الناصرة – “القدس العربي” – وديع عواودة
ياسر مرتجى صحافي فلسطيني من غزة، زهرة في ريعان شبابها قطفتها بنادق السفاحين حينما كان يؤدي مهامه الصحافية في التصوير وتوثيق مسيرة العودة.
ياسر (30 عاما) لم يذهب للمسيرة صحافيا فقط بل شارك كإنسان فلسطيني يلتزم بقضية شعبه الوطنية وبموقف أخلاقي عال موظفا كاميرته لتسليط الضوء على محنته ومحنة أترابه الشباب وكل شعبه وهم جميعا داخل قفص بناه المحتلون البرابرة الجدد وبمساعدة صديق كان بالأمس شقيقا وصار عدوا مشاركا في الحصار من جهة سيناء.
ذهب ياسر لاستشراف حدود وطن طرد منه والده وجده يوم أطبقت السماء على الأرض وزلزلت جبالها في حدث أسموه نكبة. هناك بين سدود وعسقلان في بلدة حمامة أم البدايات والمرتجيات، وما زالت حمامة حراما عليه وحلالا لمستوطن جاء من روسيا البيضاء وأقام مكانه في دياره.
ياسر الطفل الذي كبرّ في مخيم الشاطئ شبّ على رواية سمعها كل يوم قال شاعرها الأول عنها وعن ياسر ووالده وجده وأمثالهم:
أخذوا طعامه والملابس والبيارق
وقالوا: أنت سارق
ورموه في زنزانة الموتى
طردوه من كل المرافئ
أخذوا حبيبته الصغيرة
ثم قالوا أنت لاجئ
صوت المحبة والطيبة
ذهب ياسر للمسيرة وهو منحاز للصوت الداعي للاحتجاج وللتعبير عن صرخة من وضعوه داخل علبة سردين.
في واحدة من كتاباته على صفحته في فيسبوك قبل رحيله، تصدى ياسر لمن اعتبر المسيرات “عبثية” داعيا العذال للكف عن لوم من يرغب بالذهاب للمسيرة “كرمال فلسطين”.
وربما كان يدري أن فلسطين مهرها غال ونفيس فقال بلغته العامية وبلغة المحبة والإخوة: “ممكن نبطل نفتي ونزاود على الناس الي راحت على الحدود اليوم. بلاش قصة دماء بلا ثمن. لأنه كل الي راح، راح عن قناعة بدون إجبار. شكل غزة أمام العالم وقوة القضية الي عايشة في قلوبهم فوق كل هالحكي الي ما اله معنى ومش راح يرجع حد مؤمن بأهمية وجوده على الحدود بيحشد كرمال فلسطين. وبدل ما نقعد نعاتب بعض ونهاجم بعض، هاجم المحتل إلي استعمل أسلحته أمام سلمية المظاهرات الشعبية حتى إنه استهدف المسعفين والصحافة. وكونك ما شاركت مش معناها أنت صح وهم غلط هادي قناعات، هم شايفين إنهم مهمين بالنسبة لبلدهم ووجودهم هان هو وجود فلسطين وانت العكس. ربنا يرحم الشهداء الي الله كتبلهم الشهادة في هاد اليوم وفي هاد المكان. بس والله. قل خيرا أو أصمت”.
عمري ما سافرت
مات ياسر وترك والديه وثلاثة أشقاء: عبد الرحمن وبلال وآمال، وترك حلمه بالخروج من قفص سيواصل حتما رفاقه نضالهم مع كل شرفاء الدنيا حتى تفتح أبوابه ويمارسون حقهم الإنساني الأساسي بالحركة وبالحرية والكرامة.
في منشور آخر على صفحته عبر ياسر مرتجى عن مرتجاه بالقول: “نفسي ييجي اليوم اللي أخذ هاي اللقطة وأنا بالجو مش ع الأرض. اسمي ياسر مرتجى. عمري 30 سنة. ساكن في غزة. عمري ما سافرت”.
ويبدو أن ياسر الذي لم أعرفه للأسف إلا هذا الصباح من خلال جولة في صفحته، كان كبقية شباب غزة مسكونا بهاجس السفر واكتشاف الجديد. شباب الدنيا يتنقلون من سفر إلى سفر إلا ياسر وصحبه، وهم يحلمون بسفر جديد، إلى بلد بعيد إلا ياسر فهو يحلم بزيارة وطنه الصغير – بلدة حمامة بين عسقلان وسدود التي فتحت الصهيونية عام 48 وسفحت طفولتها وهجرت أهلها. لم أسمع عاشقين أبدا يقولان شكرا؟ تساءل محمود في حب تونس وروح ياسر وهي ترفرف فوق غزة تتساءل وتسأل كل من يقرأ هذه الكلمات: هل سمعتم عن عاشق كصاحبي جل مرتجاه أن يزور بيته وبيارة والده وبئر جده؟ هل سمعتم عن طائر بنت له جدته عشا في “حمامة” وحرم من المبيت به ولو ساعة؟
عاش ياسر واقع حصار طال قد تخللته خمسة حروب في 11 سنة فيقول في منشور آخر يتكون من ثلاث كلمات فقط ويحمل معنى إنسانيا كبيرا: “الناس ولدوا ليتنقلوا”.
“غزة باختصار”
في صورة أخرى نشرها ياسر قبل أن يرسل هولاكو الإسرائيلي قناصة تصطاد المدنيين والصحافيين بالأمس، يظهر وهو يرسل عيونه للسماء ليرى حبيبته من الجو، طائرة صغيرة تحمل كاميرا لرصد مدينته المدللة غزة وهي تعانق البحر بكامل سحرها. واعيا لمفاعيل الصورة اكتفى بعنوان قصير: غزة باختصار!
كان هذا مقطعا من فيلم عن مدينة يتغلب فيها الواقع على خيالها فكتب ياسر بدمه بقية سيناريو غزة المحاصرة الجريحة مطلقا صرخة للأفق البعيد فهل يأت صدى صوت دمه النازف المبلل لرمال غزة مسعفا من جهة عالم صار الموت فيه رخيصا؟
الظلام رفيق أهالي غزة
تعلم ياسر في مدرسة “الكرمل” الثانوية في غزة وهي تستحقه لأن الحصار حرمه من الحركة ومن غذاء ودواء ربما لكنه لم يأخذ منه عزته وكرامته الإنسانية وكبريائه المهني، فظل محلقا بأخلاقه العالية علو كرمل كان سيلتقط له ولعروسه أجمل صورة بعدسته، صورة حيفا في ألبومه الجميل جنبا إلى جنب شقيقتها غزة، شريكتها في بحر يخفف من وطأة حصار الأعداء والأشقاء، بموج لا يهدى موجه.
ياسر الجميل شكلا ومضمونا لم يدع اليأس يتخلل لعدسته فحول ظلام غزة إلى لوحات منيرة وفي واحدة من صوره تبدو غزة من الجو في عتمة الليل معلقا من تحتها: “الظلام رفيق ليالي أهالي غزة”.
نم أيها المصور العاشق فلك رفاق منهم من حمل اسمك ومات بالسم أو الرصاص، ومنهم من سيحملون عيونك ويلملمون عدستك المتناثرة على رمال غزة ويواصلون رصد جرائم محتل بلا عيون ولا قلب ولا ضمير. وسنبقى نردد إلى الساعة الأخيرة:
يا دامي العينين والكفين
إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
ولا زرد السلاسل