أن تقوم الشعوب بانتفاضات أو ثورات أو عصيان أو مجرد تحرك أو تظاهرات كبرى أو احتجاجات لكي تسقط حكماً جائراً متسلطاً ولكي تعبر عن سخطها وعن عدم تحملها للمزيد من الفقر والتهميش والاضطهاد وسحق الكرامة مسائل شهدتها بلاد كثيرة وشعوب متعددة على مر التاريخ. وما حصل في بلادنا وما يزال يحصل حتى الآن ليس جديداً ولا يشذ مبدئياً عن هذه القاعدة أو هكذا يفترض أن يكون. لكن توصيف ما يحصل بين ظهرانينا ضروري لكي نفهمه على الأقل.
قلة منا لم تلحظ حتى الآن تلبك المراقبين والصحافيين والباحثين عندما يتحدثون عن ‘الربيع العربي’. قلة منا لم يوقفها لجوؤنا إلى استعمال تعابير ومسميات غائمة وعمومية لكي نحدد، أو لا نحددّ، ما يحصل. غالبنا يستسهل الهروب الى تعبير ‘الربيع العربي’ نظراً ربما إلى ما يحمله من عمومية تشي بالمشكلة، أكثر مما تخفي. وغالبنا يلجأ إلى استعمال جميع التعابير الواردة أعلاه دفعة واحدة لكي يتحاشى الإشكال المطروح.
على أهمية الأمر من الناحية العملية، السياسية والرؤيوية، ساد بيننا ما يشبه التسليم بالعجز عن تحديد ما يجري. تسليم عزاه البعض إلى عفوية ‘التحرك’ وخلوه من اي قيادة سياسية محددة تحمل رؤية للمستقبل ومشروعاً للتنفيذ أو برنامجاً للتطبيق. إلا أن التبريرات تلك أو غيرها لن تستطيع أن تغطي على الخطر الناتج عن انعدام وجود مثل هذا التوصيف لا لإغناء المكتبة أو القواميس بل للحاجة إلى فهم طبيعة التحولات الجارية وتحديد اتجاهاتها الفعلية.
فالثورات عادة تقوم بها غالبية الشعب ضد حكم جائر أو معيق لحركة التاريخ. وهي تحمل رؤية مغايرة لأشكال السلطة ولمضمون علاقات الحكم والعلاقات الإجتماعية السائدة. ولطالما أن الجميع متفق على عفوية التحركات في بلادنا الجميلة وعلى انعدام الرؤية والبديل وعلى غياب أي مشروع تغييري لنمط العلاقات الاجتماعية والإقتصادية القائمة فإن الكلام على ثورة فيه الكثير من المبالغة إذا حسنت النوايا.
وإذا انعدمت الثورة فلا يمكن الحديث عن عصيان لأن العصيان حركة اجتماعية محدودة بالمكان والزمان وهو بالغالب حركة اجتماعية تنشب على اعتراض موضعي على سلوك السلطة أكثر ما تهدف إلى إسقاطها. وبما أن شعوبنا تريد ‘إسقاط النظام’ فمن العبث المتابعة في الخوض في هذا التوصيف. وكذلك في تعبير الاحتجاج الذي ينطبق عليه نفس التحليل. حسنا لنقل إذن أن التحرك هو نوع من الانتفاض الشعبي العفوي على أوضاع لم تعد مقبولة ولم يعد بإمكان الناس أن تتحمل نتائجها وأعباءها لا السياسية ولا المعيشية ولا الإجتماعية ولا الحقوقية.
الملفت هنا هو الوصول الى هذه الحالة من الإهتراء بدون مقدمات تمهيدية تتيح خلق قوى وتجمعات سياسية تعكس هموم ومصالح هؤلاء المنتفضين فتبلورها في برامج ورؤى ومشاريع تغييرية. اما وقد حصل فلا بأس من قبول التوصيف لعله يكون اكثر قرباً من الواقع الملموس. فالانتفاضة الشعبية تكون فعلا عفوية الطابع أحياناً ولا تمتلك قيادة بالضرورة، لكنها تكون بلا أهداف واضحة منذ اليوم الأول. إلا ان انتفاضتنا حملت ومن اليوم الأول لا اعتراض الناس على شروط عيشها إجمالا بل هموم ‘نخب’ ربما تريد أشياء واضحة تتعلق بالحريات الشخصية والحقوق الفردية وتريد ‘إسقاط’ الأنظمة فوراً. الأمر الذي ينزع طابع الإنتفاضة الشعبية العفوية عن التحرك وإن كان لا ينفيه بالمطلق.
من الواضح إذن أننا إزاء حالة ملتبسة ومعقدة تختلط فيها الأشياء على نحو مغاير لما نعرف. وهو أمر يفترض بالباحثين عن الحقيقة أن يدرسوه بعمق بدل التلهي باستعمال تعابير صحافية سريعة لا تفي بالإحاطة بما يجري فعلا. وتدليلا على عمق الإشكال المطروح يكفي التوقف قليلا عند النتائج الأولى لهذا الحراك في كل من الدول والبلدان الذي طالتها هذه الظاهرة. فعدا المثال المصري نسبياً يمكن القول أن التحرك نحا بالأحرى صوب حروب أهلية قسّمت الشعوب المعنيّة عامودياً بدل أن توحد الناس صاحبة المصلحة في حراك شعبي يستحق إسمه.
فمن تحركٍ ضد سلطة جائرة إتجه الحراك صوب صراعات أهلية تشبه صراعات ما قبل الدولة وبدا الأمر كأننا إزاء صراع عصبيات تتغالب على السلطة لا انتفاضة أكثرية شعبية تريد الإنتقال من حال إلى حال. اتضح الآن أن الحراك لا يحمل إجمالاً مضامين التغيير في النهج السائد بل يستهدف الاستيلاء على السلطة بدون المس بمرتكزاتها القائمة. وبدلاً من الوصول إلى حالة أرقى وجدنا انفسنا بمواجهة حالات تشرذم وتشظي تطال اسس البلاد الإجتماعية والجغرافية. وبدلا من حلم التقدم تقدمنا باتجاه تهديد الكيانات التي كنا نعيش ضمنها. تهديد بلغ في بعض الدول حدود التقسيم الجغرافي وهو يهدد أخرى بشر مستطير.
الأخبار التي تأتينا من ليبيا في هذا الوقت لا تتيح كلاماً مغايراً. فقد أعلن إقليم برقة في شرق البلاد انفصاله عن الكيان الليبي والدولة المركزية الموحدة. إعلان لم يتأخر صداه في الجنوب حيث قام إقليم فزان بإعلان الشيء ذاته. الثروات النفطية ليست بالطبع بمنأى عن صدور مثل هذا النوع من القرارات. القبائل قامت بالباقي.
القول بثورات داخلية حديثة يفترض ربما قبلاً وجود دول حديثة متماسكة ومجتمعات نسيجها مندمج لكي لا تنفجر من داخلها في كل مرة وتتحول إلى صراع اهلي على الطريقة القديمة.
منذ خسارة جمال عبد الناصر للحرب مع الخارج الاستعماري وتوقف المد الوحدوي اتجه العرب صوب التفكك والتشظي. بخسارة مشروع الدولة-الأمة الجامع عاد الناس إلى الأطرالإجتماعية الأضيق وإلى هوياتهم االصغيرة القاتلة. حتى الأمس لم يتمكن ‘الربيع’ من إيقاف هذه الحركة التراجعية لا بل زادها حدة. إلى متى؟
حقا تحليل موضوعي
أشكر الكاتبة المتميزة على هذا المقال الملفت الذي أرى فيه يدا مرفوعة بين حشود طأطأت رأسها للأيام ، رفعتها للدلالة على استفسار ملح بابتسامة المعترض على كذبة صدقها ودافع عنها العرب لأني لازلت أجد صعوبة كبيرة في تسمية ظاهرة : ( الربيع العربي )
هذه الصعوبة بالتأكيد واجهها معظم الكتاب والمثقفين الذين وقفوا على رصيف الأحداث مراقبين متوجزين من الانغماس في تيار قوي مجهول المنشأ لا نعلم من مكوناته ونتائجه الا شعوبا عربية وقودا وضحايا.
ونكاد نفقد براعتنا اللغوية والأدبية وحتى أسلحتنا الفكرية والمحظورة منها عندما نقف امام المتحمسين لهذا الربيع المحبطين من نتائجه وأفعاله لنحاورهم بشيئ من النقد والتصحيح وكأن الثورة على عللها قد جاء بها محمد والمسيح .
العرب مصدومون من داخلهم محبطين مما حدث وكيف ساقهم ما يعرف بالمجتمع الدولي بهذه الطريقة لكنهم مجبرين على تصديق الكذبة والدفاع عنها حتى لا يظهروا بمظهر المخدوع الساذج الذي لا يفقه شيئ.
بل ثورة ديمقراطية .. مجهضة !
1- مفهوم أوضح..واقع أعقد
بداية قد نكتفي بالتعريف المعروف :” الثورة هي انتفاضة ناجحة”، ونقر بأن النجاح- أي تحقيق أهداف الحراكات المختلفة- لم يحدث بعد، ولذا يبقى الحديث عن الثورة مؤجلا إلى حين، على أن الحديث عن الثورة في المطلق غير مفيد إذ أن الثورات أنواع..فقد تكون ضد العبودية أو الاستعمار أو الاستغلال الطبقي..والربيع العربي كان ضد الاستبداد والتهميش الاجتماعي واللاتوازن الجهوي أي أنه كان يستهدف بناء نظام ديمقراطي تعطى فيه العدالة الاجتماعية أولوية مطلقة، وتحترم فيه الحريات الفردية والسياسية. و”الثورة الديمقراطية ” بهذا المعنى لا تتطلب تغييرات جذرية في كل مناحي الحياة كما يعتقد البعض، بل تتطلب فكرا وسلوكا ديمقراطيين ..وهذا يقتضي وقتا ومراجعة حقيقية من قبل كل الأطراف ولاسيما “الإسلام السياسي” الذي أفسد الربيع العربي
2- الخربف المر
بعد النجاحات الأولية جاءت الصراعات بين الرؤى السياسية المختلفة وهذا أمر طبيعي، وكانت الانتخابات لصالح التيارات الإسلامية، وتبين تدريجيا عبر الممارسات أن هذه التيارات لا ترى في الديمقراطية سوى انتخابات توصل إلى الحكم وبعد ذلك يتم التحكم في مفاصل الدولة لضمان البقاء. والأخطر من ذلك أن لهذه التيارات مشروعا متكاملا يهدف إلى بناء “خلافة إسلامية ” يمر عبر التدخل في شؤون الأقطار العربية والإطاحة بأنظمتها، وكانت دول الخليج في المقدمة لولا تدخل الجيش المصري..الأنكى من هذا كله أن تيار الإسلام السياسي في الحكم قد وفر المناخ الملائم لتيارالتشدد الديني التكفيري الإرهابي الذي شرع بعد في اغتيالات القيادات اليسارية والقومية وتهديد المثقفين والصحفيين والأكاديميين وحتى المدونين…
3- “الإسلام السياسي المعتدل” في الحكم أخطر من القاعدة!!
هذه هي الحقيقة الصاعقة التي يجب أن يعيها كل العرب قبل فوات الأوان!!ففي وقت وجيز من تسلم الإخوان الحكم في مصر وتونس انتعشت القاعدة وتوابعها في المنطقة العربية، مشرقا ومغربا، وصار الاستقرار في عديد الأقطار مهددا وأضحى الأمن، كما كان دائما، حاجة أساسية للإنسان أصبح تدعيمها يتطلب تكاتفا إقليميا، وإجبار التيارات الإسلامية “المعتدلة” على مراجعة علاقتها بالتيارات الإسلامية الإرهابية أولا، وتعديل أهدافها العابرة للأقطار والقارات ثانيا..ولكن “كيف السبيل إلى..” ذلك ؟!
اتفق مع الاخت عنايه فيما طرحته من اسباب لعدم اعتبار ما يحدث الان بثوره. ولكن، اذا تغاضينا عن المسميات الايمكن اعتبار التالى مكاسب كبيره:
– الشعوب العربيه حيه و قادره على التغير اذا ما ارادت ذلك
– الحصول على الحريات المفقوده، وبالذات حريه الراى
-الحركات الاسلاميه ، وليس مبادئ الاسلام، غير ناضجه سياسيا
-خلو الساحه العربيه من اى قياده وضروره ملئ هذا الفراغ
– جميع الاحزاب السياسيه الحاليه خاويه و ضروره العوده الى العمل العربى المشترك
– واخيرا، ان لم نعتمد على انفسنا ككل فالتقسيم لنا بالمرصاد
هذه النتائج و الاستنتاجات هى المكاسب الانيه لما يحدث الان وتشكل فرصه لا تعوض في احداث تغير جذرى اذا ما استغلت استغلالا صحيحا.
المشكل الأول هو في التعميم فالعرب ليسوا فقط تونس وليبيا ومصر و”اليمن والأمارات” . هناك كذلك مشكل في ترابط الأحداث.فما وقع في عراق صدام يعيد نفسه في ليبيا. من هذا المنظور يمكن اعتبار بوش قائد الحراك العربي لبدئه بازاحة الديكتاتوريات العربية. هذا يمكن أن يحول الحراك العربي ككل الى مجرد مؤامرة و يحول صدام والقذافي الى متعاونين أي الى خونة للهوية العربية وهذا ليس مستبعدا بالنظر لكيفية وصولهما للحكم. خلاصة الكلام أن ليس هناك ثورة على الأنظمة العربية هناك تواطؤات وهناك فقر وجهل في البلدان العربية يمكن أن يوجه في جميع الاتجاهات. الثورة اليوم اما أن تكون عالمية أو لن تكون.