل قوى التأسيس الأيديولوجي، الضمير الوطني والمشروع المجتمعي المرتجى من الكل، هو ما صار يجذب المتعلم والمثقف النخبوي، مثلما يجذب المواطن البسيط، الساعي خلف لقمة العيش، في مشهد أكثر من دراماتيكي استحال إليه المجتمع الجزائري بفعل أزمة حكم سياسية، بدأت بمغامرة طائشة من جماعة مغامرة في الحدود وانتهت إلى عمق جامعة مغمورة لا تنتج إلا الرداءة، خارجة عن كل التصنيفات الدولية والاقليمية لمؤسسات إنتاج العلم والمعرفة، تتبع أصحاب المال طاعة واستطعاما.
كاتب صحافي جزائري

تطور وسائل إنتاج النخب على يد السلطة بالجزائر

بشير عمري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الحفيظ بن جلولي /الجزائر:

    تحية طيبة أستاذ بشير،،
    إنّ الرّؤية السوسيو/ تاريخية للحالة الوطنية في شقّها النّخبي تستلزم الكثير من الرّؤية والرّؤيا، لأنّ واقع الحال اختلط حابله بنابله من حيث مستلزمات اللحظة الوطنية القابعة تحت نير الانتكاسة التاريخية المتعلقة بمردودية العقل والإعاقة المجتمعية المرتبطة أساسا بمفهوم المنظمات الجماهيرية الخارجة لتوها من عباءة الإيديولوجيا، والمناهض لمفهوم التنشئة، وإذ يحتكم المعيار العقلي في قراءة المشهد الوطني سوسيولوجيا، ترتسم حالات الوضعنة أمام بنيات الكينونة العارفة بالضرورة، فهل المعرفة انتجت كينونة النخبة، أم انتجها وضع المؤسسة الهجينة التي تختلف شرطيا مع مفهوم الوعي المعرفي؟
    لا يمكن لنظام لا ينتج مدلولاته ورمزياته وعلاماته أن يبادر إلى التعامل المتكافئ والضرورة المعرفية مع نخبه، وبالتالي ينكفئ على ذاته منتجا الضرورة ال”بوليتيكية” بتعبير مالك بن نبي للاحتياط ضد العقل الناقد والمستنبت داخل حقل الحفر والنّاهض في فضاء التغيير، وهو ما لا تسترضيه السلطة داخل حقلها الثابت والمتمرجع بالشرعية التاريخية خارج أية شرعية للمجتمع، وفي هذا لا أرى أنّ السلطة تبادر مفهوميا إلى إنتاج نخبها، بالمفهوم الانثربولوجي والتاريخي لمفهوم النخبة، لأنّ حالة المجتمع والمؤسّسة السياسية التي تشتغل خارج المعايير المضمونية للمؤسسة، لا تملك الرؤية التي تؤهلها لإنتاج هكذا مشروع يخدم طبقتها ومستواها السلطوي، لأنّ ذاك حينها سوف يعبّر ورؤيويا عن حالة التمعرف النشط الدال على حركة الكيان، وهو ما لا نراه في واقع اللحظة الوطنية، فرؤيا الإنتاجية النّخبية يستند تاريخيا إلى مفهوم “المثقف العضوي” ولا يخفى سياق إنتاج المثقف الأوروبي من حركة البرجوازية داخل بوتقة التأسيس للطبقة المؤسّسية في بانوراما الاشتغال السياسي/الثقافي.
    لكن هل انحطاط الجدار السّياسي الوطني ينفي وجودانية النّخبة “المارقة” التي لا تستجيب لإغراءات السلطة، منتهكة بذلك نظام التأسيس التدجيني للعقل الوطني؟
    يبدو لي أن التحدي الأوحد أمام العقل الوطني يكمن في قراءة المشهد الثقافي بالرّؤية السوسيولوجية الباحثة عن جذر الكمون الثقافي في بذور النخبة المارقة، لأنّها هي التي تمهل الوعي الناقد بكل إمكانات الحفر النبيه داخل أمكنة الوعي التابع أو المشروطية الناجزة التي لا ترى وفق أدواتها ولكن ترسم شاشتها وفق إملاءات السلطة لتعيين عقل منتهي الصلاحية.

إشترك في قائمتنا البريدية