صدرت في مطلع الشهر الحالي، آذار/مارس 2018، النسخة العبرية من كتاب «لا مكان للاحلام الصغيرة»، وهو الكتاب الاخير للرئيس الاسرائيلي السابق، شمعون بيرس، وطلب نشره بعد وفاته. وكان الكتاب قد نشر في أمريكا، بالانكليزية قبل اشهر.
فقرات كثيرة في كتاب بيرس هذا استوقفتني ولفتت انتباهي. لكن الفقرة التي دفعتني لتخصيص هذا المقال لها، هي فقرة تتحدث عن عقيدة سياسية اسرائيلية/صهيونية غير معلنة، بل ان المعلن هو عكسها تماما.
يروي بيرس في تلك الفقرة قصة اول لقاء له مع دافيد بن غوريون، «مهندس» دولة اسرائيل. اذ بعد اربع سنوات من هجرة بيرس الى فلسطين سنة 1934، وهو في الحادية عشرة من عمره، تم ارساله الى مدرسة داخلية في قرية/معسكر بن شيمن التابع لحركة «الشبيبة العاملة»، وبعد سنتين قضاهما هناك، انتخب عضوا في «السكرتارية القُطرية» لتلك الحركة. وبعد اشهر من ذلك كلّف بالسفر الى حيفا، التي خطط الوصول اليها بالحافلة في احد ايام الاسبوع التالي. وعند ابلاغه ذلك لبيرل كتسينلسون، (احد الكتاب والمنظرين الاوائل للحركة الصهيونية، ومن مؤسسي نقابة العمال اليهودية «الهستدروت»، ومن ابرز مؤسسي «حركة العمل» اليهودية في فلسطين، والتي تطورت لتصبح لاحقا حزب «مباي» الذي اصبح بدوره «حزب العمل» الاسرائيلي حاليا)، اقترح عليه كتسينلسون الاستغناء عن ركوب الحافلة، والسفر في سيارة صديق له سيسافر الى حيفا في ذلك اليوم. فرح بيرس بالعرض، واستفسر عن اسم ذلك الصديق، فقال له كتسينلسون انه دافيد بن غوريون. يقول بيرس ان بن غورين لم يكن بالنسبة له مجرد انسان او قائد، كان بالنسبة له «اسطورة»، وانه لم يَنَم في تلك الليلة كعادته، جراء قلقه وانشغاله وحصر أفكاره في ما يمكن لبن غوريون ان يثيره من مواضيع للنقاش، وفي اعداده للرد عليها، على أمل ان تضمن له تلك الرحلة، قضاء ساعتين برفقة بن غوريون، يتصرف خلالهما بشكل يضمن له تكوين بن غوريون لانطباع ايجابي عنه، مع امل مضمر ان يفتح ذلك بابا له للتقدم في سُلّم المسؤولية والقيادة لاحقا.
لكن أملَ بيرس قد خبا. إذ بعد استقراره في المقعد الخلفي للسيارة تم فتح الباب، ودخل بن غوريون وجلس بجواره، والقى نظرة متفحّصة على «الشاب» بيرس، ثم القى بجسمه نحو زجاج شُبّاك السيارة، وغطّ بعد لحظات في نوم عميق، ودون ان ينطق بأي كلمة.
يقول بيرس: «لقد نام طوال الرحلة تقريبا. ولكن عندما اقتربنا من حيفا، فان اهتزازات السيارة على طريق غير معبّد جيدا ايقظته، ولحظت بطرف عيني انه يتململ ويفرك عينيه ويعتدل في جلسته. بدا لي عندها احتمال ان الفرصة قد تسنح لي الآن. عندها، وبدون انذار مسبق، التفت إليّ وصرخ: «هل تعرف؟ تروتسكي ليس رجل سياسة». (ليون تروتسكي هو احد زعماء الحزب الشيوعي الروسي، ومن كبار قادة الثورة البلشفية ومقيمي الاتحاد السوفييتي، واقرب اعضاء المكتب السياسي الى لينين، واول وزير خاجية للاتحاد السوفييتي، اصطدم بخلاف حاد مع ستالين، وفرّ الى البرازيل، وارسل ستالين من اغتاله هناك يوم 21 آب/اغوستوس 1940).
يتابع بيرس: «لم اعرف بماذا افكر، ولا بماذا أُجيب. لم اعرف كيف وصلنا الى هذا الموضوع اساسا، او لماذا يعتقد هو (بن غوريون) بامكانية ان يكون لي اهتمام بتروتسكي اصلا، بل ولم اعرف الى ماذا يشير. لكن، كيف لي ان لا احاول الاستطلاع؟. ولذلك سألته: لماذا؟.
سنة 1918، بعد الثورة في روسيا اصبح تروتسكي اول وزير خارجية للاتحاد السوفييتي. وترأّس الوفد السوفييتي لمفاوضات انهاء مشاركة روسيا السوفييتية في الحرب العالمية الاولى. لقد سئم تروتسكي من مطالبات المانيا بتنازلات جغرافية آخذة بالاتساع، وقرر انهاء المفاوضات بالكامل. لكنه اعلن بدلا من ذلك، ومن طرف واحد، ودون توقيع اتفاقية مع المانيا، عن انهاء الاعمال العدائية. ووصف تروتسكي خطوته تلك بانها «لا حرب ولا سلام»… أي سياسة «لا حرب ولا سلام» هذه؟ صرخ بن غوريون بوجه عابس. ما هذا؟ انها ليست استراتيجية. هذا اختراع يهودي. إمّا سلام، وعندها يتم دفع الثمن الباهظ الذي يتطلبه ذلك احيانا؛ او حرب، وتحمّل امكانية مخاطر رهيبة تتضمنها.
وهنا ايضا لم اكن اعرف بماذا أُجيب. لكن لم يكن للامر قيمة هذه المرة، إذ قبل ان احاول صياغة أي رد، اغمض بن غوريون عينيه وعاد الى السهو، دون ان يضيف كلمة واحدة».
هذه الفقرة من كتاب بيرس، تكشف لنا بوضوح كامل نظرة وتقييم اسرائيل والحركة الصهيونية لـ»السلام». فالسلام بالنسبة لهم ليس مطلبا مرغوبا. انه عبء يتطلب «دفع ثمن باهظ.. احيانا»، حسب قول بن غوريون. هذه العقيدة السياسية الاسرائيلية/الصهيونية لم تتغير منذ انشاء الحركة الصهيونية، ومنذ اعلان بن غوريون إقامة دولة اسرائيل، وحتى الآن.
يحضرني في هذا السياق، ما سجلته في مقال سابق كاقتباس من مذكرات دافيد بن غورين التي ثبتها بخط يده في يومياته. ففي صفحة يوم 14.7.1949، أي خلال فترة انعقاد «مؤتمر لوزان»، (باشراف الامم المتحدة، وشاركت فيه مصر وسوريا والاردن ولبنان من جهة، واسرائيل من جهة اخرى، وحضره ممثلون عن امريكا وبريطانيا وفرنسا وتركيا، ولم يسفر عن أي اتفاقية سلام). استمر ذلك المؤتمر خمسة اشهر، (من نيسان/ابريل حتى ايلول/سبتمبر 1949)، يقول بن غوريون في صفحة يومياته تلك، ودون اضافة أي تعليق او ملاحظة: «جاءني ابا إيبان. انه لا يرى ضرورة أن نسعى لاحراز اتفاقية سلام.. الهدنة تكفينا. إذا سعينا لإحراز سلام فإن العرب سيطلبون منّا ثمنا لذلك، ربما تعديلا في الحدود أو إعادة لاجئين، او ربما كليهما». هذا هو الموقف الاسرائيلي/الصهيوني من «السلام». انهم يعتبرونه «بضاعة باهظة الثمن»، وليس هدفا ساميا وقيمة انسانية واخلاقية، هذا عيب وخلل ومرض في العقلية الاسرائيلية/الصهيونية.
من هنا، فإن كل توقف فلسطيني عن مواصلة كافة انواع الاشتباك مع اسرائيل، وعلى كافة الاصعدة والمستويات، وفي جميع الساحات والميادين دون اي استثناء، هو سياسة فلسطينية خاطئة، تخدم مصالح الاحتلال والاستعمار الاسرائيلي، الذي يسعى لإدامة الوضع الراهن، والاكتفاء بـ»إدارة الصراع» الفلسطيني الاسرائيلي، وليس حلّه.
كاتب فلسطيني
عماد شقور
صدقتَ طولا و عرضا، كما صدقتك قبلي الأوضاعُ، فِعلا و أرضا. و بالمناسبة، العودة يا عرّاب السّلام، فرض لا عرض، نقوم به يوما في السّنة، ثمّ ننبطح بعده أرضا !!! شكرا أستاذنا جزاك الله خيرا.