نجح الفلسطينيون في إعادة قضيتهم إلى واجهة الاهتمام، بمسيرات العودة الكبرى التي خرجت في قطاع غزة، بمشاركة عشرات الآلاف من اللاجئين المطالبين بالعودة إلى منازلهم التي تم تهجيرهم منها عام 1948، ويتحقق هذا النجاح رغم أن المسيرات لم تخرج في أي مكان آخر من أماكن تجمع اللاجئين، بما في ذلك دول الطوق التي لا تزال تستضيف ملايين اللاجئين الفلسطينيين على أراضيها.
ليس مهماً كم عدد الفلسطينيين الذين شاركوا في المسيرات، وليس مهماً أن الملايين لم يتمكنوا من الخروج في الضفة الغربية والأردن وسوريا ولبنان؛ حيث يعرف الجميع الظروف المحيطة بكل مكان، والتي حالت في النهاية دون خروج اللاجئين في هذه الدول، لكن المحصلة أن عدداً هائلاً من الفلسطينيين خرج في قطاع غزة، وأن عددا كبيرا منهم حاول بالفعل اجتياز السياج والحدود والعبور نحو بلدته الأصلية، على قاعدة أن العودة ليست سوى امتثال للقرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة، الذي تعرقل إسرائيل تنفيذه بالقوة.
مسيرات العودة التي شهدها قطاع غزة، والتي شاهدناها طوال الأسبوعين الماضيين استطاعت في أيامها الأولى أن تحقق جملة إنجازات مهمة، وهي الإنجازات التي أشعلت حالة من القلق لدى الاسرائيليين، وهذا القلق هو الذي دفع تل أبيب للاستنجاد ببعض العواصم العربية الحليفة من أجل الضغط على الفلسطينيين، وتحديداً على حركة حماس من أجل أن تردع اللاجئين في غزة عن الزحف والاعتصام والاستمرار بهذه الفعالية التي هي الأولى من نوعها منذ سبعة عقود. أما الإنجازات التي تحققت حتى الآن فيمكن أن تتلخص في ما يلي:
أولاً: أعادت مسيرات العودة قضية فلسطين برمتها إلى واجهة الاهتمام العربي والعالمي بعد حالة الغياب والانشغال السابقة التي شكلت الفترة الأسوأ بالنسبة للقضية الفلسطينية، وأعادت حالة التلاحم العربي مع فلسطين، هذا فضلاً عن إعادة التأكيد على قضية اللاجئين وحق عودتهم كواحدة من العناصر الأساسية المكونة للقضية الفلسطينية، وكملف لا يمكن إلا أن يكون أساسياً في أي مبادرة للحل في فلسطين.
ثانياً: تأتي هذه المسيرات في توقيت بالغ الحساسية؛ فهي الرد العملي المسموع في كل العالم على القرار الأمريكي بخفض الدعم عن وكالة «الأونروا» من أجل الضغط على اللاجئين وتجويعهم، كما أنها تأتي بعد القرار الأمريكي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، كما أن هذه المسيرات – وهذا الأهم- تأتي في الوقت الذي تنشغل فيه واشنطن وتل وأبيب وعواصم عربية في طبخ «صفقة القرن»، وهي الصفقة التي يبدو أن التسريب الوحيد المؤكد فيها هو أنها ستتجاهل القدس واللاجئين، ما يعني أن مسيرة العودة تشكل صرخة احتجاج بالغة الوضوح ضد أي صفقة لا تتضمن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم أو التوصل إلى تسوية مرضية وعادلة لقضيتهم.
ثالثاً: نجحت مسيرات العودة الكبرى في تجاوز الفصائل الفلسطينية بشكل كامل ولأول مرة، إذ هذه المسيرة تكاد تكون أول مسيرة تشهدها غزة منذ عام 2007 ولا يتم فيها رفع أعلام حركة حماس، كما أن رايات الفصائل كافة غابت عن هذه المسيرات تماماً، وهو ما أثبت بوضوح قدرة الفلسطينيين على تجاوز الفصائل وخلافاتها وانقساماتها، وقدرتهم على توحيد الصف في القضايا التي لا خلاف عليها، وهو ما أعطى تفاؤلاً حقيقياً بأن إنهاء الانقسام ممكن وتحقيق المصالحة ليس بعيداً وأن الخلاف الحقيقي في المستوى السياسي، أما على المستوى الشعبي فهو محدود.
رابعاً: ثمة جيل جديد من اللاجئين الفلسطينيين ظهر في مسيرات العودة، فالشباب المولود مطلع الألفية الجديدة تصدروا المشهد، وكانوا في مقدمة المشاركين في المسيرة، وهو ما يُبطل تماماً مقولة أن الأجيال القادمة ستنسى، وأن قصة اللجوء ستنتهي تدريجياً وتتلاشى، لا بل الأجيال الجديدة أكثر توقاً للعودة إلى منازل أجدادها من الأجداد أنفسهم الذين تركوها.
هذه الانجازات التي حققتها مسيرات العودة هي التي دفعت وزيراً إسرائيلياً للتغريد على «تويتر» بالعربية، وهي التي دفعت الناطق باسم جيش الاحتلال إلى مخاطبة الفلسطينيين أكثر من مرة، وهي التي دفعت الاحتلال إلى استخدام الرصاص الحي وبسرعة لمواجهة المحتجين.. كل هذا يعكس حالة القلق الإسرائيلي غير المسبوقة من هذه المسيرات، ويدفع إلى الاعتقاد بأن استمرارها لأسابيع مقبلة سوف يكون حدثاً ذا شأن كبير.
طبعاً يُضاف إلى كل ما سبق أن الفلسطينيين أمام انتصار جديد على مستوى الرأي العام العالمي وفي وسائل الإعلام الكبرى، خاصة إذا نجحوا في الحفاظ على سلمية هذه المسيرات حتى النهاية.
كاتب فلسطيني
محمد عايش