معدل الهرولة نحو علاقات التعاون والشراكة العربية مع الدولة الصهيونية يسير بمعدلات تتجاوز كل حد، وانتقل من التطبيع العادي إلى «الصهينة» الكاملة، وغطت مجالات متعددة ومتنوعة من الحياة، وبعد أن كانت في السر انتهت إلى العلانية والسفور؛ تجاوزت التمثيل الدبلوماسي والتبادل التجاري، إلى التعاون الاستراتيجي، والتبادل الثقافي والفني، والسياحة العلاجية والترفيهية وغيرها، وكل ذلك في وضح النهار، دون خشية أو خجل.
ومع هرولة أغلب الحكومات العربية نحو تل أبيب تتفاقم التوترات والصراعات البينية، واشتعلت الحروب الأهلية والاقتتال بين أبناء الدولة الواحدة، وشق التقسيم المذهبي والطائفي والعرقي طريقه وتصاعدت وتيرته، وضعفت المناعة السياسية، واهتزت الوحدة الوطنية، وتراجع التماسك الاجتماعي، وأصبحت «القارة العربية» شيعا وجماعات متنافرة ومتناحرة؛ هذا في وقت فقدت فيه الغالبية العظمى من الحكومات العربية أي إحساس بالخطر، وصار التنازل الطوعي عن السيادة ومنح الأرض للغير؛ عملا روتينيا وسهلا؛ مقابل مال لا يساوي ذرة من التراب الوطني والقومي.. أيا كان حجم المال وعدده.
وعليه توزعت قوات الاحتلال وانتشرت القواعد العسكرية الأجنبية بين ربوع «القارة العربية» وعلى تخومها، وتجوب الأساطيل والقطع البحرية عباب مياهها الإقليمية والدولية.. والكل مشغول بصفقات السياسة والسلاح، وتقوم على الخسارة المؤكدة والدائمة في الأرواح والأموال، وتتم من وراء ظهر الشعوب، صاحبة الشأن.. ويتم العلم بها من الممولين والسماسرة.
وصناع ذلك الواقع البائس اختاروا الترعيب (من الرعب) وسيلة لقتل النخوة وإنهاء المقاومة؛ بالحرب النفسية والتضليل الموجه والمستمر على مدار الساعة؛ حملات تُصَور التنازلات والملاحقات والتضييق، والغلاء الفاحش، وتسليع الخدمات، والملاحقات التي لا تنتهي، وتجريم ما لا يجرم، وتجفيف منابع الفكر وسد روافد الرأي، وبذل الجهد الزائف لإقناع الناس بقبول ما هم فيه، فليس في الإمكان أبدع مما هو قائم بالفعل، وغيره إما إرهاب أو فوضى، أو الاثنان معا، وكله معد في معامل وأقبية «الترعيب»، وكلها فقدت مفعولها واستنفدت غرضها، ولم تعد مؤثرة ولا مقنعة؛ وأدت إلى هَجْر السياسة والابتعاد عنها، ونموذج الانتخابات الرئاسية المصرية واضح؛ حيث المرشح الواحد، وتحولت الشوارع والطرق بسببه لغابات إعلانية؛ استحوذت على أكبر قدر من السخرية والتنكيت المعتاد في مصر.
وكان لهذه الكثافة الإعلانية أثرها على المواطن؛ أفقدته الاهتمام بما يمكن تسميته الاستفتاء الانتخابي، وانصرف اهتمامه للمنافسات الكروية وصفقات شراء وبيع اللاعبين، وفاقت شعبية لاعب ليفربول محمد صلاح الكاسحة؛ فاقت شعبية المرشح الرئاسي الأوحد، وشد صلاح الجمهور بعيدا عن الانتخابات الرئاسية.. ولولا ضغط جهاز «الأمن الوطني»، وميزانيات المحليات، وأموال أباطرة المال والأعمال، وتبرعات «صندوق تحيا مصر»، ما كان ذلك البذخ، ولا كل ذلك الصرف على دعوة المواطنين للاحتشاد لإفشال المقاطعة، والصرف على حشد اجتماعات ومؤتمرات المبايعات، التي لا علاقة لها بصندوق الانتخاب.
والهرولة والصهينة الجارية جزء مهم في المبايعات الجارية، والتحصين ضدها قد يؤدي إلى إنجاح المقاطعة، ومحور الهرولة والصهينة شديد الغنى والثراء، فيكفيه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، و«المشير» في معيته، ودعم رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو، وتأييد الرئيس الأمريكي ترامب، وهذا رباعي كاشف لحجم المأزق الذي تعيشه «القارة العربية»، الذي تستمد عملية التحصين ضده قيمتها، وتلقي بظلالها عليه بما قد تعوق المبايعات الرئاسية ويعطلها.
والتحصين يعتمد على مستوى عال من الحس الوطني والقومي والإنساني والأخلاقي والانتخابي، وهذا غائب تماما عن الوعي الرسمي المعاكس، والمطلوب في ظروف تَجرِيم الجهد الجماعي المستقل للتحصين هو الاعتماد على وسائل التواصل الألكتروني، وتضافر الجهود خلفها.. وترك الاهتمام الرسمي لحال سبيله بانشغالاته، وسقط الرهان على مؤسسات الدولة؛ بعد «خصخصتها» لحساب مرشح أوحد، وانحيازها ضد حرية الناخب في اختيار من يراه جديرا بصوته، والبديل الأهلي المحاصر والمُجَرَّم والمُحَرَّم بدعوى تهديد وجود الدولة، وكأنها «دكان» آيل للسقوط.. والفرق بين الدولة المصرية ودولة «المشير» أن الأولى والثانية شخصية.. وشتان بينهما، الدولة المصرية عميقة وراسخة، وتراثها الحافل، وظهيرها التاريخي مستقر، وكم مكنها من تحدي المحن وتجاوز الصعاب، وهل كان هناك أقسى من هزيمة 1967، حتى في ظروفها الحالية المهلهلة ما زالت لديها قدرة على التحدي.
ودولة «المشير» هشة أضعفتها «الشخصنة»، وغياب الوعي الرسمي بأهمية الدولة المصرية وقيمتها التاريخية والاجتماعية، وعدم قدرة جيل الحكام الحالي على التعرف عليها بصورة صحيحة.
إنه جيل يتصور دولة حديثة بلا عقيدة وطنية، وبغير إرادة سياسية، وبغير شعب حر.. وهي مستلزمات القوة الحقيقية للدولة الوطنية بحكامها ومحكوميها، ودولة «المشير» دولة فرد أو شركة لعدة أفراد، وهولا يستمع لأحد ولا فكر مرة في المراجعة، ولا خطا خطوة على درب الحكم الرشيد، ولا تخلى عن شخصية التاجر، ولا عن البيع والتنازل، ولا التصرف فيما لا يملك، والسبب وقوعه في أسر «رهاب» السقوط والخوف من شبح يناير، والحل لديه هو الانتقام والتحامل على شعب مصر العظيم، والإمعان في إهانته وإهدار كرامته، والانتقام منه؛ مقابل توفير كل سبل الرفاهية والثراء لأباطرة السلطة والمال والأعمال وجنرالات الهرولة؛ الطبقة الجديدة التي انتمى إليها!!
«خصخصة السياسة» حرمت الشعب من معارضة قوية وجادة، ومن صحافة وإعلام حر، ومن علاقة إيجابية ومرنة بالمجال العام، وكلها من مواصفات «الدولة الفاشلة»؛ المحكوم على شعبها بالحرمان من الاطلاع على ما يجري في الغرف المغلقة، وما زالت أسرار زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لمصر يلفها غموض شديد، ولم يتم الكشف عن تفاصيلها بالكامل بعد، ومنها أسرار عرفها المصريون بقدر ما صرح به الضيف السعودي، عما عُرف بمشروع «نيوم» العملاق؛ الممتد عبر السعودية ومصر والأردن والدولة الصهيونية، واقتطاع ألف كيلومتر من جنوب سيناء، دون أي إشارة إلى أي اتفاق مع مصر والأردن وقت الإعلان عنه في 24 تشرين الأول/اكتوبر 2017.
ومنذ تاريخ الإعلان السعودي من جانب واحد عن ضم أراض مصرية إلى ذلك المشروع السعودي العملاق؛ أصيب المسؤولون المصريون بمرض الصمت، ولم نسمع عن نائب واحد في مجلس النواب يطالب بعرض ذلك الموضوع الحساس للنقاش، حتى أعلن مسؤول سعودي آخر في الخامس من هذا الشهر (2018) وعلى هامش زيارة ولي العهد، بأن مصر تعهدت «بتقديم ألف كيلومتر مربع من أراضيها في جنوب سيناء لتكون ضمن مشروع نيوم» الذي لا يعرف عنه الشعب المصري شيئا، وكان ذلك تكرار لقرار التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، بدون سابق إنذار، وعلمنا عن طريق كتائب الإعلام الموالي بأن الألف كيلو متر هي حصة مصر في المشروع السعودي العملاق، وتقدم السعودية التمويل اللازم.
وأثار ذلك المشروع العديد من الأسئلة الخطيرة عن اعتزام السعودية إقامة نظام قضائي وتشريعي مستقل للمنطقة التي يقام عليها «مشروع نيوم». وفيه أراض مصرية داخلة ضمن المشروع الذي يتمتع بسيادة ذاتية؛ بمعزل عن السيادة الوطنية المصرية، وعن سلطة القضاء والتشريع الوطني المصري؛ ألا ينتقص ذلك من سيادة مصر على جزء من أرضها، وبدت امتيازا ممنوحا لولي العهد السعودي لمدى غير محدد من السنين وبلا اتفاق أو مقابل؟!.
٭ كاتب من مصر
محمد عبد الحكم دياب
كانوا يقولون إن الرئيس الشرعي محمد مرسي يبيع سينا وحلايب وشلاتين، وكانوا يقولون إنه رئيس فاشل، وهو الذي كان حريصا على أن توفر مصر غذاءها ودواءها وسلاحها، وألبوا عليه أسافل الناس والسياسيين، وحرضوا البلطجية لاستخدام العنف في كل مكان لإثبات أنه فاشل، وسكبوا البنزين والسولار في المصارف والترع ليقولوا إنه لم يوفر الوقود، وحركوا العملاء في الصحف والإذاعات وتلفزيونات الدولة واللصوص الكبار، وأخيرا دعوا لتدخل العسكر، فجاء الانقلاب الدموي الفاشي، الذي قتل السياسة والفكر والأمل، وصار الطاغية يمرح ويلعب ويرتع ، وينفق بسفه على صوره ومؤتمراته وندواته وإطلالاته الكئيبة من خلال الشاشة ليقول للمصريين جميعا: ما أريكم إلا ما أرى ، وما أهديكم إلا سبيل الضلال، ولو لم يعجبكم، فقد عمر السجون بمائة ألف بريء، وطارد مئات الآلاف، وروع الآمنين، ولم يوفر امرأة ولا قتاة ولا شيخا ولا مريضا، ثم يردد بكل ثقة: هل تريدون أن تكونوا مثل سورية والعراق؟
اللهم العن كل من استدعى العسكر، وكل من أيدهم، وكل من حارب الديمقراطية، وكل من آذى الرئيس الشرعي الأسير!