أمراض العظَمَة

حجم الخط
11

لا أدري إن كان هناك كاتب عربي بحجم الكتاب الغربيين المؤثرين في قرائهم لدرجة تغيير أقدارهم، فقد قرأت الكثير و لم أقرأ لمن يقتلعني من واقع و يدفع بي إلى واقع آخر، و لم يلامس قلبي مفعول غير المفعول الذي لا يتخطى عتبة المتعة، و طبعا لم أجد تفسيرا لذلك. فهل أنا و غيري من هذه الفئة الشاسعة من القراء لا نجد فعلا ما يهزنا لنذهب في تغيير أنفسنا إلى النهاية؟ أم أن المشكلة في ذواتنا التي تستصعب التغيير؟ أو أن الحقيقة تكمن في النصوص التي نقرأها، بهشاشتها وتكرارها لصور الواقع دون أن تتخطى أسطحه البائسة؟
في فيلم « Papa» الذي يروي جانبا من حياة الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي، لا نكتشف عالم همنغواي فقط، بل عالم الصحافي الشاب الذي كتب رسالة لكاتبه المفضل و الذي دفع به للأدب، والكتابة، وتغيير حياته من صبي لملمه ميتم في طفولته الباكرة و صنع شتات عواطفه شابا دون هدف، إلى مراسل حرب، ومن ثم كاتبا كما تمنى، و « سيناريست» ناجحا…
« لقد غيرت حياتي..» كتب الشاب لهمنغواي، ولم يتوقع ردا كالذي جاءه عبر مكالمة هاتفية « رسالة جيدة يا ولد» ثم سؤال مفاجئ و غريب « هل تحب صيد السّمك؟» لتبدأ بعدها علاقة صداقة متينة بين الكاتب الشاب ووالده الروحي الكاتب العظيم..!
لا شيء يشبهنا في تفاصيل هذه القصة، لا من قريب و لا من بعيد، و كأن الأمر مختصر لتلك العبارة التي نختصر بها عالمنا و عالمهم « لهم دينهم و لنا ديننا» …
هذا التأثير الذي لم نعرفه بهذه الحرارة ، قد يكون موجودا في مراحل غابرة من تاريخنا، و في أزمان موغلة في الماضي، حين كان الأدب جزءا من معارف شيوخ تشبعوا بالعلوم كلها و بالأخلاق الفاضلة و الضمائر الحية، فكان الواحد منهم يطبب ويقرض الشعر و يعطي نظريات في العلاقات الإنسانية والسياسة وأخطاء العباد والحكّام والسلاطين و مظالم الحياة و ما إلى ذلك، و يربي النشء على تلك الخصال من منطلق إيمانه بنفسه كمعلم و مؤثِّر.
فقد كان التلميذ يرث عن أستاذه كل علومه ثم ينطلق في بحثه الخاص، فيطور و يضيف، و في الغالب يبقى وفيا لمعلمه مع أنّه قد يناقضه تماما في توجهه الخاص ويمضي في طريق مغايرة لطريقه.
في أيامنا هذه لن نجد شيئا مشابها لحكاية جلال الدين الرومي، التي قلبت تفاصيلُها حياة أمة، و ظلت تُسِيل حبر الأقلام إلى يومنا هذا تبحث في فلسفته، وأفكاره، وفي علاقته بمعلمه شمس الدين التبريزي، ولو أن الأمر أتيح لتابعيه وأعدائه سواء لشقوا صدره و بحثوا في مكنونات روحه عمّا خفي و بان من تلك العلاقة ومضامينها و أبعادها…
وإذ ظل الرجل لغزا حقيقيا لم يُكتَشَف سره كاملا، فإن الذاهبين خلف فكره يولدون إلى اليوم على مختلف عصورهم و هوياتهم و لغاتهم و أديانهم، إنه رجل عَبَر كل الأسوار البشرية التي تفننت الجماعات في صنعها لتبقى محمية من التفتت و الاقتحام. و تلك نبوءة فريد الدين العطّار الذي أهداه « أسرار نامه» حين كان صبيا وقرأ لحظتها في عينيه مستقبله العابر للأزمنة والأمكنة. في ذلك المفترق الخطير من حياته توجه الطفل صوب الكلمة التي انبثقت من أعماق الكتاب، وهذا ما كان أخطر من أي سلطان ما جعل الرجل يُحَارب حتى حين تلاشت بقاياه في قبره…
وحتما إن قلت إن الرومي كان مؤثرا أكثر من شكسبير فإني سأُصطدم بأفواه كثيرة تنكر ذلك، لكن من قرأ شكسبير وتغيرت حياته؟ من توقف عنده وأعاد النظر في رحلة عمره ثم قرر أن يصنع مصيره بنفسه لأن ساحراته وجدن بوابة في رأسه وهمسن له بمستقبل مغاير؟
من أكثر تأثيرا الرومي أم دانتي، أم ميغيل دي سرفانتس ؟
من على سلم الفلسفة والفكر والشعر ومختلف الآداب من بلغ مستوى الرومي؟ غوته مثلا؟ أو جان جاك روسو؟ أو فريدريك نيتشه؟
لعلّ أسلوب طرحي يغلب عليه فرض تصوري الخاص للأمر، لكن لنأخذ الموضوع من أبوابه المختلفة، من منا قرأ كتابا وقال :» هذا ما كنت أبحث عنه» واندفع في تحقيق ذاته بعد قراءته؟
كل هؤلاء الذين ذكرتهم وآخرون فعلوا ذلك، لكن من هو الكاتب العربي الذي أخذ بأيدينا و أخرجنا من الأنفاق المظلمة التي تُهنا فيها و نحن نتلمّس الطريق؟
نزار قباني؟ ربما في ثورته على تخلف النساء و مدى ظلمهن في الأوطان العربية حرّك مشاعر البعض، ولكنه لم يكن أكثر من شاعر « يعجب» قراءه، ويطربهم بإلقائه، نزار نفسه رمى المنشفة في حلبة صراعه مع التخلف العربي وهو منهزم تماما أمام المرأة التي خذلته، واستسلمت للنظام الحياتي الذي فرض عليها منذ مئات السنين، بالرغم من أنها في الظّاهر قد تبدو مثقفة متحررة ومنتجة و فاعلة في المجتمع.
مَن مِن كتابنا حرر النّفس المكبلة بالقيود؟ وجعلها تبتهج بحريتها ؟ فتكسر تلك القضبان التي تحجز طاقتها و تنطلق في بناء ذاتها، تاركة كل شعور بالعجز هناك في القفص القديم؟
من يا ترى؟ أبو القاسم الشابي؟ مفدي زكريا؟ محمود درويش؟ أو غيرهم؟
من أين بدأت أدوارهم و أين انتهت؟ و لماذا لا نملك شهادات بحجم فتى همنغواي الذي اعترف بفضله عليه؟ هل هو جحود متوارث هذا الذي يسكن قلوبنا ويوهمنا أننا عظماء دون فضل أحد حين نصبح تحت أضواء الشهرة مثلا؟ أم أن هذه على الأقل صفة سيئة مشتركة في أدبائنا وشعرائنا، ومبدعينا؟
أيٌّ من هذه الأسئلة يناسب الحالة التي نعيشها؟ وأيها يُقَرّب صورة هذا المرض المنتشر في كياناتنا العربية؟ رموزنا بدءا بالرموز الأدبية إلى رموز النضال الإنساني إن وُجِدت؟ إلى رموز النضال السياسي؟
ولنفرض أن طرحي خاطئ، كون ثمار ما كتبه فولتير على سبيل المثال قُطفت بعد قرن من النضال المستمر، فلماذا لم نقطف ثمار ما كتبه طه حسين عندنا؟ لماذا انتصرت قوى الظلام وطمست مجهوداته الفكرية وأسئلته البالغة الأهمية ؟ أم أن ما نعيشه اليوم هو « موسم القطاف» ؟
إن كانت هذه غلال مفكرينا التنويريين لِما زرعوه خلال ذلك الماضي الجميل، فإن الوضع ينبئ بكارثة حقيقية لمستقبلنا، كوننا نصرُّ في أغلب ما نكتب وما نقول على إدهاش القارئ بمزيد من الوهم، وكأن الأدب مجرّد وسيلة لتبييض سمعتنا، و رسم صورة جميلة لأنفسنا قد لن تكسبنا سوى بعض الرضى الوهمي والمؤقت الذي من المحتمل أن يفيدنا بشكل آني لكنه أبدا لن يفيد الأجيال القادمة، ولن يبني إنسانا محترما، لا تفتك به أمراض « العظمة» المتوارثة عندنا .

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

أمراض العظَمَة

بروين حبيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    كلما زداد التفاعل الإيجابيّ مع المقال أو على التعليقات يؤشرذلك إلى حيوية الكلام المنشور…وسعيد بردود فعل السّادة الأفاضل خاصة الأخ المتمييز سوري والأخ المثقف سلام عادل ؛ والغائب عن الحلبة الأخ الفلسطينيّ حسين من لندن.يلا أبو علي باشرالتعليق بالمطرقة السندان ؟
    تحياتي للجميع.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية