لندن ـ «القدس العربي»: جسّد ريال مدريد المعنى الحقيقي للجريمة الكروية متكاملة الأركان، في حق سيدة إيطاليا العجوز «يوفنتوس»، للمرة الثانية في غضون عشرة أشهر، وبطريقة تبدو أكثر قسوة وبشاعة من ليلة «كارديف»، بفوز ساحق في قلب المدينة الحديدية وصل قوامه لثلاثية نكراء كانت قابلة للضعف، لتُصبح مواجهة العودة التي سيحتضنها ملعب «سانتياغو بيرنابيو» مجرد تحصيل حاصل، إلا إذا أراد بوفون ورفاقه إحداث معجزة تفوق «ريمونتادا» برشلونة وباريس سان جيرمان الشهيرة.
لمسة العبقري
قبل أن نتطرق للحديث عن دور كريستيانو رونالدو البارز. دعونا نتخيل وجود مدرب آخر غير زيدان تعرض لكم لا يُصدق من الانتقادات بعد إخفاقه المحلي بالخروج المُبكر من كأس ملك إسبانيا على يد ليغانيس والتأخر عن متصدر الليغا برشلونة بـ13 نقطة كاملة. أبسط شيء ما كان الرئيس فلورنتينو بيريز سيتحمله كل هذه الفترة، كما فعل من قبل مع رافا بينيتيز وأسماء عديدة أقالها في منتصف الموسم، الأصعب من ذلك قدرته على تَحمل النقد الذي يرتقي في بعض الأوقات لمُصطلح «جارح»، وهذا في حد ذاته، كفيل بالتأثير على تركيز أي مدرب، لكن لماذا لم يَحدث هذا السيناريو الكارثي مع زيزو؟ أولاً لأنه يملك رصيدا يكفيه للاحتفاظ بمنصبه لنهاية الموسم على أقل تقدير، كمكافأة مُستحقة على ما قدمه على مدار العامين الماضيين، ثانيًا وهو الأهم، عدم تأثره بالهالة الإعلامية ولا بسخط الجماهير الغاضبة من النتائج على المستوى المحلي. فكانت النتيجة عدم فقدان السيطرة على النجوم، وهذا تقريبًا ما يُبقيه في منصبه حتى هذه اللحظة.
أقل ما يُمكن قوله، أن زيدان أثبت بشكل عملي أن مشكلة الريال ليست في المدرب، بل في سياسة التقشف التي فرضها بيريز للعام الثالث على التوالي، والتي وصلت لحد عدم شراء بديل على نفس مستوى من تم الاستثمار فيهم، كخاميس رودريغيز وألفارو موراتا ودانيلو مع ترك المُخضرم بيبي يرحل بعد انتهاء عقده، وهذا انعكس على أداء ونتائج الفريق في الدوري والكأس، نظرًا للفارق الشاسع في جودة بدلاء الموسم الماضي، الذين صنعوا الفارق في عملية «المداورة» وبدلاء هذا الموسم، الذين لم يُقدموا أي إضافة، لكن الشيء الثابت الذي لم يتغير، هو ما ذكرناه أكثر من مرة في العمود نفسه «الريال يملك تشكيلة أساسية قادرة على إرهاب أي فريق في العالم».
من الأشياء التي يستحق زيدان إشادة خاصة عليها، قدرته على شحن هذا القوام الرئيسي وإعداده نفسيًا ليواصل بالزخم نفسه، ولا يكتفي باحتكار البطولات القارية في آخر عامين، وهو في الوقت نفسه، يعرف ويُدرك جيدًا أن مهمة الاحتفاظ بأمجد وأعرق بطولات أوروبا للعام الثالث على التوالي أشبه بواحدة من مهام توم كروز في سلسلة أجزاء «المهمة المستحيلة». على الورق يبدو صعبة للغاية، لكنها ليست مستحيلة في عالم الساحرة المستديرة، بشرط أن يُقدم فريقه كرة قدم مثالية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حتى يكون قادرًا على كبح جماح كل من يُريد الانتقام من البطل المُهيمن في آخر عامين… وما أكثرهم.
تخصص طليان
ظاهريًا، كان من المفترض أن اليوفي من ضمن العمالقة الذين يبحثون عن الثأر بعد رباعية كارديف، لكن على أرض الملعب، بدت المباراة غير متكافئة منذ دقائقها الأولى، بهيمنة مُطلقة على كل متر في الملعب، وكأن الريال يُحاصر أحد ضيوفه في «البيرنابيو» وليس في الملعب الصعب، الذي لم يفز عليه أي فريق أوروبي منذ عام 1999، عندما فعلها مانشستر يونايتد ومدربه أليكس فيرغسون 3-2 في نصف النهائي، وهذا يرجع للتحضير المثالي من قبل زيدان، بإراحة أغلب لاعبيه الأساسيين في مباراة أول الأسبوع أمام لاس بالماس، وجرأته في اللعب بطريقته المُعتادة في المواعيد الكبرى، وتقريبًا التشكيلة نفسها التي يزور بها كبرى ملاعب القارة العجوز، عكس نظيره الإيطالي ماسيميليانو أليغري، الذي اعتقد أن الريال سيبدأ من حيث انتهى موقعة «كارديف»، بشن غارات من على الأطراف بالثنائي الفيراري كاربخال ومارسيلو، وتغافل تمامًا عن السلاح الفتاك إيسكو، الذي كان واضحًا أنه سيكون أحد المحاور الرئيسية التي سيرتكز عليها زيدان في حيله الهجومية، حتى أنه أراحه من مباراة السبت، حتى يكون ظهوره الأول بعد السداسية على أرضية «آليانز ستاديوم»، ليُكمل بالمستوى نفسه، وهو ما حدث كما أراد المدرب، بدليل ما فعله في لقطة الهدف الأول الذي صنعه بأريحية لرونالدو، لانشغال الجناحين كوستا وساندرو بخنق الأطراف على مارسيلو وكاربخال، والمدهش حقًا أن دقة تمريراته ظلت 100 في المئة حتى وقت استبداله في آخر ربع ساعة!
لا ننسى أيضًا، أن زيدان تعلم من أخطاء الماضي، وتجلى ذلك في لحظة تدخله لإعادة الانضباط عندما تفوق الفريق الإيطالي في أول دقائق الشوط الثاني، بإشراك لوكاس فاسكيز على حساب بنزيمة، عادت الأمور إلى نصابها الصحيح، ولأن الحظ لا يخدم إلا المجتهدين كما يقول شيخ المدربين فيرغسون، بعد أقل من خمس دقائق من التغيير الذي أعاد الاتزان لوسط الريال، جاءت لقطة منعرج المباراة، عندما طُرد ديبالا، هنا تّحولت قولاً وفعلاً لواحدة من سهرات الريال السهلة في الليغا، وما زاد الطين بلة، الحالة المأساوية التي كان عليها نجوم اليوفي الكبار في مقدمتهم جورجيو كيليني، الذي ارتكب كوارث دفاعية جنبًا إلى جنب مع بارزالي. أضف إلى ذلك غياب اللاعب المايسترو القادر على مجاراة توني كروس ولوكا مودريتش في الاحتفاظ بالكرة.
وجود خضيرة و رودريغو بيتانكور، لم يكن كافيًا لمواجهة سحرة لديهم قدرات خاصة على الاحتفاظ بالكرة كمودريتش وكروس، وأمامهم إيسكو في أفضل حالاته، ويُمكن القول أن غياب بيانيتش أثر بشكل سلبي على وسط يوفنتوس، كونه الوحيد الذي يستطيع الوقوف على الكرة في وسط الملعب، لكن حظ اليوفي العاثر أن وسط الريال لم يكن فقط في يومه، بل أيضًا الداهية مارسيلو، تقمص من جديد ثوب ميسي بأسلوبه «العشوائي»، الذي صّدر به كل أنواع الذكر الكروي لدي تشيلو وكوستا ومن قبلهم بارزالي وكيليني السيئين، أمام لاعب لا يرحم كرونالدو بالكاد تنبعث فيه روح شاب في بداية العشرينات كلما استمع لنشيد دوري أبطال أوروبا.
الفارق الوحيد هذه المرة، أنه تّوج مجهوده الجبار منذ بداية العام الحالي بهدف لا يتكرر كل يوم، بضربة مقصية مزدوجة بارتفاع أكثر من مترين عن الأرض، وبُمنتهى القوة والدقة على يسار بوفون الذي اكتفى كبقية الجماهير بمشاهدة الكرة وهي تُعانق شباكه، ليرفع صاروخ رصيد أهدافه لـ23 هدفًا في 12 مباراة هذا العام، بجانب أرقامه القياسية التي تحتاج مُجلدات للحديث عنها بعد كل سهرة أوروبية. وكأن عودته جاءت في التوقيت المناسب لتُساهم في انتشال الفريق من براثن الضياع قبل فوات الآوان، وجزء كبير من هذا يُحسب للمدرب، الذي تظهر كفاءته في المناسبات الكبرى، يكفي أنه أصبح يُمثل عقدة للأندية الإيطالية بانتصاره على روما، نابولي ويوفنتوس ست مرات في ست مواجهات، والآن أصبحت جُل الأندية تُمني النفس بتجنب الريال في القرعة، للطريقة المُخيفة التي يلعب بها في هذه البطولة بالذات، فهل بعد باريس ويوفنتوس سنكون على موعد مع ضحية جديدة؟ أم هناك من يملك فك شفرة زيدان والريال في الأبطال؟ دعونا ننتظر.
عادل منصور
تحليل رائع وقراءة دقيقة للمعطيات التكتيكية والتقنية للمباراة التي جمعت فريق السيدة العجوز والفريق الملكي مع تقييم موضوعي لأداء اللاعبين. قلما نصادف محللا أو معلقا رياضيا عربيا بهذا المستوى الرائع والمتميز. مع كامل الشكر والتحية.