ركعتان في العشق لا يكون وضوءهما إلا بالدم، تلك إحدى تجليات صوفي خلع الخرقة وترجل إلى أزقة كي يعفّر جسده من ترابها وما يتساقط من غبار سقوفها المتصدعة تحت وابل المطر، وتشاء المصادفة أن أزور قبر الحلاج أو بيته الذي يخلو من رفاته ذات شتاء بغدادي تحت سماء محتقنة بزفير التاريخ، حيث مكثت في فضاءاتها المضاءة بغير الكهرباء أنفاس هؤلاء الذين عاشوا في زمن كان فيه العراق أرض السواد لفرط الاخضرار، وكانت بغداد مصدر الفعل الذي اشتق من اسمها وهو يتبغدد بمعنى يذهب عميقا في الرفاهية والسؤدد، وكنت أشعر أن أبا الطيب والجاحظ والفراهيدي وسائر السلالة يحرسون أصابعي من اقتراف خطأ، في زمن أصبح فيه العربي يرطن بأبجدية مشوبة بنبرة استشراقية.
أذكر أنني استأذنت حارس بيت الحلاج ولا أقول ضريحه لأنه لم يكن هناك بل تحول إلى رماد في سماء المدينة كي أكتب على الجدار: «اقتلوني يا ثقاتي إن في موتي حياتي»، ثم أوقع تحتها مؤتلفا ولا منتحلا أو متقمصا أبو منصور.
قال لي حارس الحلاج إن السقف المتصدع يرشح منه الماء عندما تمطر وإنه يستغيث بأولي الأمر كي يرمموه، وكان يحفظ كثيرا من أشعار الحلاج، ويرفض بشدة ما أقوله له عن فراغ الضـــــريح، لكنه أصيب بالدهشة وربما بالقشــــعريـــرة حين رويت له ما جرى في تلك الليلة، ليلة الصلب والحرق والرماد حيث اخـــــترع فقهاء السلطة خرافة عن طائر اسمه الزبزب يأتي من سماوات عالية ويخطف الأطفال، وما من أسلوب يفزعه غير رنين النحاس، لهـــــذا خرجت النســــوة إلى أسطح المنازل للطرق على كل ما لديهــــن من أوان نحاســـية، وفيما كان الرنين الأصفر يحجــــب الاستغاثة كان الرجل يدفع ثمن خـــلع الخرقة، والسعي بين الناس لأنه أدرك في لحظة ما أنه أحدهم، وأن الحلول مهما أوغل في المطلق لا يفصل بين مصيره ومصائرهم.
وبالعودة إلى وضوء الدم فهو ليس وقفا على عشق الصوفي فدماء العشاق دوما مباحة كما قال أبوالقاسم الشابي في إحدى قصائده التي حجبها نشيده الشهير «إذا الشعب يوما أراد الحياة» كما تحجب الشجرة الغابة، ومن توضأوا بدمائهم في يوم الأرض الذي لا تتسع له التقاويم بقدر ما تتسع له القيامات، أدوا صلاتهم بما يليق وعشقهم. لكن فقهاء تهريب الوقائع وشهود الزور أوحوا للعالم أن ما حدث في غزة هو حادث سير لأن العائدين ولو بمسيرة رمزية لم يتوقفوا عند الإشارة الحمراء وما كتب تحتها بالعبرية.
فما الذي يمكن للمرء أن يشعر به وهو يرى من ينوب عنه حي في الموت تماما مثلما ناب عنه في العودة، هؤلاء عادوا بطريقتهم، ولم تدنس أكفانهم أصابع المحتلين كي تفتش أجسادهم بحثا عن قشعريرة مممنوعة لأن المقرر هو إفراغ الآدمي من آدميته، وبالتالي إعادته ملايين السنين إلى الناب والمخلب والذيل أيضا.
وخرافة طائر الزبزب التي شغلت الناس عن صلب الحلاج لها تجليات كثيرة في تاريخنا، فكلما تحرك الناس بعد أن تجاوز الاستبداد وسيل الدم الزبى يتولى محترفو التزوير صرف الانتباه عن كل ما يجري، باختلاق خرافات لا وجود لها ولمخلوقاتها إلا في خيالهم، وما من بلد عربي في العصر الحديث لم يتم فيه اختلاق خرافات أو حكايات ملفقة لصرف الانتباه عن الواقع. وفي المناخات الملبدة بالخوف يصلب ويحرق أناس صدقوا ما قيل لهم عن الحرة التي تجوع ولا تأكل بثدييها.
إن ركعتي العشق اللتين تحدّث عنهما الحلاج يقرأهما كل منا كما يشاء ووفقا لمعجمه الذي رضعه وتربى عليه، والأرض التي هي مهد ولحد وموت وقيامة تستحق أن يسبقنا إليها دمنا، لأنها المؤتمنة عليه تماما كما هي مؤتمنة على أسلافنا الذين رضعت جذور الزيتون والنخيل من فائض الحياة في قبورهم!
والرجل الذي قال: «اقتلوني يا ثقاتي إن في موتي حياتي» أدرك دون ادعاء أقصى ما تبلغه جدلية التاريخ، خصوصا حين تتجلى في الأحياء الموتى والموتى الأحياء.
لم يكن بحر غــــزة قد جفّ ولا ترابـــها هاجــــر كي يكون وضـــوء العشق بالدم لا بالمــــاء أو التيمم، لكن ما قـــاله الشابي عن دمـــاء العشاق المبــاحة يليق بالأوطان أيضــــا، لهذا لم يكن الشابي يخاطب في قصيدته تلك امرأة، ولم يكن أحـــد مجانين ليلى وأخــواتها، بل بدأها بقوله: أنا يا تونس الجميلة في لُجّ الهوى، فكان مجنون تونس لا مجنون ليلى أو لبنى، لكن الورثة الذين اشتبكوا على الميراث في عالمنا العربي ليسوا أبناء لهذا يؤدون صلاة الرياء بلا أي وضوء أو حتى تيمم !!
٭ كاتب أردني
خيري منصور
استاذ خيري
في هذا الصباح الدامي في غزة ودوما حيث ابطالنا توضؤوا بالدم ولم تكتب لهم سوى الصلاة على الشهيد، أقرأ نصك المبدع وتعود بي الذكرى إلى بغداد أيضا، ارى نفسي اتجول في شارع المتنبي وأتصور كيف تجرأ مستبدو الأمس بإحراق الحلاج وابن المقفع، فهم احرقوا الجسد ولم يحرقوا الروح ولا الكلمة التي مازالت تحيا بعد الحريق..
اليوم نتوضأ جميعا بالدم والدموع ودخان الكاتوتشوك وزعامات آخر زمان تضرم إوار المحرقة..
تحياتي أستاذ خيري منصور: في واقعنا العربي وعلى مر التاريخ هناك ألف حلاج وألف طائر زيزب. وتظهر تلك الطيور وأمثالها عندما يكون هناك حدث لايرضي أولي الأمر ويسعون لاجتثاثه أو تزويره بتلفيق بدائل زائفة تضفي الشرعية على أفعال منكرة أو إشاحة النظر عنها.
في الماضي لم تكن الخرافة تنتشر بيوم وليلة بل تحتاج إلى دهر حتى تترجم على السنة العامة ويسرح خيالهم ليكون الفأر جملا أوطائر صغير عبارة عن رخ أو عنقاء، وبالتالي يصنعون خوفهم تماهيا مع خرافة تريد إبعادهم عن الحقيقة. قبور الأولياء التي انتشرت في كل ركن وشارع وحي، كانت هي الأخرى لإخفاء الدفائن أو القمح وغيرها وأصبحت مزارا لاحياء الطقوس والابتهال وتقديم النذور.
واقعنا الحالي وفي عصر المعلوماتية، أصبحت البروبوغندا تصنع الرأي وفقا لرؤيا يريدها أولي الأمر فيصبح اللص قديسا وصاحب الحق معتديا.
مأساة الحلاج وابن المقفع وابن رشد وكل من سحلوهم بالتاريخ كانت تهمتهم الزندقة والخروج عن الدين، إلا تزال معاناتنا هذه مستمرة إلى اليوم بإشكال مختلفة؟.
. نحن في وطن فيه الموت عادة منذ أيام اسلافنا . لكي نحب ، لا بد من الموت . لكي نبني بيتا على ارض اجدادنا ، لابد من موت . لكي نزرع لابد من جرح الأرض وموت الرجال . لا بد ان نحيا ومن اجل هذا نموت حبا في الحياة . ألف مسيح دونها صلبا . كتب الجواهري يوما
أما اليوم كثر الجادون في إستفاء أطماع الأنانية المتحايلة، فيصيبك الهلع في أمور بسيطة لا تستدعي ” التكشير” في السوق مثلا تكاثرت هذه الأشكال الغير خجولة فعند رمي الخضار بقوة لضغط ألكفة فتظهر الزيادة في الميزان على الكيلوا غرام فسرعان مايتم تجاوز ماطلبه الزبون وفق السعر المعلن عنه وكأن الزبون رقمٌ هَشٌّ متفقٌ مسبقًا مع رغبة الخضار الذي لايشبه الخضارين الأصلاء على أن يبتز إضافات نقدية من جيب المستهلك بسبب زبزب إنخفاض سعر البترول وتكاليف الاستيراد والأزمة واللهاف والتنافس الكلبي المسعور من الزبزبات الاعلامية، قس على ذلك الضجيج الخنس المبتذل والمكرر، وعناوين الصحف قال فلان قالت فلانة، وقلجوبنا وأرواحنا في واد وكل أخبار العالم تمجيس العقول والقلوب والأذواق….فأصبح الخنانيس الخٌرْأة في أحلامهم في مستوى أحلام السباع، فتخنق شراهتهم الخٌرْءة بغير حق فضاءات التواصل قبل أن يظهر الهاتف النقال كانوا يعرفون كيف يكون لشرههم وطمعهم وطغيانهم نصيب من ثمار التكنولوجيا فتبتز من هاتفك ومن صفحتك ومن بريدك والكل متواطئون المجرم الخراي الهالك لنفسه والضحية الفكه السعيد بهذا التطور الأعوج المنفلت المتوسع بشكل غير صحي وكما قال برغسون بمجرد أن ينفجر المنطاد سوف تولد راحة أنفاس صادقة آمنة ونظيفة، والجدية الغائبة الحبيبة هي النوذج الذي يحمل الفليتوكس ليقضي على الخنافس. والجعالين التي لوثت الجنس البشري بأن يكون فليتوكسه قدوته الحية العزيزة الغالية في اظهار تضحياته من أجل أمته ومبادئه النفيسة…متجاوزا كل الهراء العام المنافق الماسخ لماصاغه الدين صياغة صحيحة سالمة ونافعة معلنا عن نفسه كمركزية نقاء تجذب إليها الأحياء والأنقياء ليكتشف البشر أنهم خونة كذابين وأن التاريخ عن قصد كان يغفل هذه النماذج الخام من الرجال والنساء، لتنتصر عملية الإختبار المضني والابتلاء الغير مغري لتتكرر ” طمبولة ” الجدية التي هي مقدودة على مقاس الإنسان السوي مرفوع الجبين الذي لايشبه المعاصرين الذي قدُّوا وفق مقاييس الخنوس ومعادات العقل والمستويات العليا وهي السقف الحقيقي للانسان الذي يجهد للكرامة ويجوع للعزة والشرف والاستقلال الأنوف الذي يبسط حبه وسلامه وحياته وذوقه واناقته في منأى أو في مستوى أرقى من لوثة عجولة المتسولين والمظاهين من عبدة أسيادهم المغمورين بمظاهر زائفة لاتنم عن رجولة حصيفة بل تقليد غبي هين
“..محترفو التزوير صرف الانتباه..” يخافون من تلك الأجساد التي تتوضأ بالدم لأنها تؤدي صلاة الحياة التي ترهب كتبة الأساطير ورواتها.