وحده شاب يدعى رياض طوق انفرد، بين مجموعة الشبان والشابات الذين يخوضون تجربة الترشح للانتخابات النيابية هذا العام، بالتوجه إلى «الطبقات الشعبية»، وعدم الاكتفاء بمصطلح «المجتمع المدني» ومشتقاته. مع ان هذا الشاب الذي حصّل تجربة في العمل التلفزيوني في العقد الأخير، لا يأتي من خلفية يسارية، متوفرة لدى عدد من هؤلاء المرشحين، بل من خلفية «يمينية مسيحية»، بل «قوات لبنانية»، وهو يخوض في نفس الوقت التحدي الانتخابي ضد «القوات» في عقر دارها ببشري، وضد ستريدا جعجع مباشرة، بعد ان كانت له تجربة في دعم لائحة منافسة للقوات في الانتخابات البلدية.
استفاد رياض من عمله التلفزيوني لاعداد فيديو موجز توجه به إلى ناخبيه، وبثه على مواقع التواصل الاجتماعي، بمبالغة «انقلابية» اذ حمل عنوان «الفيديو رقم 1». ومع انه لم يطل الشرح في ما يقصده بالطبقات الشعبية، ومع انه جعل من خطابية مواجهة «الطبقة السياسية» عنوان لدقيقتي كلامه في الشريط، دون ان نفهم إذا كان هناك من طبقات او شرائح اجتماعية معادية للطبقات الشعبية، او انها فقط «الطبقة السياسية»، ومع ان الكلام ضد «الطبقة السياسية» امتهنته منذ وقت طويل في لبنان مجموعات يصعب احتسابها من خارج «الطبقة السياسية والامنية والحاشيات الاعلامية المصاحبة لها»، إذا ما احببنا التجاوز في التعبير، ومع ان «الكتائب» غير بعيدة عن هذا الترشيح، في البازار التمهيدي عشية الانتخابات، يبقى لهذا المرشح الامتياز، بين مرشحي جيله، الذين تحولوا إلى ظاهرة حقيقية في خوض الاستحقاق الحالي، اولا لأن عددهم ملحوظ، وقسم منهم ما كان يحق له حتى الانتخاب في الاستحقاق الماضي، عام الفين وتسعة، وهم يمثلون على طريقتهم نقمة على التمديد التعسفي للمجلس الحالي خمس سنوات بعد ولايته المحددة باربع سنوات، وثانيا لأنه يصعب وضع سيناريو حسابي معقول لتوقع وصول اي منهم للندوة البرلمانية. امتيازه بين المرشحين الشباب المستقلين، انه قدم نفسه كابن الطبقات الشعبية، او كمتوجه لها، في وقت ارغى وازبد سواه في الحديث اما عن «الناس» واما عن «المجتمع المدني» (التي صار تداول يافطته من الاعتباطية والعشوائية بمقدار في السياق اللبناني) او عن «الشعب».
هو بهذا المعنى استثناء يثبت قاعدة. ان هذه الانتخابات لا مكان حقيقيا فيها للمفاصلة، الاقتراعية، بين الطبقات الاجتماعية، وهي في الوقت نفسه يكثر فيها هنا وهناك التشكي والحنق من امر «الطبقة السياسية». حتى «الحزب الشيوعي»، فالاولوية عنده هي الاقتراع ضد قانون الانتخاب لأنه فرّغ نظام التصويت النسبي من مضمونه، وليس للمفاصلة الطبقية بالاقتراع العام. كذلك نقيب المعلمين السابق نعمة محفوظ، الذي اقترن اسمه طيلة العقد السابق مع زميله، والامين العام للحزب الشيوعي فيما بعد، حنا غريب، في النضال لاجل اقرار سلسلة الرتب والرواتب، فانه اعتبر ان فشل مساعيه ومساعي غيره في توحيد صفوف قوى المجتمع المدني في طرابلس لاجل خوض معركة متكافئة مع قوى السلطة او الطبقة السياسية، كما كانت تجري التسمية، يجعل ينتقل إلى الخطة باء، الانضواء ضمن لائحة «تيار المستقبل». سواء وافق المرء على هذا التسويغ او لم يجاره فالخلاصة واحدة: انه التوجه للطبقات الشعبية امر غير مطروح جديا عند سائر الاطراف التي تخوض الاستحقاق هذا العام، مع ان اكثر المدرجين على لوائح الشطب هم هذه من الطبقات الشعبية، وقد احسن هنا الكاتب في صحيفة «الاخبار» التذكير بأن ابرز حركة مطلبية قامت في السنوات الاخيرة في لبنان، اي التحرك لاجل سلسلة الرتب والرواتب، كانت تعني مصالح الطبقة الوسطى، وليس الطبقات الشعبية التي هي اما دون مستوى الفقر او ينتظم خط الفقر كأفق كابوسي واقعي يومي يمكن ان يباغت ابنائها في اي يوم.
واذا كان يمكن لخطابية «الطبقات الشعبية» ان ترد في ماضي «حركة امل» او «حزب الله» او حتى «القوات» بأي شكل من الاشكال، فانها لم تعد في مقال هذه الحزبيات الاوليغا ـ شعبية بهذا الحضور اليوم، في حين يبدو «تيار المستقبل» اكثر انسجاما مع نفسه من هذه الناحية، اذ هو يحدد معيار النجاح الاقتصادي في برنامجه الانتخابي، بتنمية عديد الطبقة الوسطى.
طبعا، سنونوة واحدة، حتى بفيديو رقم واحد، لن تأتي بالربيع. لهذا الشاب، رياض طوق، امتياز «استذكار» الطبقات الشعبية، يكاد يكون لوحده، لكن ليس هناك في كل المشهد الانتخابي اللبناني الحالي من يمكنه ان يتقبل اي هدفية لاعادة توزيع الثروة في لبنان كما لو كانت هدفية واقعية، في حين ان الواقع لن يكون واقعيا الا بالتداول في هكذا هدفية. الكثير من رطانة ضد فساد الطبقة السياسية يفضي غشاوة على الحاجة إلى هذه الهدفية، خاصة عندما لا يكون الكلام ضد الفساد مقرونا بمشروع لاعادة احياء الآلة الاساسية المفترض ان تقوم بملاحقة المفسدين، وهي القضاء، وهو ما لن يتأمن الا بالتكريس الفعلي للقضاء كسلطة دستورية من بين ثلاث، الامر الذي ليس بهذا الوضوح حتى في نص الدستور اللبناني، الذي لا يفرد بابا للسلطة القضائية موازيا للسلطتين التشريعية والتنفيذية، ولا ينيط باي مرجعية قضائية التحكيم في النزاعات التفسيرية للمواد الدستورية، ناهيك عن تشكل مرجعية فاصلة اساسية في قضايا حقوق الانسان، وكل هذا لن يتأمن الا بتثبيت سيادية القضاء، بالنص، وباعتماد آليات انتخابية للقضاء، بمن في ذلك من الناس، وخصوصا المدعين العامين. غير اصلاح جذري للقضاء، يساهم فيه تحرك ضاغط على القضاء، وتحرك ضاغط من داخل القضاء، فان كل الكلام عن مكافحة فساد، او حتى بالاعم المجمل عن احقاق العدل، يبقى كلاما اجوف، مثلما هو العدل من دون افق برنامجي للعدالة الاجتماعية اجوف، مثلما هي العدالة الاجتماعية من دون اعادة توزيع «ما» للثروة في مصلحة الطبقات الشعبية ستبقى شعارا ميتا.
بالتوازي، فكما في مسألة النظام السياسي، الامر نفسه بالنسبة إلى احداث تعديل في النظام الاقتصادي الاجتماعي للبلد. في الحالة الاولى، يتهم حزب الله من لدن اخصامه بأنه يرغب في تبديل النظام (المتمحور حول الثنائية الإسلامية المسيحية المتناصفة) واحلال المثالثة (مسيحيون وسنة وشيعة)، لكن النظام القائم يتأبد بهذه التهمة ايضا (فحزب الله حزب تحكمي بادوات تشغيل وتعطيل النظام، وليس حزبا ثوريا صاحب فكرة بديلة جديا للنظام القائم). وهكذا، حتى في عز سيطرة الحزب، سيذهب اللبنانيون بعد شهرين لانتخاب 34 نائبا مارونيا، في مقابل 27 نائبا شيعيا و27 نائبا سنيا (والقاصي والداني يعلمان المسافة الكبيرة بين الواقع الديموغرافي وبين هذه «الديموغرافيا البرلمانية»)، ولو طرح حزب الله تعديل مقعد واحد في هذا التعداد ستقوم القيامة ولا تقعد بأنه يريد الاجهاز على الصيغة اللبنانية. يمكنه ان يكون الحزب المقرر من الرئيس، لكنه لا يمكن ان يبدل، في الشروط الحالية، اي من مفاتيح هذا النظام. نفس الشيء في الاقتصاد والمال. كيفما تأرجحت علاقته بالمصارف، ومهما اغتاظ اصحاب الاعمال من امكانية تسخين مفاجىء مرتبط بحزب الله، في الداخل او في الاقليم، فانه طالما الحزب هو بهذا الوزن، واخصامه بهذا الضعف، فان مقال «العدالة الاجتماعية» على قلته وهشاشة حضوره وتقادم شعاراته لبنانيا، يبقى معتقلا، اما في باب تأجيل الكلام فيها إلى «ما بعد حل مشكلة حزب الله»، او إلى «مناجاة حزب الله علّه يأخذ القضية الاجتماعية على عاتقه.. في حين ان اي طرح عملي، لمسألة «حزب الله» والعلاقة بينه وبين الآخرين، مفصولة عن التصدع المتصاعد في النظامين السياسي والاقتصادي الاجتماعي للتركيبة اللبنانية، يدور اكثر فاكثر في حلقة مفرغة، كان لها قدرة تعبوية قبل سنوات، واقل واقل اليوم.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
متى كانت الديمقراطية سمة الحياة السياسية في لبنان؟ أليست هي جمهورية وراثية لمجموعة عائلات ترأست الطوائف بعد ان فصلت فرنسا دولة من ضلع سورية لتكون دولة مسيحية في الشرق مقابل ما فعلته بريطانيا في فلسطين: دولة يهودية؟ جميل، ( جعجع و عون حالتان افرزتهما الحرب اللبنانية) جنبلاط، أرسلان، الأسعد، ( بري حالة طارئة ورثها بالحيلة بعد اختفاء موسى الصدر في ليبيا وقد تقلد المنصب كرئيس للبرلمان مدى الحياة)، كرامي، سلام، ( حريري حالة طارئة بتدخل مال سعودي). وهذا البرلمان العتيد مقاعده وراثية أو تعويضية عائلية كما حصل بالسيدة معوض بعد ان اغتال المجرم الكبير المقبور حافظ الاسد زوجها الرئيس رينه معوض، وهل لهذا المجلس اي سلطة مع سيطرة حزب الله على مفاصل الدولة وهذا غيط من فيض..