الثورات العربية.. المتوالية الخطية وغياب الوعي الشمولي

حجم الخط
0

تخذت الثورات العربية متوالية خطية متحركة على محوري الزمان والمكان، ابتداءً من تونس وانتهاءً في دمشق في مدة 33 شهرا، وحقيقة فقد أدهش الزخم الثوري الشعبي المتصاعد العالم كله وأوقع الأنظمة في حالة من الارتباك، بل والذهول. وسرعان ما بدأت الحركة الثورية تأخذ زخما عابرا للحدود ومتعدياً للمحليات، عبر الأعداد الكبيرة من الشباب العادي غير المنظم، وعبر استخدامها لأحدث تقنيات التواصل الاجتماعي، ولعبت بعض القنوات الفضاية (الجزيرة مثالاً) دورا محوريا ومهما في حماية الثورات ونقل زخمها ونبضها ولهاثها المتلاحق إلى جميع شعوب العرب والعالم، وفي أقل من شهرين كان حاكمان عربيان يستسلمان تماما، فقد فر زين العابدين بن علي إلى جدة وتنحى مبارك عن سدة الحكم، وسرت الثورة في جسم الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، وإن بأشكال ودرجات متباينة.
ونتيجة لاختراق قطار الثورات المحطتين الأوليين في مصر وتونس، فإنه اخذ في ليبيا منحى آخر، ومع أن شدة المد الثوري أرعبت جميع الأنظمة المتبقية، فقد اختلفت النتائج بين دولة وأخرى، وأخذ المغرب بعد حراك جماهيري يحقق حلمه بالديمقراطية، عن طريق خضوع النظام الملكي لإرادة الشعب وإدراكه ـ طوعا أو كرها ـ لحتمية التغيير، مما جعل المغرب ينتقل انتقالا سلسا إلى قطار الثورات العربية الناجحة، من دون الكثير من الخراب او إراقة الدماء، وهذا نجاح ثوري كبير ومهم، فالثورة ليست غاية بل وسيلة، وبدأت دول أخرى كالبحرين والأردن وفلسطين وعمان والكويت والسعودية وجيبوتي وغيرها، في حراكات واحتجاجات داخلية، كلا وفقا لخصوصيته وتركيبته السكانية، وتحققت بعض التغييرات والإصلاحات الجزئية، وخاضت اليمن صراعا دمويا عاتيا وانتهت إلى تسوية أشرفت عليها السعودية على عجل، فكأني مع الشاعر حين يقول:
إذا ما الجرح رُمّ على فساد تبين فيه إهمال الطبيب
وفي مقابل محطتين ملهمتين وقويتين، هما تونس ومصر، شكل الصراع الدامي في كل من ليبيا وسورية محطتين كان لهما أثر سلبي على مسار الثورات العربية، ففي ليبيا ورغم الكوميديا السوداء للقذافي، طفت الخلافات والنزاعات والتحالفات القبلية على المشهد الليبي، وبدت الجامعة العربية في حلة ثورية جديد وعلقت عضوية ليبيا في مجلسها، ورغم انقسام الدول العربية بين داعم ومؤيد، وافقت الجامعة على فرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا لحماية الشعب الليبي، وأعلنت رفضها لأي تدخل أجنبي.
ولكي نسلط بعض الضوء على ما يحدث في سورية اليوم، لنرى كيف كانت تباينات الدول العربية والإقليمية والدولية في ليبيا، فقد تزعمت دول مجلس التعاون الخليجي تيار الموافقة، فيما رفضت كل من الجزائر وسورية والسودان واليمن، ووصف فلاديمير بوتين القرار ‘بأنه أشبه بدعوة من القرون الوسطى لحملة صليبية’ وأعلن الشيخ القرضاوي ‘العمليات ضد القذافي ليست حربا صليبية، والعرب هم من طلبوها’، في حين أعلن روبرت غيتس وزير الدفاع الأمريكي، ‘العملية العسكرية بدأت بشكل قوي وناجح، والولايات المتحدة لن تلعب دورا مهيمنا في التدخل، لأن دولا أخرى ستتقدم إلى الواجهة في الأيام المقبلة’.
وبعد ثلاثين شهرا من الثورة السورية، تبدو الكثير من الحسابات قد تغيرت، وبرز العديد من التداخلات الإقليمية والدولية، وظهر العديد من المفاجآت، وأصبح الشعب السوري وكأنه دخل المصيده بقدميه طمعا في نيل بعض من ‘جبن الحرية’، ومن نافلة القول ان الثورة السورية تعد من أصعب الثورات وأكثرها تعقيدا وتشابكا، نظريا نتيجة لتباطؤ المد الثوري وارتداداته، ولانقطاع النفس الثوري العربي على امتداد الخط الأفقي القادم من تونس فمصر، وعمليا يحتاج التحليل إلى دراسة مستفيضة ليس هذا مقامها.
بالنتيجة نشهد اليوم انتهاء مرحلة كاملة من مراحل الثورة العربية، من أبرز مظاهرها، خطية الثورات العربية وعدم مركزيتها أو عمقها الذي لو تم لشكل موجات تنتشر من المركز إلى الأطراف، في عملية تقدم زاحف إلى الأمام على كل المحاور. انكفاء ظاهرة اختراق الحدود. عدم قدرة الثورة على إدماج كافة مكونات المجتمعات وعلى رأسها الجيوش العربية. انفجار المجتمعات عن أسوأ ما فيها فظهر الشبيحة والبلطجية والزعران. الانقسام الطائفي والمذهبي، ظهور الخلاف الديني بأبشع انتهازيته وضيق أفقه السياسي، وظهور اللافتات المحلية والقطرية. وركوب الأحزاب العلمانية واليسارية وبعض السلفيين والجهاديين على ظهر الثورة، وغياب الشعارات الكبرى كالقضية الفلسطينية والأقصى وتحرير الأرض والإنسان.
فقصور النظر الطائفي للسعودية في ثورة البحرين دفعت الثورة العربية ثمنه غاليا في سورية، وغياب اللافتات القومية الكبرى دفع الفلسطينيون والعرب جميعا ثمنه في سورية والعراق ولبنان وغزة، وفي حمأة النار والدمار والدماء في سورية انشغلت السعودية والإمارات في طعن الثورة من الخلف في مصر، ورفع راية الحرب على الإسلام السياسي، الذي ستكون عواقبه وخيمة على كل من شارك فيها، في حين قامت بأكبر عملية رشوة إصلاحية لتجنب وصول المد الثوري، وفي ظل انخراط الكل في صد النار عن ثيابه سقطت جميع القيم والأخلاق في اتون صراع طائفي ديني مذهبي يهدم ولا يبني، مما دفع المجتمع الدولي في ظل المتغيرات لاتخاذ خطوات لا شك أنها ستدخل المنطقة في صراع قد تكون بداياته قد تشكلت، في حين لا يزال المشهد متحركا بعد سقوط خطوط أوباما الحمر في ملف الكيماوي واختراق بوتين وروحاني لخارطة الاحداث بشكل دراماتيكي، قد يدخل المنطقة كلها في ظل معادلة جديدة سيكون الخاسرون فيها جميع الذين تآمروا على الفعل الثوري ولو بشطر كلمة.

*كاتب اردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية