مصر: المقعد الشاغر على طاولة الإقليم

يتقلب جمال عبد الناصر في قبره، يتميز غيظاً وغضباً، وهذه الاستعارة من عالم الغيبيات إلى الواقع السياسي يمكن أن توصف إلى حد بعيد معالم الغيبوبة المستحكمة لسياسة مصر الخارجية، والرجوع الطوعي للصفوف الخلفية، في الوقت الذي تجتمع روسيا وتركيا وإيران لتقرير مصير الحرب في سوريا.
تصدت مصر الناصرية، ولو بتكلفة عالية للغاية، لانتفاضة الرمق الأخير للغرور الاستعماري لبريطانيا وفرنسا في أزمة السويس، وطرحت نفسها لقيادة ما يسمى بالعالم الثالث وكتلة عدم الانحياز أمام الأمريكيين وحتى الروس في مرحلة ما، وكانت مصر تستثمر عملياً للتحول إلى قوة إقليمية تستند إلى كتلتها البشرية وموقعها الاستراتيجي وعمقها الحضاري. واليوم يجد المصريون أنفسهم مغيبين عن أكثر الصراعات في المنطقة سخونة، وتنحصر طموحاتهم في التأثير الإقليمي على حجز دور في قاطرة السلام المنطلقة بسرعة غير مسبوقة مع إسرائيل من خلال اللعب على ورقة غزة.
يدور التنافس الشرس بين العديد من الدول الصاعدة على موانئ المحيط الهندي وبحر العرب للتحكم في مدخل البحر الأحمر الذي لا يساوي أكثر من بحيرة إقليمية بدون قناة السويس، بينما الدولة التي تحتضن هذه القناة التي غيرت شكل العالم في القرنين الأخيرين تتوقف لمشاهدة هذا السباق وجني المكاسب على حسابها دون أن تمتلك الصوت المرتفع الذي يمكنه أن يذكر الجميع بأن مصر تمتلك أصلاً الطاولة التي تجري عليها اللعبة.
يفتقر السؤال حول الظروف التي أوصلت مصر لهذه الحالة لأي درجة من الذكاء، والسؤال يمكن أن يوصف بالغبي لأن الإجابات واضحة وكثيرة على السواء، ومن ضمنها حملة متواصلة لإشاعة الانكفاء المحلي خاضها الإعلام المصري بشراسة على امتداد سنوات طويلة، ووصلت إلى ذروة مغالطاتها وعبثها في السنوات التي أعقبت الثورة، ويشيع الإعلام المصري أن القاهرة خرجت خاسرة من حروبها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية وراء الحدود، متناسين أن هذه النقطة كانت استثماراً طويل الأجل انصرف عنه المصريون قبل أن يجنوا ثماره الفعلية، فكانوا يشبهون الشخص الذي أقعده اليأس قبل أن يضرب معوله في صندوق الكنز بلحظة واحدة، ولم يدرك المصري البسيط أن انسحابه على هذه الشاكلة وعزوف الدولة عن تحمل تكلفة التأثير ألقى بمصر في مغبة التأثر والتبعية التي لا تليق لا بمصر ولا بالمصريين، ولا تتناسب أصلاً مع شخصية الدولة وروح الشعب في مصر، وأن مصر لم يعد أمامها سوى أن تأكل نفسها وأن تنصرف لحوضها الصغير حول النهر المهدد بتحالفات الإقليم، وأن تتحول إلى أرض إلى الاستثمارات الانتهازية التي تسعى إلى مشاركة المصري في عوائده الريعية وتصديرها إلى الخارج.
اتصفت السياسة المصرية تجاه سوريا بكثير من التحفظ واتخذت مصر مسافة مريحة تجاه تطورات الأحداث، ولعلها استثمرت أيضاً في تقلباتها تجاه ما يجري في سوريا. وكانت الحجة الجاهزة للدولة المصرية هو الظروف التي تواجهها على المستوى المحلي، والانشغال في حربها على الإرهاب، وهو في حد ذاته تعبير يحتاج هو الآخر إلى كثير من النقد، فالقصة لا تتوقف على الإرهاب ولكن على وجود تهديد فعلي للوزن الاستراتيجي لمصر من خلال إتاحة الضفة الشرقية لقناة السويس لمخاطر جسيمة يمكن أن تخلق تصوراً بأن الدولة المصرية يمكن أن تترك القناة لتصبح هي الأخرى جزءاً من منظومة عالمية بينما يبقى للقاهرة تأثير معنوي محدود على الخيارات الاستراتيجية.
يتوضح المعنى بالتأمل في ضرورة وجود الخيار شمشون على هامش أي دولة، نوع من الردع الضمني والقدرة على قلب الطاولة، وهو ما تسعى له طهران من خلال جهودها لامتلاك القنبلة النووية، ويجب على المصريين في المقابل أن يصدروا أن فكرة هذه الصراعات التي تدور حول طرق التجارة وتدفق الغاز من شأنها أن تخضع بدرجة كبيرة لصفو أو تعكر مزاج الدولة في مصر، والسياسة المتحفظة هي آخر ما يحتاجه المصريون، فبينما تنطلق التهديدات المبطنة والصريحة للداخل المصري لإثنائه عن الحركة، فإن لغة الدبلوماسية المصرية وابتعادها عن مواطن التعبير الصريح عن المصالح المصرية الاستراتيجية تبدو مهادنة ودون مستوى ما يليق بمصر وتاريخها وإمكانياتها الحقيقية.
بقيت سوريا دائماً بالنسبة للمصريين جزءاً من منظومة مادية ومعنوية منذ التاريخ القديم، فالمصريون المحاطون بالصحراء التي تفصلهم عن محيطهم الافريقي كانوا يحتاجون للطمأنينة من بوابتهم الشمالية التي تمر عبر سيناء، ولذلك ظهرت سوريا كأولوية مع الدولة المصرية الحديثة وتجربة محمد علي، وبقيت مصر تفكر دائماً في الإبقاء على البوابة الشرقية تحت نظرها دائماً. وحتى مع قيام إسرائيل وظهور مخاطر وجودية على الدولة في مصر، فإن العلاقة مع سوريا اكتسبت أهمية مضاعفة لضرورة توزيع عبء دولة (إسرائيل) على الأمن المصري من خلال وجود تهديد آخر في الشمال. ولعل جزءاً كبيراً من انصراف المصريين عن تلبية الدعوات الصريحة والمبطنة من الحلفاء الخليجيين لاتخاذ موقف أقرب لهم تجاه الأزمة في سوريا تأتى أصلاً من وجود نزعة معنوية لدى الجيش المصري تجاه سوريا تجعل من المتعذر أن تخوض مصر في تهديد الدولة في سوريا بشكلها المعهود، وضمنياً. ولعل واحداً من أخطاء الرئيس محمد مرسي التي جعلته يفقد السيطرة على مفاتيحه لدى الجيش كان المؤتمر الذي أقامه ضد النظام في سوريا والذي جعله يقترب بصورة حرجة من تيارات الإسلام السياسي المتشددة، ويجعل الجيش يخاف من تحالف صاعد بين الإخوان المسلمين والمتطرفين بصورة كان من شأنها أن تعقد الأمور على الجيش والتيارات المدنية التي تحالفت معه قبل افتراق سريع بانسحاب البرادعي من المحاصصة المرتجلة التي جرت بعد إزاحة نظام الإخوان المسلمين.
الظروف التي اعترت الانتخابات المصرية فوتت الفرصة لاختلاق طروحات تتعلق بتوجهات مصر على مستوى السياسة الخارجية على الأقل ضمن برامج مفترضة للمنافسين، وبتدبير انتخابات مناسبة تتجنب أي صداع أو مفاجآت فإن البرامج الانتخابية اقتصرت على وعود الرئيس السيسي باستكمال مشاريعه التي من الصعب اختبار جدواها قريباً. ولكن يبدو أنها ستواصل استهلاك إمكانيات مصر الداخلية في المدى الطويل دون أن تترك لها فرصة لرسملة وزنها الإقليمي والاستراتيجي، وبذلك، فإن الإعلان عن صعود القوى الإقليمية التي ستشكل المنطقة مستقبلاً في لقاء أنقرة، وبالتزامن مع اعلان الرئيس ترامب الانسحاب من سوريا، يعمق من أزمة مصر الإقليمية التي يجري تضليل المصريين حول حقيقة أهميتها، خاصة في إقليم إن لم يتم وضع رؤية للتقدم لمواجهة مشكلاته فإنه يمكن أن يقوم بتوصيلها (ديليفري) لأعتاب المصريين، فربما تفيق القاهرة بأنها أكبر من أن تترك نفسها للغياب عن المشهد.
كاتب أردني

مصر:المقعد الشاغر على طاولة الإقليم

سامح المحاريق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد صلاح:

    اللى يحتاجه البيت يحرم على الجامع
    مصر بعد ثورة ٢٥ يناير وما تلى من ذالك
    اصبح كل همها ان تقف على رجليها
    خاص بعد ما حدث فى البلاد المجاورة
    من دمار وانهيارات
    وخاصة الاٍرهاب القادم ويريد ان
    يجد له مكان فى مصر
    مضيق باب المندب المهم لكل دول العالم
    شرقا وغربا ومن بينهم مصر
    من مصلحة كل العالم ان يكون فى أمان
    ومصر وكل الدول الهامة تقوم بالواجب
    اما عن تدخل مصر فى سوريا
    كان قرار مصر صائب من البداية حتى الان
    ماذا حدث لكل الدول التى تدخلت كلها
    خاسرة وسوف ترجع الدولة السورية الى
    حالتها الطبيعية
    مشكلة مصر التى تضحى فى كل الحروب
    التى دخلتها وشهدائها وهم بعشرات آلاف
    منذ حرب ٤٨ حتى الان
    بعض العرب يعايرون مصر على دخولها
    هذه الحروب وعلى انها لم تنجح فى تحقيق
    مطالب العرب الجالسين يتفرجون على المعارك
    من منازلهم مثلما يتفرجون على فيلم.
    والمصريين تعلموا من الدروس
    المحتاجة البيت يحرم على الجامع

إشترك في قائمتنا البريدية