واقع العرب من النظام الدولي القديم إلى النظام الجديد

لقد صارت أوضاع العرب في ظل النظام الدولي الجديد ومع نشأة العولمة، باعتبارها آلية استغلال الرأسمالية الجديدة، أكثر تضرّرا فانتقلوا من حالة التبعية في فترة الحرب الباردة، إلى حالة الاحتواء التام في فترة ما بعد سقوط جدار برلين.
وإذا ما كانت علاقة الدول في فترة القرن العشرين على هذه الشاكلة: دول مستعمِرة وأخرى مستعمَرة، دول تعيش تحت هيمنة الأولى عسكريا واقتصاديا وسياسيا، فإنّ عصر ما بعد التحرّر الوطني أفرز علاقات أخرى غابت فيها السيطرة العسكرية المباشرة، مقابل سيطرة ثقافية واقتصادية، فأوقعت دولا في تبعية دولٍ، وصارت دول في موقع المركز وأخرى في موقع المحيط، وظلّت الدول العربية وغيرها من دول العالم الثالث في تبعية للدول الاستعمارية تتحرّك في محيطها، سياسة واقتصادا وثقافة ومعرفة. ولم يكن ممكنا في ظل انعدام التوازن بين الدول القوية والأخرى الضعيفة إقامة علاقات تكامل وحوار في ما بينها، لأنّ الحوار الثقافي والسياسي لا يتمّ إلّا في ظلّ التوازن والتعادل والتكافل، وبدون ذلك تكون العلاقات علاقات تبعية تسمح للأقوياء باستغلال الضعفاء.
وتواصلت العلاقات الدولية على هذه الشّاكلة منذ الحربين الكونيتين والحرب الباردة، وصولا إلى حروب التحالف في الثلاثة عقود الأخيرة، إلّا أنّه رغم هذه الأوضاع والهيمنة المطلقة لدول على أخرى، فقد أشاعت بعض الأطراف العالمية القوية، زمن الحرب الباردة، ما يُسمّى حوار الشمال والجنوب لإيهام الدول التّابعة بقدرتها على اللحاق بالدّول المتقدّمة، وبأنّها أطراف مؤثّرة في السّاحة الدولية، رغم إقرار كلّ الدراسات والبحوث بأنّ القوّة التي تفصل مختلف الأطراف سحيقة معرفيا ومادّيا، فكأنّ الإيهام بتحسّن الأوضاع ابقاء عليها ومحافظة على هيكلها، بدون تفكير في تغييرها، أو حتّى زحزحتها، وقد استفاد العديد من دول الجنوب في ظلّ هذا الحوار بمساعدات مادّية وثقافية لتنميتها ومساعدتها على تكوين كياناتها، إلّا أنّنا نرى الأوضاع تتردّد وتتراجع منذ انبثاق النظام العالمي الجديد، وظهور أيديولوجية العولمة التي قضت على مساعدات التنمية، التي كانت تُعطى للدول النامية، فجُمِّد بذلك حوار الشمال والجنوب ودخلت الدول النامية، مع نموّ ظاهرة العولمة مسلك المديونية الخارجية، واتضحت الهوّة الاقتصادية والمادية أكثر، واتّسعت الفروق بين الأمم والدّول اتّساعا لا مثيل له، رغم ما بشّرت به مقولات العولمة من أنّ العالم أصبح قرية صغيرة كونية متشابهة ينمو ويتلاحق بجميع أجزائه، خاصّة بعد الدور الذي لعبته الإنترنت ومختلف أشكال ثورة الاتّصالات والرقميات. ولكن هذه القرية تغوّلت وتحوّلت إلى غابة موحشة، الإنسان فيها ذئب لأخيه الإنسان، ولا يحيا داخلها غير الكبار، أمّا الصغار فلقمة سائغة وموضوعا للاستثمار والاستغلال. واقع أضحى فيه صندوق النقد الدولي شاملا للعالم بأسره إلى جانب مجموعة البنك الدولي وتعاظم دور منظمة التجارة العالمية، وجميعها تتكفّل بالتّضييق على الاقتصادات الوطنية بإغراقها في الديون تحت مظلة الإقراض على المدى القريب والبعيد، وصولا إلى إحكام السيطرة على اقتصاد الدول، ومصادرة قرارها السياسي والاقتصادي لحساب الشركات والبنوك متعدّدة الجنسيات وعابرة القوميات، التي يحول إليها الأمر في النهاية، فتسيطر على التفاعلات الاقتصادية والتدفقات المالية العالمية، وتُخضع الجميع لأجنداتها التي تخفي بدورها مآرب سياسية للقوى الكبرى المهيمنة.
وقد بات واضحا ضمن فضاء العولمة الشاملة بجميع أشكالها وصيغها الاقتصادية والسياسية والإعلامية، سعي السياسة الأمريكية والغربية إلى تفتيت الدول العربية والإسلامية، وجعلها قوميات عرقية متناحرة ومتصارعة في ما بينها، وهدفها من ذلك أن تقضي على التكتلات الكبرى القادرة على مواجهة خطر العولمة. وهي سياسة واضحة الملامح في المنطقة عبّرت عنها محاولات التّجزئة بتفتيت العالم العربي وتقسيمه إلى دويلات وكنتونات صغيرة وشرذمته بين سنة وشيعة، عرب وأكراد وبرابرة، ومسلمين وأقباط. إضافة إلى إثارة النعرات الطائفية والمذهبية حتى تبقى إسرائيل الدولة المتماسكة والقوية، يدعم موقعها عالم عربي إسلامي ضعيف، فيسهل عليها التعامل مع كيانات وطوائف بدل أمة، ولعلّ الرهان على مشروع التفتيت الطائفي مع انهيار المشروع القومي العربي وصعود الأصوليات أثبت دليلا على كلّ ذلك.
من غير الممكن أن نلغي إمكان الانفتاح على أسئلة العصر الكبرى بعيدا عن الارتباك الذي وسم الكثير من الكتابات الفكرية والسياسية عن الغرب والمسيحية، تلك التي لم تُدرك أن أوروبا الحديثة هي غير النصرانية التي عرفها العرب المسلمون في فترة من فترات تاريخها، ولعلّ ذلك نتيجة التحولات السياسية والحضارية والتوسع الاستعماري الغربي، الذي مسّ بنية الفكر العربي الاسلامي وجعله مرتبكا يكتفي بالفرجة أمام التفوق التقني والعلمي في أحيان كثيرة، وشهدنا مزيدا من اغتراب الإنسان العربي المعاصر وعدم قدرته على التحكّم في التحولات، وعجزه عن مسايرة المستجدات الحياتية والفكرية المتسارعة، ولكن مع ذلك يبقى الفكر العربي قابلا لإعادة تمثُّل مفاهيم الحداثة والعولمة، واستيعاب النقاشات الواسعة والانفتاح على النقد الجذري اقتداء بجهد الأسلاف تاريخيا ووثائقيا.
كاتب تونسي 

واقع العرب من النظام الدولي القديم إلى النظام الجديد

لطفي العبيدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية