تمتلك محافظة إدلب، الواقعة شمالي سوريا، مئات المواقع الأثرية التاريخية، التي يعود عدد كبير منها إلى ما قبل الميلاد، فيما ترمز الأبنية والمواقع الأثرية المتواجدة على توالي الحقب القديمة، وأبرزها «الرومانية، والبيزنطية، والصليبية، والفارسية» ومن ثم الحضارة العربية.
مدينة البارة الأثرية في محافظة إدلب شمالي البلاد، تعتبر من أهم هذه الكنوز التاريخية التي تمتلكها سوريا، والتي تعود أبنيتها إلى عصور قديمة جداً، وكانت المدينة تُعرف في العصر الروماني باسم «كاروبيرا» أما اسمها بالسريانية، فهو «كفرأوبرتا».
وتقع البارة، على السفح الغربي لجبل الأربعين في ريف إدلب، على بعد 34 كيلو متراً من مدينة إدلب، وتتموضع وسط هضبة كلسية، الأمر الذي أكسبها موقعا سياحياً بالغ الأهمية، وفي الوقت الراهن تسعى العديد من الجهات المحلية المعنية بشؤون الآثار، من خلال تواصلها مع الأمم المتحدة لإدراج أثار المدينة ضمن قائمة أهم المواقع الأثرية الإنسانية في العالم.
يبلغ تعداد سكان المدينة الأثرية حوالي 20 ألف نسمة، جلهم مغتربون، أما داخليا في حلب والعاصمة دمشق، أو خارجيا في لبنان والسعودية والإمارات. وتشتهر المدينة بزراعة الزيتون والعنب والكرز، كما تحتوي على العديد من المعاصر الأثرية التي تستخدم في استخراج زيت الزيتون، وأخرى كانت مخصصة لاستخراج الخمور من العنب، في العصر البيزنطي.
أما مساحتها الجغرافية، فتبلغ ستة كيلومترات مربعة، ضمت بين حناياها، أحد أكبر مجموعة من الخرائب الأثرية التي تعود إلى العهود الرومانية والبيزنطية والعربية، كما عثر خبراء الآثار خلال السنوات الماضية، على نقش يعود إلى الإله باخوس، المعروف بـ «إله الخمر».
تاريخ حافل
يرجع تاريخ المدينة، إلى القرن الأول قبل الميلاد، وفق ما قاله مدير مركز آثار إدلب أيمن النابو لـ «القدس العربي»، ثم توالت عليها العديد من الحضارات، كان آخرها الحضارة الإسلامية، وتظهر أهمية البارة تاريخياً، كونها أحد أهم المراكز الدينية قبل الميلاد، ولاحقاً بعد الميلاد، إذ كانت تتواجد فيها ست كنائس، مبنية على الطراز البازاليكي، إضافة إلى آثار ثلاث كنائس مهدمة، كما توجد أرض واسعة يسميها السكان الدير، وتقع شرق البارة.
كما تحتوي المدينة، على عدد كبير من الأضرحة والمدافن المميزة والتي تدل على الهندسة المعمارية التي كانت في تلك المراحل، ومن أبرز هذه المدافن، المدفن الهرمي، بالإضافة إلى عدد آخر من الأديرة كدير سوباط الذي ما يزال قائماً، كما تحتوي المدينة على بقايا من الحضارات الإسلامية القديمة، حيث يتواجد حتى الآن بقايا لمسجد أثري وحمام.
ومن المزايا الأخرى التي تتمتع بها المدينة، تواجد عدد كبير من الشقق السكنية الأثرية المبنية على شكل طابقين، وتضم أيضاً قلعة، تعرف باسم قلعة «أبو سفيان» وتعد من أقدم القلاع في سوريا وتدل على أن العرب سبقوا الصليبيين في تشييد القلاع وتقع في الجهة الشمالية الشرقية من المدينة ويطلق عليها أهل البارة اليوم اسم البرج.
بعض الباحثين يعتقدون أن هذه القلعة بنيت في العهد الأموي بهدف التحكم في الطريق الواصل بين انطاكية وأفاميا وشيزر، كما لعبت دوراً كبيراً في حماية مدينة البارة وهي تتألف من سور مزدوج عليه مجموعة من الأبراج لا تزال ثلاثة منها ماثلة حتى الآن ومن أهمها برج يصل ارتفاعه إلى نحو 15 متراً.
هجمات وحروب
كانت البارة، إبان العهد البيزنطي، تتبع إداريا الى أفاميا مع ان علاقاتها مع مدينة انطاكية كانت تعود عليها بفوائد اقتصادية وعسكرية أكبر، وفي عام 614 تعرضت البارة وغيرها من المدن السورية لغارات الفرس، وظل الفرس يهددونها حتى تاريخ انسحابهم من سوريا عام 628 وفي عام 637 حرر العرب المسلمون سوريا من الحكم البيزنطي وبقي أهل البارة من المسيحيين في مدينتهم.
والموقع الجغرافي الهام الذي تتمتع به المدينة، جعلها تعيش ازدهاراً اقتصادياً كبيرا في ظل البيزنطيين ومن ثم بعدهم الصليبين الذين طمعوا في السيطرة على المدينة الأثرية ذات المزايا الدينية الكبيرة، فقد احتلت من قبل الصليبيين في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي 1098 ثم هـــزموا وطـــردوا بعد 25 سنة، ثم تمــكــن العـــرب من إبعــاد الأخطار عن البارة بشكل نهائي، ومنذ عام 1148 بقيت تنعم بالحكم العربي.
وبسبب هذه الحروب المتواصلة ونتائجها، ضعف اقتصاد البارة، وبدأ السكان يغادرونها، كما أصابها زلزال عنيف عام 1157 هدم المدينة، فهجرها سكانها، لتصبح ميتة، حيث أطلق عليها فيما بعد اسم «المدينة المنسية».
سياحة وإهمال
قبل اندلاع الثورة السورية، كانت المدينة تعج، وفق ما قاله أيمن النابو، بمئات الزوار من مختلف الجنسيات العالمية، حيث كانت صرحاً أثرياً بالغ الجمال تزينه الأشجار الخضراء والنباتات، إلا إن الخدمات التي كانت تقدمها حكومة النظام المعنية بشؤون الآثار في البلاد، كانت ضعيفة للغاية، وتقتصر في أعلى درجاتها على حماية المدينة.
كما غابت عنها، الدراسات العلمية والبحثية بشكل كبير، والتي من شأنها النهوض بالمستوى السياحي والتعريفي بمعلم حضاري، كان في عصره ذهبياً.
وانعدمت الزيارات السياحية بشكل كامل، مع دخول الثورة في سوريا العمل المسلح، الأمر الذي عزز غياب أي حماية وحراسة عن المواقع الأثرية المتنوعة في مدينة البارة، وهذا بدوره مهد الطريق أمام أعمال التخريب والتنقيب، وحتى تحويل بعض المواقع التاريخية إلى ثكنات عسكرية للفصائل العسكرية. وفق ما قاله ناشطون محليون.
مدافن
المدافن الأثرية في مدينة البارة، تتميز بكبر حجمها وهندستها الخاصة، حيث تتألف من قاعدة مربعة الشكل مبنية من الأحجار الكلسية المنحوتة، يبلغ طول بعضها متر واحد وبعرض نصف المتر وبسماكة مشابهة للقياسات السابقة وفي جزئها العلوي يوجد الهرم، كما تزين الجدران الخارجية لأكبر مدفن موجود في البارة ثلاثة مستويات من النتوءات الزخرفية والأصناف التي تزين أجزاءه بما فيها الباب وزخارفه على شكل نبات اللبلاب.
بعد اندلاع الثورة في سوريا، تعرضت المدينة لأشكال عديدة من الانتهاكات، أبرزها قصف جوي متنوع مصدره النظام، الذي هاجم المدينة بالصواريخ التي تحملها الطائرات والبراميل المتفجرة التي تلقيها مروحياته الحربية.
فلل راقية
تحتوي البارة على العديد من المنازل الراقية جداً، والتي عرفت باسم «الفلل» وكانت هذه الشقق الفاخرة مخصصة للأغنياء من أبناء المدينة. وأهم هذه الفلل، وفق ما أرخه باحثون غربيون عام 2009 هو «دير سوباط» والذي يقع على بعد 400 متر جنوب غرب البارة، وهو فيلا تعود إلى القرن السادس الميلادي، ويتألف الدير من طابقين: الأرضي ويتضمن أروقة تطل على باحة واسعة مربعة الشكل، فيها غرف كثيرة، وقاعتين واسعتين وغرف طعام مجاورة للمطبخ، وكانت الغرفة الشرقية للقدّاس.
تدمير المدينة
هجمات النظام العسكرية أدت إلى تدمير أجزاء كبيرة من المدينة ولحق الخراب بمعالمها التاريخية، كما أدت الغارات إلى طمس أعداد كبيرة من المعالم التاريخية فيها.
أما فيما يخص التخريب المحلي، فقال مدير مركز آثار إدلب أيمن النابو: «لم تنج المدينة من أيدي العامة، حيث تعرضت لأعمال تنقيب عشوائية عن الآثار، وكان أخطرها الحفر أسفل المباني العمرانية الأثرية، وصولاً إلى الأضرحة والمدافن الموجودة فيها، مما أدى إلى تشويه معالمها العامة».
جدران تنزف
تخريب من نوع آخر لحق بمدينة البارة، ويتمحور بتعرض الجدران الداخلية والخارجية فيها لإطلاق نار من قبل العناصر المسلحة المنتشرة في الشمال السوري، مما أدى إلى تشويه معالمها، وهناك عدد كبير من المدنيين يقومون بحملة تكسير لحجارة المباني التاريخية، بهدف استخدامها في أعمال محلية كبناء منازل لهم، وهذه الأفعال أدت إلى تضرر الجدران الكبيرة أيضاً.
ومن المخاطر التي تحيق بالمدينة، تمدد المباني السكنية نحو قلب البارة، وتجريف معالم أخرى، وخاصة الأطلال منها.
وحصلت «القدس العربي» على مجموعة من الصور الحديثة لآثار البارة، حيث أظهرت الصور تعرض العديد من المواقع الأثرية لأعمال تجريف وتخريب من قبل المجتمع المحلي، وسط غياب الدور الرقابي المؤثر للمعارضة السورية للحد من أعمال التخريب، التي تهدد بفناء مواقع أثرية بأكملها، واختفاء المعالم المواقع المستهدفة بشكل كامل.
فيما يقوم مركز آثار إدلب التابع للمعارضة السورية، وفق ما قاله مدير المركز، بإعداد مجموعة من القوانين لتجريم الانتهاكات الحاصلة بحق المدينة من قبل المجتمع المحلي، لمنع طمس معالمها، والحفاظ على المواقع الأثرية التي لا تزال قائمة فيها.
غياب الوعي
وقال النابو لـ»القدس العربي»: ما زال المجتمع المحلي في البارة، لا يعي بعد أهمية الإرث التاريخي الذي يتعرض للعديد من الانتهاكات، خاصة تلك التي تتعرض لها الكنائس والجدران المحيطة بالمدينة الأثرية، حيث يستغل العامة من المجتمع العقارات الشخصية التي يمتلكونها في البارة، لتنفيذ أعمال التحطيم والتجريف وغيرهما من الآن.
ونوه إلى إن النظام قام سابقاً بتمليك هذه المنطقة الأثرية، وبقيت الملكية شخصية لصالح الأفراد، لا الدولة، وبالتالي سهل هذا الأمر من الأعمال العشوائية التخريبية التي تتعرض لها هذه المدينة المنسية.
تنقيب وتهريب
مصادر محلية في الشمال السوري، أفادت في تصريحات لـ «القدس العربي»: أن جهات مجهولة بواجهات محلية، تقوم بين فينة وأخرى بأعمال تنقيب ضمن المناطق الأثرية المتواجدة في محافظة إدلب، حيث تقوم تلك المجموعات بالحفر أسفل المواقع الأثرية، بحثاً عن القطع الذهبية أو اللوحات التاريخية الفريدة، ومن ثم تقوم ببيعها في الأسواق السوداء.
وكانت آخر أعمال التنقيب الملحوظة في إدلب، هو ما قام به أحد التجار المحليين في بلدة قمنياس في ريف المحافظة، مطلع شهر نيسان/أبريل الجاري، حيث قام التاجر بواسطة آليات حفر ثقيلة، بجرف التربة المحيطة بـ «تل دينيت» في البلدة، بهدف البحث عن التحف الأثرية والسبائك الذهبية.
ونوهت المصادر، إلى إن الأهالي، احتجوا على أعمال التجريف والتنقيب التي يقوم بها التاجر، إلا إن الأخـيـــر، واصـــل مــشــروعه، بعد شـــرائه الأرض التي تحيط بتل دينيت، وأحاطها بأسوار ترابية.
حسام محمد