التطور ذو النموذج الغربي يحتوي على مساوئ كثيرة، حيث أن رفاهيته تُعمم البؤس في أجزاء كثيرة من العالم، وفردانيته تحتوي على الأنانية والعزلة، وقوته المنفلتة تؤدي إلى الموت النووي في مشهد التسابق نحو الإعلان عن أحدث الأسلحة النووية في كل مرة.
ومثل هذا الطريق الذي يختزل فكرة التطور بطابعه التقني والاقتصادي أساسا، يتجاهل معطى الحياة والتعايش الإنساني، ويشكل خطرا على الإنسانية بفعل التقنيات الحربية المتطورة، فكل تقدم إذا كان ماديا وتقنيا فقط يعتبر تراجعا بمعنى آخر. فالأمر يتعلق بتهذيب العلاقات الإنسانية، وهو المرغوب فيه على مستوى كوني، ويتعين على الجميع الدفع باتجاه السلام العالمي وإيجاد سبل أخرى أكثر نجاعة لتنظيم العالم. ولا قيمة لعلم يفتقد الأخلاق ولا يخدم القيم العليا التي بشرت بها الحداثة في فكرها التنويري، ويبدو أن تلك الذات المفكرة التي غيرت موقع الإنسان الغربي من الخضوع للسلطة الزمنية، أو لتلك السلطة التي تدعي القداسة والألوهية نحو جعله ذاتا حرة ومستنيرة حريصة على المصلحة الإنسانية العامة، لم تكن تُدرك أنها مدت الأجيال اللاحقة المتحكمة في مراكز القرار السياسي ترسيمة معرفية وعلمية وُجهت في المسار الخطأ، فانتهت إلى استعباد الشعوب الأخرى، التي لم تكن غازية ولا مُعتدية في يوم من الأيام. وانكشف الوجه القبيح للغرب الاستعماري التوسعي مع حقبة الاستعمار الكولونيالي، وازداد اتضاحا بعد نهايتها وتحديدا مع سقوط الاتحاد السوفييتي وتشكل القطب الواحد بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، التي مارست دور شرطي العالم، لما يزيد عن عقدين من الزمن، اكتفت خلالهما دول كبرى نظرت لحرية الإنسان وحقوقه الكونية بالمتابعة والتذيل للعم سام وأهمها فرنسا وبريطانيا.
ويتضح اليوم أن الصراع الدائر، إنما هو صراع نماذج حضارية بين من يرى الاستهلاك والسيطرة الهدف الأول من الوجود، تحت شعارات مكيافيلية وتصورات داروينية، ومن يعتبر أن هناك قواسم مشتركة، ويُمكن أن يتوفر الإخاء الإنساني والتعايش السلمي بين مجتمعات تُبنى على العدل والإنصاف. فالقضية حضارية قائمة على الصراع بين رؤية تدعو إلى الخضوع للعقلانية الأداتية، تحت سلطة التقنية والتكنولوجيا التي خدمت مشاريع الهيمنة ومطامع السيطرة، مقابل حضارة تدعو لتجاوز أسباب النزاع والاحتراب وتحقيق التعايش الإنساني على قواعد الندية التشاركية والتفاعلية الثقافية بما يخدم المشترك الانساني فضيلة اختلاف لا جُنوح خلاف.
ومع غياب سمة التوازن الدولي، تم البحث عن أشكال جديدة للهيمنة والاستعمار غير المكلفة، فكان الحل في استعمار العقول وتصديرها نحو متاهات الجهل والعطالة وجعلها حبيسة حداثة مادية تنغمس في ثناياها، بدون أن تدرك أنها مخدر إدراكي جاهز. ووجد أصحاب مشروع إلغاء الفعل العربي في التاريخ، أنفسهم محتاجين لإعلام مأجور يوجه الرأي العام ويطبق الأجندات المسطرة والمَوْكُولة. ولعل الدور الأهم في كل ذلك كان لوكلاء الغرب، من سياسيين مدفوعي الأجر عملوا على تشييد الأنظمة الديكتاتورية العربية، وهندسة بقائها وتمتين فعل سيطرتها على الشعوب، ومحو طاقاتها وطمس إمكانية فاعليتها الفكرية والمادية إرضاء لأسيادهم. وهكذا ضمنت القوى الامبريالية التبعية السياسية والاقتصادية، وأزالت أي إمكانية للتكامل المادي بين الدول العربية والاسلامية، ولم تكتف بذلك بل توجهت نحو ضرب الإنتاج الرمزي والمخيال الفكري والثقافي، بأن جعلت أفسد النخب تسيطر على الثقافة والتعليم في الساحة العربية، الأمر الذي دفع إلى تراجع هذه الأوطان فكريا وعلميا، فشهدت بذلك عطالة ثقافية لا مثيل لها في التاريخ الحضاري العربي الإسلامي، استُعبد في سياقاتها المثقف العربي ووُجه قسرا وإملاء، كما تقلصت إمكانيات البحث العلمي في مشهد هزيل ومخجل، يكاد يكون ضحكا على الذقون، وتفويتا مُمنهجا في الفرص في أوطان قادرة على النهوض والتقدم واستئناف دورها الحضاري والعلمي المتحقق تاريخيا ووثائقيا.
مثل هذه السياسات الخاطئة والمشاريع التوسعية أضاعت إمكانية التواصل الثقافي والديني، وبدل أن تتشكل نقطة انطلاق حقيقية للحوار بين الغرب المسيحي والعالم الاسلامي، تحولت نقاط التشابه والتجاور بين العقيدتين إلى مصدر صراع ونزاعات متعددة، تُرجمت سياسيا ودينيا وثقافيا وحضاريا. فلم ينعم العالم كله بالسلام منذ سنة 1914 تاريخ اندلاع الحرب الكونية الأولى وحتى الآن، وهي مسافة من الزمن مليئة بالعنف والحروب في أوروبا وإفريقيا وآسيا، وأبرز ما شهده العالم منذ سقوط جدار برلين تزايد عدد اللاجئين والمهجرين قسرا والذي فاق حسب احصائيات أممية الأعداد الهائلة التي وقع تهجيرها في أعقاب الحرب العالمية الأولى. والحروب التي شهدتها الألفية الثالثة خلفت نكبات كبرى أبرزها مثالا الحرب على العراق، وهي شهادة للتاريخ تحفظ عمق الديمقراطية الأمريكية ونزاهة القيم التي تتشدق بها.
إنه الامتداد التاريخي للنزاعات، وهي القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق القوة العسكرية أو عن طريق الجاذبية، بدلا من الارغام أو دفع الأموال، جاذبية الثقافة أو السياسة لبلد ما، وهذا ما يدعوه جوزيف ناي، بالقوة الناعمة وهي ليست ضعفا، بل هي شكل من أشكال القوة التي طُبقت عمليا، ومثل هذه المسارات خلفت تاريخا طويلا من القلق السياسي والأخلاقي والديني ووفرت التحريض والكراهية أكثر من التبصر والبصيرة.
كاتب تونسي
تحياتي
تسلم أبو تاج الحكمة . تحياتي لك ابن سوريا الحبيبة.
شكرا على لطف العبارة .