ها أنا أعود إلى ما كُتب على هذه الصفحة قبل ثلاثة أسابيع، تحت عنوان: ‘هل تأخذ مصر بخيار المقاومة لمواجهة غزو محتمل؟!’. وانتهى الموضوع بسؤال: هل تكون المقاومة حلا؟ وما هو المطلوب لها؟، وجاء ذلك في وقت بدا فيها ضرب أمريكا لسورية وشيكا، وأحدث هذا الجو قلقا بالغا من المصير الذي ينتظر الوطن العربي بأكمله، ومن دور المسؤولين المحرضين على الضربة الأمريكية المتوقعة والحاسمة خلاصا من حكم بشار الأسد واستعجالا لاستكمال رسم خرائط ‘الشرق الأوسط الجديد’؛ وكأن ما جرى للعراق لا يكفي عظة أو عبرة عما تسفر عنه مثل هذه الانتهاكات من دول تقف متربصة ومهيأة لتقسيم المنطقة وتفكيكها وإعادة تركيبها.
وجاء التصعيد ضد دمشق في فترة تجمعت فيها سُحب الضغوط المحلية والإقليمية والدولية السوداء على مصر، وبدا استهدافها محطة تسبق الوصول إلى القاهرة.
ووصف تعليق في أسفل المقال على موقع ‘القدس العربي’ الألكتروني بأن ما ورد وكُتب ‘مجرد تصور وهمي لعدو غير حقيقي أو موجود’، مع أن العدو واضح للعيان لمن يريد أن يرى؛ وجحافله على الأبواب تغزو المنطقة بلدا تلو آخر، وتستهدف كسر جيوشها جيشا جيشا، واستطرد المعلق في وصفه بأن ما قيل من قبيل التهويل والتخويف لتبرير ما أسماه ‘حكم العسكر والانقلاب الذي لبى رغبة العلمانيين والليبراليين الذين فشلوا وأفشلهم الشعب من الوصول الى كرسي الحكم عن طريق الصندوق النزية البريء، فتسلقوا دبابة السيسي وحضروا وقعدوا على الكرسي السعيد’!.
وشطح الخيال ‘الخصب’ ليقول أن مصر لا ترى لها ‘عدوا سوى غزة المحاصرة’!، ولو كان من المتابعين للحراك الثوري في مصر بدقائقه؛ لاكتشف أن القوى فائقة التأثير في الرأي العام، بمن فيهم مؤسسو وجمهور ‘حملة تمرد’ هم الأكثر انحيازا لفلسطين ودفاعا عنها، ويقاومون حملات التشويه الرخيصة ضد شعبها؛ في وقت يتصدون فيه للتحريض ضد الشعب المصري، الذي يُعاقب على عودته ليلعب دوره وعلى خروجه في 30 يونيو الماضي، وهناك بين ‘أمراء الحرب’ وكتائب التحريض من العرب غير المصريين من يستخدم نفس منطق المعلق ولا يرى له عدوا إلا مصر.
وأقول لكل من يعتمد على الخيال في تحديد موقفه، ولكل من يتبنى تصورات لا تمت بصلة لما يجري على أرض الواقع؛ عليه أن يتمثل وطأة الدم والنار والموت وتخريب العمران، وهدم وحرق المنشآت العامة والممتلكات الخاصة ودور العلم والمتاحف والكنائس؛ تنفيذا لوعيد ‘أمراء الحرب’ من فوق المنصات والمنابر جهارا نهارا؛أملا في رضوخ المواطن فيقبل بحكم الإرهاب وإن رفض فالبديل هو حرق مصر وترويع مواطنيها.
والمصريون يعرفون عدوهم حق المعرفة، ويعلمون أن الطابور الخامس يروج للتدخل الخارجي ضد مصر، ويزكي الاستيطان الصهيوني في فلسطين، ويحمي الفساد السياسي في كل مكان، ويمول قوافل القتلة، وإن خَفَت قرع طبول الحرب على سوريا، فليس معنى هذا أنها لن تندلع، بل هي حرب مرجأة إلى حين، وهي مطلوبة في المواجهة مع إيران ولتوفير أقصى درجات الأمان للدولة الصهيونية، وضرورية لإجهاض تطورات ميل ميزان القوى نحو الشرق، وللحد من تأثيرات روسيا وإيران والصين والهند في السياسة الدولية.
والمصريون رغم ظروفهم الصعبة يعيشون حالة يقظة واستنفار ضد الإرهابيين الوافدين من خارج الحدود لا تُعرف لهم مهنة غير القتل، ولم يُعرف عن المصريين أنهم ذهبوا إلى بلدانهم للعدوان على مواطنيهم، وهؤلاء الغرباء المعتدون؛ بتعدد جنسياتهم وأعراقهم يستبيحون الأرض ويروعون الناس، ويأتون بقصد التخريب والعدوان تتصدى لهم الدولة، وغير ذلك يجب أن يترك أمره للمقاومة بمعناها الشعبي، تحت شعار ‘المقاومة هي الحل’؛ كمقاومة سلمية؛ لا تتغير طبيعتها إلا في ظروف الغزو والعدوان الخارجي، وهدف المقاومة من هذا النوع كشف المظاهر والظواهر السلبية المعوقة للتطور.
والمقاومة الشعبية نهج ناجع ينقذ الثورة من براثن ‘أمراء الحرب’، ويحررها من رخاوة الأحزاب؛ محدودة الخيال وضيقة الأفق، والتي لا تتسع رؤاها (‘أمراء الحرب’ والأحزاب الرخوة) لأكثر من المشروع الغربي؛ يتبعه ‘أمراء الحرب’ ويوفرون له غطاء دينيا مشوها، وتتبناه الأحزاب الرخوة بقناع ديمقراطي مزيف، والمشروع الغربي معاد للثورة بطبيعته، وهمه الانحراف بمسارها، وهذا ما تم مع الموجة الأولى في 25 يناير، ومن المتوقع أن يحدث للموجة الثانية في 30 يونيو.
ولجنة الخمسين المكلفة بوضع الدستور، مع تقدير كامل لقامات عالية بها؛ إلا أنها اختارت عمرو موسى رئيسا لها، والكل يعلم علاقته بثورة 25 يناير وهي علاقة أشبه بعلاقة ماري انطوانيت زوجة لويس السادس عشر بالثورة الفرنسية، ووجوده على رأس اللجنة دليل على ثبات موازين القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية في غير صالح التغيير أو الثورة، وبقائها على حالها القديم.
وبين أعضاء اللجنة عدد من حملة ثقافة التقسيم الثقافي والجغرافي والطائفي والنوعي، وبها أنصار المدرسة الانعزالية التي اخترقت عقل المجتمع ووجدانه لمدة أربعين عاما، وما زالت غالبة على مجالات الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ والثقافة والإعلام، ويرون مصلحتهم في تحويل الفروق الثقافية والاجتماعية والطائفية والقبلية العادية إلى تصدعات وشروخ تجعل الوطن آيلا للسقوط؛ والحجة هي التنوع والتعدد والاعتراف بالآخر، وهذا حق يراد به باطل، حيث يأتي على حساب الوحدة الوطنية ولغة التكافل وروح الاندماج والتعايش، ويعزز المحاصصة الطائفية مع المسيحيين والنوعية مع المرأة، والعمرية مع الشباب والمناطقية مع النوبة والواحات، والهدف ترسيخ التقسيم النفسي تمهيدا للتقسيم السياسي والجغرافي والديني، وبذلك تحقق ‘لجنة موسى’ ما عجز عنه أعداء مصر على مر الزمان.
نسيت اللجنة أن مصر بلد وحدوي بالفطرة؛ أقام أول وحدة في تاريخ البشرية؛ دمجت بين مملكة الشمال في الدلتا ومملكة الجنوب في الصعيد، وفضلا عن أنها أول بلد اعتنق التوحيد الديني وعرف الإله الواحد مبكرا، هذا البلد الموحد والمندمج سياسيا وثقافيا منذ فجر التاريخ يجد من يتعامل معه كأشلاء لا رابط بينها، وعليه مثل أهل النوبة فيها أحد أعلام الانفصال، ويجد رعاية من منظمات وحكومات غربية.
وإذا ما استمرت ‘لجنة موسى’ على هذا النحو فمن المتوقع أن يخرج دستور ما بعد ثورة 30 يونيو انفصاليا وانعزاليا؛ خادما لفكرة التقسيم، وقد ينذر بموجة جديدة للثورة ترفض روح الدستور الانفصالية، وقد يكون أكثر سوءا من دستور مرسي الطائفي والمذهبي.
وعلى المستوى التنفيذي لا تختلف ‘وزارة الببلاوي’ كثيرا عن ‘لجنة موسى’؛ وجد الببلاوي من يضعه على رأس وزارة ما بعد ثورة 30 يونيو؛ ومع أنها مكونة من 35 وزيرا، إلا أن نصيب الثورة فيها ثلاثة مقاعد ونصف مقعد؛ يشغلها عبد الفتاح السيسي النائب الأول لرئيس الوزراء ووزير الدفاع، وحسام عيسى نائب رئيس الوزراء للعدالة الاجتماعية ووزير التعليم العالي، وزياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية ووزير التعاون الدولي، وكمال أبوعيطة وزير القوى العاملة والهجرة.
وقد يقول قائل لماذا تدعو لمقاومة شعبية ما دامت هناك معارضة سياسية، وفيها تتولى الأحزاب الحاصلة على أغلبية مقاعد البرلمان الحكم، وتؤدي الأحزاب الأقل في عدد المقاعد وظيفة المعارضة، التي تسعي بدورها للوصول للحكم وفق قاعدة التداول السلمي للسلطة. ونرد بالقول بأن سنة حكم مرسي كشفت أثر الثقافة السائدة في أوساط الإسلام السياسي؛ وتقوم على عدم قبول الأحزاب والجماعات الطائفية والمذهبية والعشائرية بأقل من أبدية الحكم، وحين أبدى الشعب اعترضا فقدت رشدها وأصيبت بصدمة تجاوزت الحدود، وتمارس هوسا دمويا لم تعشه مصر في تاريخها.
كانت الشهور الثلاثة السابقة على يوم 30 يونيو قد شهدت رفض الاستجابة لمطلب طرح الثقة في مرسي أو انتخابات رئاسية مبكرة، وكان المطلب مشروعا، ولو طرحت الثقة باستفتاء عام، إذا فاز مرسي تعززت شرعيته، ولو خسر حافظ على حزبه وجماعته جزءا أساسيا في المعادلة السياسية، لكن النية المبيتة للتمسك بالحكم ضد إرادة الملايين انتهى نهاية مأساوية زادت الوضع تعقيدا.
ومصر تمر بحقبة ينتفي فيها التقسيم الوظيفي للقوى والجماعات السياسية، وغابت المعارضة في مرحلة الانتقال الحالية، وانقسم المجتمع السياسي إلى ثلاث كتل؛ تتفاوت في الحضور والتأثير؛ هي كتلة الحكم المؤقت، وأعاد للدولة بعض عافيتها، فصمدت في مواجهة الإرهاب الأسود. والكتلة الثانية هي كتلة ‘القطبيين’، بروافدها في مكتب الإرشاد وحزب الحرية والعدالة، وجماعات التطرف الطائفي والمذهبي، وتصرفت برعونة شديدة، ونسيت أنها ككل القوى السياسية معرضة للفشل والهزيمة بعد الفوز والانتصار، وبدلا من إعادة الحسابات ودراسة أسباب الهزيمة ودواعي الفشل، ومراجعة الخطايا وتصحيح الأخطاء، حشرت نفسها في نفق الفاشية الطائفية والمذهبية المظلم، وارتكزت على الأكاذيب في دعايتها وحربها النفسية ضد المجتمع بأسره، وأعلنت الحرب عليه، وأهدرت دماء أبنائه وبناته الأبرياء، والكتلة الثالثة هي كتلة الثورة وما زالت مهيمنة على الشارع، وقادرة على الحسم حين يقتضي الأمر ذلك، وبدت الكتلتان الأخريان بجانبها محدودة التأثير على الرأي العام مقارنة بها.
والتجربة المصرية مع حكم محمد مرسي شديدة الوطأة والدلالة، ولو وُجد بين ‘القطبيين’ من تنبه لأبعاد أزمتهم الراهنة ما استهلك الوقت في الصدام مع الشعب والدولة، ما تأخر الحل كثيرا، ولا زاد من تعقيدات الوضع، وبعدما ما سالت الدماء أنهارا بدا الحل غير ممكن قبل محاسبة القتلة والمتورطين في العنف وحرق المنشآت العامة والممتلكات الخاصة وقطع الطرق وتفجير مخازن الوقود ومضخات الغاز وتعطيل النقل والمواصلات، وللحديث بقية الأسبوع القادم إن شاء الله.
‘ كاتب من مصر يقيم في لندن
مقال راءع للسيد دياب . بارك الله فيك .