نشرت الصحافية الامريكية امي دوكسرماركوس كتابا في عام 2007 عنوانه ‘القدس 1913: بدايات الصراع العربي الاسرائيلي’، توضح فيه ان عام 1913 شكل مفترقا اساسيا في التخطيط الصهيوني، حيث تحول اهتمام الصهاينة في هذا العام، خاصة بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الحادي عشر في شهر أيلول (سبتمبر)، من التركيز على مدن الساحل خاصة يافا كمقر اساسي لنشاطهم، الى التركيز على مدينة القدس كقاعدة اساسية لبلورة المخطط الصهيوني عبر احياء الثقافة العبرية واليهودية، كما يوضح هذا الكتاب وجود اتجاهين في الفكر الصهيوني منذ ذلك الحين، أحدهما يريد الاستمرار بالادعاء ان المشروع الصهيوني لا يهدف الى انشاء دولة صهيونية على حساب العرب، بينما كان تيار آخر يدعو علنا عبر نشراته الى برنامج واضح يهدف الى تأسيس وطن مستقل لليهود في فلسطين. ويشير الكتاب الى أن التركيز الأساسي على يافا في أول القرن الماضي كان واضحا عبر تأسيس آرثر روبين، احد القادة الصهاينة، الالماني الأصل، ‘البالستاين أوفيس’ إرثر في شارع بسترس في يافا في عام 1908، حيث اختار روبين مدينة يافا لتكون مقرا لمكتبه بسبب قربها من المستوطنات الصهيونية الأولى ولسهولة الوصول من يافا الى أماكن أخرى مثل بيروت، في حال اقتضى الأمر مقابلة احد الاقطاعيين ملاّكي الأراضي الذين كانوا على استعداد لبيع أراضيهم في فلسطين لليهود، حيث كانت المهمة الأساسية لهذا المكتب شراء الاراضي في فلسطين وبناء المستوطنات. كما كانت الظروف في يافا مؤاتية لتنظيم لقاءات بين الصهاينة، كونها مليئة بالمقاهي التي كان يلتقي فيها كثير من الكتاب اليهود المختصين بكتابة روايات عن المهاجرين اليهود الجدد، وكانت الجريدتان العبريتان ‘هابوعيل’ و’هاحروت’ توزعان وتناقشان في تلك المقاهي. كما كان المهاجرون الأوائل يتجهون الى مكتب روبين في يافا لدى وصولهم للحصول على تعليمات حول امكانيات استيعابهم في المستعمرات، وللحصول على قروض ومساعدات. وبما أن آرثر روبين لم يكن يعرف اللغة العربية، كان مصرا على اهمية اللغة في التواصل بين العرب والصهاينة، ولذلك كان مكتبه يضم أكثرية من الموظفين اليهود العثمانيين الذين يتحدثون اللغة العربية، والذين كانوا يقومون بكل المفاوضات وصولاً إلى تحقيق صفقات لشراء الأراضي من الاقطاعيين العرب. وكان روبين اول من رأى ضرورة التركيز على شراء قطع أراض مرتبطة بعضها ببعض، لتُشكل يوما ما حدود الدولة العبرية، وتصبح عملية الدفاع عنها أسهل. وهو الذي أسس فكرة الـ’كفوتسا’ التي عرفت في ما بعد بـ ‘الكيبوتز’. وبينما كان روبين ممثل الحركة الصهيونية في فلسطين كان جاكوبسون المسؤول الصهيوني الأول في الاستانة. واتفق الاثنان على عدم الافصاح علنا عن المخطط الصهيوني الفعلي. فعندما اقترح دافيد وولفسون الذي كان يترأس المؤتمر الصهيوني آنذاك عقد المؤتمر الصهيوني الحادي عشر في اسطنبول، رفض جاكوبسون هذا الاقتراح تخوفا من ردود فعل السلطان في حال تمت مناقشة مسألة تأسيس الدولة اليهودية في فلسطين في قلب الدولة العثمانية، ممّا دفع بوولفسون الى التراجع والموافقة على اختيار فيينا في النمسا (بلد هرتسل الأصلي) لعقد المؤتمر المبرمج عقده في شهر سبتمبر. وعندما نشر مسؤول صهيوني هولندي يدعى جاكوبوس كان كتابا بعنوان ‘ايريتز اسرائيل الوطن اليهودي’، الذي ترجم الى اللغتين الالمانية والفرنسية في عام 1910، فقد أثار هذا الكتاب الذي وزع في البلاد العثمانية تخوفات الصهاينة الموجودين في الامبراطورية العثمانية، حيث وضّح أهداف المشروع الصهيوني الحقيقية في إنشاء وطن مستقل لليهود. كما دعا هذا الكتاب الى انشاء جيش يهودي لتحقيق أهداف الصهيونية، مما أثار تخوف جاكوبسون من رد فعل الدولة العثمانية التي ستعتبر ذلك متناقضا مع وحدة تراب الدولة العثمانية. إن رواج هذا الكتاب بالإضافة إلى كتاب مناحيم أوسيشكين الروسي بعنوان ‘برنامجنا’ كانا يهددان خطة جاكوبسون وروبين المسؤولين المحليين للحركة الصهيونية، بالتعاون مع مجموعة من الصحافيين والمثقفين الصهاينة الذين كانوا يريدون إخفاء الطبيعة الحقيقية للمشروع الصهيوني، وتصويره على انه يهدف الى الاندماج مع العرب والعمل من اجل المصلحة المشتركة بينهم. كانت الامبراطورية العثمانية قد بدأت بمواجهة مشاكل في البلقان في عام 1913، حيث ان صربيا وبلغاريا واليونان كانت قد شكلت معا عصبة البلقان، بهدف مطالبة العثمانيين استرداد بعض الاراضي الاوروبية التي كانت في حوزتهم منذ الحروب السابقة، بينما عبر الملك نيكولاس (ملك مونتجرو الجبل الأسود) منذ تشرين الاول (اكتوبر) 1912 معارضته للهيمنة العثمانية، وأعلن الحرب على السلطان، مما أدى بعد ذلك الى مطالبة كل المقاطعات الاوروبية الأخرى بتقرير المصير، وهذا يعني بداية نهاية الامبراطورية العثمانية. ولذلك شعر روبين ان الحركة الصهيونية اصبحت في خطر في عام 1913، وأنه يجب التصرّف بسرعة لتثبيت المكتسبات الصهيونية قبل اندلاع أي صراع علني بين العرب واليهود. وفي كانون الثاني (يناير) عام 1913 صاغ آرثر روبين، وأعوانه في ‘البالستاين اوفيس’ مذكرة رسمت الخطة الاستراتيجية المستقبلية للحركة الصهيونية، وضرورة تطوير علاقتها مع العرب الفلسطينيين، حيث اعتبر روبين في مذكرته أن فقدان الامبراطورية لأراضيها الاوروبية سيُعطي مجالاً أوسع للعرب في الامبراطورية لفرض آرائهم، مما قد يعني الضغط ضد تثبيت الأهداف الصهيونية، خاصة أن الفترة السابقة كانت قد شهدت زيادة في الاستحواذ على الاراضى العربية، في حين أن الاستمرار في مخططهم لإنشاء دولة يهودية كان يتطلب الحصول على مزيد من الأراضي. لقد جاء في المذكرة: ‘إذا زاد الوعي القومي العربي فهذا يعني اننا سنواجه مقاومة لن نتمكن من مواجهتها بالأموال، لأنه إذا اتحد العرب في اعتبار أن بيع الأراضي لليهود هو عار وخيانة وطنية فسيكون الوضع صعبا جدا علينا’، ولذلك استنتج التقرير ان على الصهاينة محاولة استباق ذلك والحصول على اكبر قدر ممكن من الاراضي وادخال اكبر عدد من المهاجرين قبل أن يزداد الوضع تعقيدا. وقد رأى روبين ان الحركة العربية كانت تزداد نموا مثلما كانت الحركة الصهيونية تنمو. ورغم أن العرب لم يبدوا انهم منظمون إلا ان الصهاينة تخوفوا من التغيير الذي قد يطرأ على ذلك. وحسب روبين ‘لذلك يجب أن يكون واضحا لنا أننا نمر بفترة حرجة لأن العدو قد يصبح أقوى في ما بعد’. ولذلك اعتبر روبين ان عام 1913 يُشكل مفترقا استراتيجيا في التفكير الصهيوني حول طبيعة العلاقة بين العرب والحركة الصهيونية. وفي نفس هذا العام كتب سامي (شموئيل) هوخبرغ وهو صهيوني يهودي عربي تقريرا لجاكوبسون حول الحركة القومية العربية الناشئة، وقد وزع هذا التقرير على القيادات الصهيونية، وكان التقرير قد وثق نشأة الحركة العربية وعبّر عن الضرورة الحيوية للصهاينة لفهم معنى هذه الحركة، والتوصل إلى أسلوب للتعامل معها ومخاطبتها، حيث أن هذه الحركة الناشئة بدأت حسب رأيه تتحول من كونها فقط ‘فكرة وتصورا لتصبح فعلا يواجه إمكانية التطبيق’، خاصة بسبب ضعف الامبراطورية العثمانية بعد حروب البلقان، مما دفع العرب للعمل السريع لإنقاذ المحافظات العربية من النيران المدمرة التي كانت تنشب في كل مكان في الإمبراطورية. وقد بلّغ هوخبرغ في تقريره عن ضرورة قيام الصهاينة بمحاولة الاتصال بالحركة العربية التي هي حركة اكثر جدية مما تتصورها الاستانة، خاصة أن هذه الحركة ستنتقل ‘من النظرية إلى الممارسة’ و’من الحلم إلى الفعل’ خلال مؤتمر باريس الذي كان من المقرر أن يعقد في شهر حزيران (يونيو) 1913 في باريس. وقد أقنع سامي هوخبرغ المسؤولين الصهاينة على ارساله كعضو مراقب إلى المؤتمر العربي الأول في باريس، في محاولة لترسيخ فكرة المساواة والاخوة بين اليهود والعرب في اطار الامبراطورية العثمانية. ورغم بعض المحاولات الصهيونية بالادعاء ان مشروعهم لن يهدد التعايش السلمي بينهم وبين العرب الفلسطينيين، الا أنه بدأت في عام 1913 بوادر اشتعال النزاعات بين الفلسطينيين والمستوطنين، ابتداء بحادث دموي بين اهل قرية ‘زرنوقة’ ومستوطنة ‘رحوفوت’ في شهر تموز (يوليو) 1913، حيث كانت ميليشيات ‘هاشومير’ اليهودية التي أُسست في عام 1908 في أوج قوتها، حيث كانت تقوم بحماية كل المستوطنات الصهيونية بما في ذلك مستوطنة ‘رحوفوت ‘. ورغم المشاكل العديدة في فلسطين انعقد المؤتمر الصهيوني الحادي عشر في فيينا (كان قد انعقد عشر مرات قبل ذلك بدءا بمؤتمر بازل عام 1897) في سبتمبر. واعتبر هذا المؤتمر آخر واكبر مؤتمر صهيوني قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقد ابدى هذا المؤتمر اهتماما غير مألوف بمدينة القدس ودورها المحوري في المخطط الصهيوني، بعد أن كانت كل من يافا وحيفا تنالان أكبر قدر من الاهتمام من قبل الصهاينة، فقد تقرر في هذا المؤتمر ضرورة الاهتمام بالقدس كقاعدة محورية لإحياء الثقافة اليهودية. ومن أهم المشاريع لتطبيق ذلك كان اقتراح حاييم وايزمان حول ضرورة البدء بعملية تأسيس ‘الجامعة العبرية’ في القدس، التي كانت مشروعا مطروحا من قبل، ولكن وايزمان اعتبر ان الوقت أصبح مواتيا في رأيه للبدء الفعلي ببنائها. وعندما طرح هذا الموضوع على المؤتمرين نال إعجاب واهتمام كل الحاضرين. وقد اقترح أيضا خلال هذا المؤتمر فتح فرع آخر لمكتب روبين في القدس، كما اقترح إنشاء متحف يهودي في القدس. وبعد هذا المؤتمر (الحادي عشر) بدأ جميع الصهاينة بالحديث عن ‘عقيدة القدس الجديدة’. وفي روسيا وصف مناحيم اوسيشكين القدس ‘كقلب الأمة والعالم’، ودعا إلى إنشاء قدس جديدة قوية محاطة بدائرة من المستوطنات اليهودية. وبعد ستة اشهر من المؤتمر حصلت الحركة الصهيونية على تبرعات هائلة من قبل يهود الشتات، وقد كتب روبين في مذكراته ‘اليوم تمكنت من شراء أملاك السير جون غراي هيل الجميلة والرائعة الموجودة في جبل سكوبوس (جبل المُكبّر) مما سيُشكل أول قطعة أرض لوضع الحجر الاساسي للجامعة العبرية في القدس’. وهكذا يمكن اعتبار عام 1913 عاما محوريا لتطور الحركة القومية العربية الناشئة من جهة، ولتبلور الفكرة الصهيونية من جهة أخرى، و كل ذلك في إطار الامبراطورية العثمانية التي كانت على وشك الانهيار. ولكن بينما سار المخطط الصهيوني على أساس ‘برنامج’ كما كان واردا في كتاب اوسيشكين، برنامج يرتكز على بناء المستوطنات اليهودية كقاعدة أساسية لبلورة القوة الصهيونية على الأرض، مع إنشاء جيش لحمايتها، بالتوازي مع العمل على إعادة بناء القدس كمركز محوري لإحياء الثقافة العبرية، مع استغلال فترة انهيار الامبراطورية العثمانية، كل التناقضات المحلية والدولية التي كانت تتسارع في حدّتها قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى من أجل الإسراع بتنفيذ مخططاتها، تشتت جهود الحركة الوطنية العربية الناشئة، بعد انعقاد المؤتمر العربي الأول في يونيو في باريس بسبب خلافاتها مع الامبراطورية العثمانية المنهارة التي قمعت، وحكمت بالإعدام على معظم رموز هذه الحركة من جهة، وبسبب نشوب الحرب العالمية الأولى في ما بعد مع كل توابعها من تفتيت في الجهود العربية والانقسام في المواقف بين مؤيد ومعاد للقوى المتحاربة، مما ادى الى غياب الاهتمام بقضية فلسطين والمخططات الصهيونية خلال فترة الحرب العالمية. وهكذا جاءت الحرب العالمية الأولى وما تلاها من نتائج واتفاقيات لتكشف المخططات الصهيونية وتضعها على السطح عبر التحالفات الجديدة بين البريطانيين والحركة الصهيونية التي توجت بتصريح بلفور في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1917. وهكذا بقيت مدينة القدس حزينة ومنسية وأهلها العرب الفلسطينيون مهددون بوجودهم يعانون من الاستيطان الصهيوني المستمر والتهويد المتزايد، الذي يهدد كل ملامحها التاريخية والدينية، بينما تستمر الحركة الصهيونية بتحقيق مخططاتها المرسومة منذ أكثر من قرن، بعد أن نجحت بتنفيذ كل مخططاتها التوسعية والتعسفية الاخرى في يافا وحيفا والجليل وفي كل مدن فلسطين التاريخية.