لفتت التعيينات الجديدة في الإدارة الأمريكية أنظار الخبراء والدوائر الدبلوماسية في روسيا. ويسعى الجميع لفهم دوافعها الحقيقية، وإلى أي حد ستغير ركائز السياسة الخارجية للولايات المتحدة ومؤشر اتجاهاتها؟ وما سيكون تأثيرها على العلاقات مع موسكو التي تعكرت في الأيام الأخيرة؟
وتبلور في موسكو موقفان في رد الفعل على تلك التعيينات، الأول يتسم بالذعر والقلق منها، انطلاقا من الخلفية السياسية للمسؤولين الجدد الذين يحتلون مناصب مفصلية، وفتحت مراكز الدراسات ملفاتهم السابقة وسيرهم الشخصية، وخلصت إلى ان حضورهم في البيت الأبيض سيجعل العلاقات بين البلدين تنزلق نحو منحدرات أخطر. الموقف الآخر يحث على تقليل دور الشخصية في السياسة الأمريكية، لأنها تعتمد في الدرجة الأولى على الرئيس ترامب الذي يراهن الكرملين عليه. وضمن هذا السياق يرى وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف «ان نهج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وعلى الرغم من كل شيء يهدف إلى تطبيع العلاقات مع روسيا، وإقامة تعاون لمصلحة الجميع». لأن الرئيس الأمريكي، كما ترى روسيا يراهن على مساعدة موسكو في حل المشاكل المتعلقة بكوريا الشمالية وسوريا وإيران وأوكرانيا، وداعش. ولكن العلاقات تأزمت أكثر بعد التعيينات الجديدة، وطرد أمريكا 60 دبلوماسيا روسيا وإعلان موسكو الخميس لرد مماثل بطرد 60 دبلوماسيا أمريكيا وسحب ترخيص عمل القنصلية الأمريكية في بطرسبورغ ردا على غلق القنصلية الروسية في سياتل الأمريكية، وسادت في البيت الأبيض كفة الرافضين للتعاون مع موسكو، في ما يبدو انها حرب باردة، ولكن من نمط جديد.
صعود الصقور
التعيينات الجديدة في البيت الأبيض، تزامنت مع دورة التصعيد الجديدة في العلاقات بين موسكو وواشنطن، بعد تأييد واشنطن لندن في اتهامها روسيا بالضلوع في عملية تسميم ضابط المخابرات العسكرية السابق العميل البريطاني سيرغي سكريبال وابنته يوليا في مدينة سالزبري البريطانية، كما بددت الآمال التي عقدت في موسكو، على تحسن العلاقات بين البلدين بعد تلقي الرئيس بوتين تهنئة هاتفية بفوزه في الانتخابات الأخيرة، من الرئيس ترامب. واستقبلت روسيا بارتياح وحماسة الاتصال الهاتفي من البيت الأبيض. وكتب الرئيس ترامب على صفحته في «تويتر» بعد التهنئة «ان وسائل الإعلام نشرت أنباء مزورة، لقد فقدت عقولها، لأنها تريد مني ان أعنفه، انها غير محقة! ينبغي التفاهم مع روسيا، هذا جيد».
ولم تشعر موسكو بالسعادة من مغادرة وزير الخارجية الأمريكية ريكس تيلرسون منصبه، نظرا لأنه، وفقا لتقديرات الخبراء بالشؤون الأمريكية، ينتمي إلى المجموعة قليلة العدد ممن يصفونهم «بالمعتدلين». وتعرض تيلرسون للنقد بسبب موقفه غير المتشدد للحد الكافي من روسيا. وتبدي بعض المراكز الروسية مخاوفها من وزير الخارجية الأمريكي الجديد مايك بومبيو. ويقول مدير عام المجلس الروسي للشؤون الدولية اندريه كورتونوف وهو يتحدث لصحيفة «النجم الأحمر» الناطقة باسم وزارة الدفاع الروسية «ان بومبيو القادم لوزارة الخارجية من المخابرات المركزية، رجل من نوع آخر تماما…وتميزت وجهات نظره حول الشؤون الدولية دائما بالتشدد، ويرى العالم بين الأبيض والأسود، وليس متعدد الألوان. وان هذه السياسة شملت روسيا أيضا». وأضاف «ان التغيرات في وزارة الخارجية هي تعزيز جديد لجهود وزير الدفاع جيمس ماتيس الذي تحول إلى الشخص النافذ الثاني في واشنطن بعد الرئيس». بدورها ترى مستشارة مدير عام وكالة أنباء «روسيا اليوم» الدولية فيرونيكا كراشينينيكوف: «ان مايكل بومبيو خطر في منصب وزير الخارجية، وانه سيجعل من الوزارة حيث عمل الدبلوماسيين، مؤسسة عدوانية». وحسب تقديرات نائب الدوما سيرغي جيليزنياك فان آمال ترامب معقودة على ان بومبيو سيكون أكثر «صقورية» في القضايا التي ستُملى عليه. «وبهذا المعنى علينا ان ننتظر من بومبيو مواقف أكثر تشددا في سياسية الولايات المتحدة الخارجية». بعض القراءات ترى ان المهمة الرئيسية الملقاة على بومبيو هي التضييق على روسيا لإخراجها من سوريا، لان ترامب يسعى إلى الضغط على موسكو كي تُغير سياستها تماما في الشرق الأوسط، وبهذا سيتمكن من تحقيق وعده الانتخابي لمعالجة القضية الإيرانية وفق رؤيته.
وفي ضوء تعيين جون بولتون مساعدا جديدا للرئيس لشؤون الأمن القومي، فان الكرملين يحبذ ان يزداد في البيت الأبيض عدد الذين «يبتعدون عن موجة النفور من روسيا» وبولتون ليس منهم. ووفق تصريح وزير الخارجية لافروف «ان ترامب يتخذ قرار تعين الموظفين تبعا لقدرتهم على إدراك المهام الماثلة أمام إدارة البيت الأبيض».
ردود الفعل الرسمية تتحفظ على الميول التي ظهرت في العديد من البلدان وفي روسيا أيضا، بإثارة المخاوف والتنبيه إلى الخطر من غير داع من تعيين «صقور» على رأس الخارجية الأمريكية والمخابرات المركزية والأمن القومي.
ولكن موسكو مع ذلك تضع في حساباتها التاريخ السياسي لجون بولتون ومواقفه التي كانت تثير الحساسية لديها، بما في ذلك كونه كان من المتحمسين لقرار بوش الأصغر بشن الحرب على العراق. وكون ان إشغاله منصب الممثل الدائم لأمريكا في الأمم المتحدة تميز بمواقفه العدوانية الصريحة حيال المنظمة الدولية. وبوصفه من الذين يتبنون نهجا متشددا من إيران، حث الرئيس ترامب في حديث له نشرته صحيفة «وول ستريت» على فسخ الاتفاقية النووية مع إيران، ووصفها بـ«واترلو الدبلوماسية» في إشارة إلى المعركة التي انهزم فيها نابليون. وهذا الموقف يتعارض تماما مع التوجهات الروسية، التي تعتبر الاتفاقية بشأن الملف النووي الإيراني، إحدى النجاحات التي حققتها الدبلوماسية الدولية في الآونة الأخيرة، وستزيل المخاوف من خطر إنتاج طهران السلاح النووي. إضافة إلى ذلك هناك مخاوف من ان تعيين بولتون ومايك بومبيو وجينا هاسبل، ربما ستفاقم أزمة الملف النووي الكوري الشمالي وتخفض من فرص الحلول السلمية لمواجهته.
وقالت صحيفة « نيزافيسيما غازيتا» الليبرالية الصادرة في موسكو، في كلمتها الافتتاحية» ليس من المُستغرب لو ان بولتون سيحث ترامب على اتخاذ مواقف متشددة أكثر من روسيا، بسبب ما يسمى قضية سكريبال». وان تعيين بولتون وقبله بفترة قصيرة مدير المخابرات المركزية مايك بومبيو بدلا عن ريكس تيلرسون، يعني ان روسيا قد تصطدم مستقبلا بالمفاجآت غير السارة. ويبدو ان التطورات المتسارعة وحرب طرد الدبلوماسيين هي إحدى التداعيات من التعيينات الجديدة في الإدارة الأمريكية.
وتفاجأت الأوساط الروسية بتعيين جينا هاسبل مديرة لجهاز المخابرات المركزية، ليس فقط لكونها أول امرأة ستترأس هذه المؤسسة الخطيرة، بل لأنها أيضا تنضم وفق التقديرات الروسية إلى صف الصقور. وتدرك روسيا انها ستكون أول الأهداف التي ستركز هاسبل ممارسات التجسس عليها. ووصفتها وسائل إعلام انها «مدام ذات نظرات هادئة وميول صقر». وأعادت الذاكرة إلى سجلها الحافل بالتجاوزات لاسيما مشاركتها في تعذيب العناصر المتهمة بعلاقاتها بالقاعدة وإشرافها على السجون السرية.