كل ذاك القهر… ولا منتقم

حجم الخط
0

في أيام الحرب نبدو كأننا نقلّد بعضنا بعضا. ولا يقتصر ذلك علينا وعلى جيراننا، بل يبدو الجميع، هنا وهناك، مشتركين في عادات الحرب الواحدة. هي عادات يأتي بها التكيّف مع الزمن الصعب، فتكون عابرة لبلداننا. كنتُ مندهشا فيما أنا أقرأ عن البدائل التي اعتمدها العراقيون لإنارة بيوتهم بعد زوال الكهرباء، ذلك التدرج من الشموع إلى القناديل إلى مصابيح الغاز ومنها إلى بطاريات السيارات ثم إلى المولدات الصغيرة، ثم إلى تلك الكبيرة، ثم تحوّل توزيع الكهرباء إلى المولّدات الضخمة التي يقيمها مستثمرون في الأحياء، ثم التحول إلى «مشاريع طموحة» كأن تبادر جماعة ما إلى إنشاء محطة توليد تضيء المدينة كلها، كل ذلك جرى في العراق، ويا للدهشة، بالتدرج نفسه الذي جرى عندنا هنا في لبنان.
ما يعرضه فيلم «في سوريا» يعيدنا إلى زمن حربنا أيضا، ذلك البيت السوري، الشقة التي تسكنها العائلة، يمكن لها أن تكون في واحدة من بنايات بيروت خلال السنوات ما بين 1975 و1991. ساكنو الشقة (أبطال الفيلم) يمكنهم أن يكونوا هنا في بيروت أيضا: الأولاد الذين هناك، الخادمة الآسيوية، الجدّ المقيم معهم إقامة الدخيل، الفتى في أول عمر المراهقة، الذي بما يشبه التطفّل جاء إلى البيت زائرا ومقيما علاقة مع البنت المراهقة. الأولاد الآخرون أخوة المراهقة؛ العائلة الصغيرة الفتية من زوج وزوجة وطفلهما، وقد انضمت إلى من في ذاك البيت، لأن مسكنها في الطابق العالي خطر ومعرّض للقذائف والرصاص، ثم الأم، صاحبة البيت (قامت بالدور هيام عباس) التي تديره بقبضة حديدية على الجميع، كبارا وصغارا، جريا على ما ينبغي أن تكون القيادة في الحرب. كلهم هناك إذن، خليط غير نموذجي للزمن غير العادي.
جرت الأمور هنا، في بيوت لبنان، كما جرت بعد ذلك في العراق، وكما يصوّرها الآن الفيلم عن سوريا. لا شيء يتغيّر بين هناك وهناك، ابتداء من تحويل البيت إلى حصن صغير مقفلة إطلالته على الخارج بستائر سميكة مطبقة على الدوام، ومسدود مدخله بعوارض خشبية غليظة (ربما في مرحلة تالية، إن أراد السوريون متابعة سياق التكيف العام، سيلجأون إلى إضافة أبواب حديدية سميكة إلى بوابات بيوتهم، على نحو ما فعل اللبنانيون). في هذا الحيز المقفل على الخارج، والمهدد بهذا الخارج رغم ذلك، تجري وقائع يوم في حياة عائلة سورية، حيث الاختباء والأكل والتجمع في المطبخ ساعة بدء القصف، والتداول المتزاحم على دخول الحمام بسبب ندرة المياه التي لن تُفرَغ في حوضه إلا مع الداخل الأخير. هو يوم حربي عادي، لكن الفيلم لن يبقيه كذلك، فمنذ بدايته شُحِن بقوّة توتّر عنيفة، بعد أن أصابت رصاصة القناص زوج المرأة الشاب لدى خروجه إلى عمله. لم يعد اليوم يوْمَ حرب عاديا إذن. ابتعد الفيلم عن أن يكون شهادة عن حياة بعد أن داخله عنصر تأليفي روائي. في المشاهد التي ستتلو سيظل سقوط الرجل سرا بين الخادمة وسيدة البيت، ممنوعا على الزوجة الشابة.
أي أن النهار كان يتقدّم والزوج المصاب، أو المقتول، مرميّ هناك. هذا ما أبقى على توترنا متّقدا، نحن مشاهدي الفيلم، طالما أن، إلى جانب القهر العادي، هناك جثة رجل قابعة في مرآب البناية، فيما زوجته ترتّب حاجياتهما استعدادا للسفر في صباح الغد. شيء مماثل لما صوّره إيشيغورو صاحب نوبل في إحدى رواياته، حيث أب تجري حياته ضمن حوادث سريعة متلاحقة يتنقل فيها من مكان إلى مكان، فيما مصير ابنه الطفل ماثلٌ في مسار الرواية ومنسيّ في الوقت نفسه.
ولن يقتصر التوتر على تلك الملازمة المستمرّة لوقائع الفيلم، ففي لحظةٍ ما يسمعُ صوت تحطّم زجاج. أولئك الذين منعتهم أقفال الباب من الدخول تسلّلوا إلى البيت من شرفته ونافذته. فجأة صاروا في داخل المنزل، مقتحميْن تحصّنه. وعلى الفور احتشد الجميع مختبئين في المطبخ، صامتين يسمعون ما يجري خلف بابهم المقفل للمرأة (أدت دورها ديامان أبو عبود) التي سقط زوجها في أول النهار. لقد اغتصبت، على مسمع منهم جميعا، وعلى مرأى منا، نحن مشاهدي الفيلم.
ألمغتصب، وقد عرّف عن نفسه بأنه من الأمن، كان في ملامح، وفي لباس، موظف عادي، لكنه جعل يقايض على الاغتصاب ليجعله مستمرا في الأيام التالية. كان ذلك هو مشهد الذروة في الفيلم، الأكثر قسوة وعنفا، والأكثر إثارة لمشاعر الكراهية. لتفاصــــــيله وحواره وسطوة مرتكب الجريمة، تلك التي أمعـــن الفيلم، كما أمعنت الحرب، في التأكيد على ألا سبيل إلى أن يصل إليه العقاب وألا أمل في أن يُحاسَب. بل كأننا، نحن المشاهدين نعاقَب بتحمّلنا تفاصيل الوحشية بدون أن نعطى ولو قطرة أمل لشفاء الغليل.
وهناك، من المطبخ المقفل كنا ننتظر، أو نتوقّع، أن ينفتح الباب ويخرج أحد لينتقم أو ليثأر، أو ليقوم بما يوقف تتالي تلك الوقائع الصعبة، بل المستحيلة الاحتمال.
لم ينفتح الباب. لم يقم أحد بحركة ولم يصدر أحد صوتا. كان صمت لا يقلّ وقعا وديمومة عن تلك الجملة في نهاية رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»، تلك التي قيلت بصيغة السؤال: «لكن لماذا لم يقرعوا باب الخزّان؟».
ذلك أن أبطال اليوم السوري لم يصدر عنهم، هم أيضا، ما يدلّ على أنهم كانوا هناك. بدا الفيلم كما لو أنه يثير كراهيتنا ليخنقنا بها. في لحظات القسوة تلك لم يكن يشير إلينا كمشاهدين فقط، بل كضحايا نخضع في حياتنا للخوف ذاته الذي أصمت المختبئين في ذاك المطبخ.
فيلم فيليبفان لييو In Syria، أو Insyriate يعرض هذه الأيام في صالات بيروت

٭ روائي لبناني

كل ذاك القهر… ولا منتقم

حسن داوود

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية