«كيميائي» ما قبل المونديال: الضربة وسياقها

حجم الخط
0

شهران فاصلان عن نهائيات كأس العالم لكرة القدم التي تستقبل روسيا الاتحادية بطولتها العتيدة هذا العام. كما في اولمبياد سوتشي للألعاب الشتوية لعام 2014، تنظر موسكو لهذا الاستحقاق الرياضي الكوكبي على انه مناسبة ثمينة لتثبيت «رجعة روسيا» كقوة امبراطورية عظمى خلفت وراءها مرحلة التشوّش والضياع التالية لانهيار الاتحاد السوفييتي.
«اولمبياد سوتشي» تبعته مباشرة انتفاضة شعبية في كييف شباط2014، أسرعت بالإطاحة بحكم الرئيس فيكتور يانكوفيتش الذي اعتمد حزبه، «حزب الأقاليم» على تأييد الشطر الشرقي من اوكرانيا، المائل صوب روسيا ثقافة وسياسة، بما استتبعه ذلك من انفصال شبه جزيرة القرم عن اوكرانيا وضمها من قبل الاتحاد الروسي، ثم رعاية موسكو للانفصاليين في حرب الدونباس المتقطعة والمتواصلة. التوتر تصاعد مباشرة بعد الجهد الذي صرفته موسكو لإظهار وجهها الامبراطوري من خلال الالعاب الشتوية. فبعد ضم روسيا القرم كانت سلسلة العقوبات الغربية عليها، وتبعها توسع المشاركة الروسية أكثر فأكثر في الحرب السورية.
أما «مونديال موسكو» فالتوتر متصاعد ومتسارع في الأشهر القليلة السابقة عليه. وقد بلغت نوبته الأخيرة نقطة تحاكي اللحظات الأكثر احتداماً في أيام «الحرب الباردة» بين «الجبارين». وهنا لا بد من تدقيقين.
أولهما، ان المونديال ليس لـ«موسكو» وحدها، كون المباريات ستتوزع على «استادات» مدن بعيدة عن بعضها البعض، بما يعطي صورة عن «روسيا القارة»، من المباريات في كالينينغراد غير المتصلة برّا ببقية روسيا والتي تجاورها بلدان تنتمي كلها إلى الاتحاد الأوروبي، إلى كازان عاصمة تتارستان، إلى يكاترينبورغ شرق الأورال.
أما التدقيق الثاني فيتصل بالمفارقة: تسعى روسيا، بما اوتي لها، إلى انجاح مونديالها، وتقليل «مجال رؤية» آثار العقوبات الغربية وانهيار أسعار النفط على اقتصادها، لكنها تتصرف كما لو ان «المونديال» في مجرة، والموجة الحالية من التوتر مع المجموعة الغربية في مجرة ثانية.
«الكيميائي» هو العنوان الكبير لأزمة العلاقة بين روسيا والمجموعة الغربية «عشية المونديال». بدأت هذه الأزمة بخبر اغتيال سيرغي سكريبال في 4 اذار/مارس الفائت، في ساليزبوري بانكلترا، العميل السابق للاستخبارات الروسية الذي جندته الاستخبارات البريطانية، وقد صادقت وكالة حظر الأسلحة الكيميائية في 12 من الشهر الجاري على ان سيرغي وابنته يوليا تعرضا لـ«عوامل نوفيتشوك» وهو من أعلى الغازات سمّية ومن «ابداعات» المخابرات السوفييتية في السبعينيات. قبل ان تصادق الوكالة على التشخيص البريطاني لطبيعة السم، وبالتالي «جنسية الصنع»، كانت اخر جيوب المسلحين المناهضين للنظام والآهلة بالمدنيين في الغوطة تتعرض لهجوم بغاز الكلورين. ليس بسعة الهجوم على خان العسل عام 2013 او خان شيخون في العام الماضي، لكنه هجوم أظهر توفر الأدلة عليه، بالنسبة للمعارضة السورية والمجموعة الغربية، الدليل على تحول «الكلورين» الى مادة سائبة ومستخدمة منذ أشهر في عدد من المعارك التي تخوضها الجيش السوري بمعية الطيران الروسي. الكلورين اقل تسميما من السارين، وأسهل تصنيعا، ولا يحرم بذاته كمادة، بل لاستخدامه العسكري، كما ان آثاره تزول ببطء أقل من آثار غاز السارين.
حدث عندها التلاقي بين البريطانيين والأميركيين على اعتبار استخدام موسكو للنوفيتشوك في قلب انكلترا، و«غضها الطرف» عن الكلورين، تحت ناظريها في سوريا، بمثابة تجاوز لقواعد اللعبة في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة. من هذه الزاوية، يكون الدافع إلى تسديد ضربة في سوريا فيها كم من التوتر حيال موسكو، التحذير من الدخول فعلا في مناخ حرب باردة منهجية جديدة، أكثر منه المضي فعلا في واحدة جديدة. في نفس الوقت، جاءت تغريدة «الصواريخ الأنيقة والذكية» لدونالد ترامب ردا، في واحدة من المفارقات، على تصريح لسفير روسيا في بيروت وليس أي مسؤول أعلى منه في الحكومة أو الخارجية الروسيتين، لتعيد إلى الأذهان لحظات «الرجفة» في أيام الحرب الباردة، حين كان يدب الهلع من ان حربا نووية سوف تقع (علما انها ليست المرة الاولى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي يحدث فيها ذلك، فبوريس يلتسن حصل له نهاية التسعينيات، رغم كل ما يمثله الرجل في التاريخ الروسي من تبعية فظة للمجموعة الغربية، ان هدد واشنطن بالصواريخ النووية، خلال زيارة له الى بكين عام 1999، وردا على انتقاد من بيل كلينتون للحرب الروسية في الشيشان).
بدوره، سارع الرئيس الفرنسي فرنسوا ماكرون، لملاقاة هذه الاندفاعة المزدوجة الأمريكية البريطانية. رغم ان زيارة ماكرون مرتقبة في موسكو في 24 من أيار/مايو المقبل، والحال ان فرنسا جمعت حاليا بين مشاركتها في الضربة، حيث توجهت طائراتها لقصف مركزي تخزين وإنتاج غازات سامة في منطقة حمص، وبين توليها التنسيق مع الروس لتفادي اصابة الوجود العسكري الروسي في سوريا بأي أذى.
تلاقت الدول الثلاثة على هدف، منع النظام من استخدام «الكيميائي» مجددا، وعدم السماح بجعل استخدام الكيميائي امراً عادياً. بالتالي، لا ضربة جديدة الا في حال كرر النظام الفعلة. جرى تفادي اي شظية تصيب مقرا روسيا، لكنه جرى تفادي اي استهداف للإيرانيين أو «حزب الله» في سوريا، بخلاف الغارة الإسرائيلية الأخيرة، التي جمعت بين استهداف النظام والإيرانيين.
ليسَ هناك بالمطلق شيء يدعى عمل عسكري «رفع عتب»، فكيف اذا كانت ضربة تسمّر لها الكوكب ككل. يكون العمل محدودا او واسعا، مفهوما او مبهما، نتائجه منه وفيه أو مؤجلة الظهور، يكون لحظة منفصلة أو موجة في إثر موجات، يفشل أو ينجح، لكنه لا يكون «عسكريا» و«وهميا» في الوقت نفسه.
أزمة «كيميائي ما قبل المونديال» تعززها هذه الضربة. لكن حتى الآن، ثمة جمرة القاها الثلاثي الغربي بين يدي فلاديمير بوتين، وينتظران شكل اعادتها لهم. الذي انتشر من تحليلات وتوقعات في إثر الضربة ان موسكو ستقود حملة تصعيد واسعة على الفصائل المسلحة المناهضة للنظام في سوريا، أكثر شراسة من ذي قبل. لكنه توقع قاصر عن رؤية الاستهداف لصورة روسيا. ليس صحيحا ان الضربة كشفت عدم قدرة روسيا على كف يد المتدخلين، فنظام اس400 المضاد للصواريخ الباليستية غير متوفر في سوريا، والطيران الإسرائيلي يقوم بغارات نصف شهرية تقريبا من دون أي حساسية روسية. ما الذي اظهرته الضربة إذا؟ في المقام الأول، ان الوجود العسكري الروسي له حدود. حدود تجعله نخبويا للغاية قياسا على التدخل العسكري السوفييتي في افغانستان مثلا، أو حتى المواكبة السوفييتية لمصر بعد حرب حزيران. هناك قاعدة بحرية، وأخرى جوية، وشرطة عسكرية روسية ووحدات استخبارية. هذا كاف لترجيح كفة جيش النظام في معاركه. غير كاف لفرض اجندة الحل السياسي كما تراه روسيا، وكما يظهر في المسودة الروسية للدستور السوري. برّياً، الوجود الروسي محدود، قياسا بالإيرانيين وأنصارهم، وهذا ما يحد من قدرة روسيا على فرض دفترها في سوريا، في الوقت نفسه الذي تحاسب فيه على ما يفعله حلفاؤها، بل تدافع عنهم هي بشكل لا يتناسب مع عرقلتهم لمساعيها تثمير النجاح الحربي سلماً.
وعمليا، لم يعد مطلوبا من بشار الأسد، بعد هذه الضربة، سوى «نسيان الكيمياء». لم يعد الغرب يطلب منه أي تسهيل لحل سياسي انتقالي. وليس هناك مؤشر إلى ان هناك مسعى لتجريم الأسد، يقارن في أقل تقدير بمذكرة توقيف عمر حسن البشير بعد دارفور.
في هذا يتلاقى الأمريكيون مع الإيرانيين: نسف أي سبيل إلى حل سياسي في سوريا. الروس كانوا يريدونه بالحرب، وبمسودة دستور، لعلها أفضل من معظم أدبيات الربيع العربي. الأسد واإايرانيون عطلوا مرادهم أكثر من سواهم، نظرا لمحدودية الوجود العسكري الروسي أو «نخبويته» قياسا على جيش النظام، وحرس الثورة، وتوابعهما.
في مونديال 2018 تشارك إيران والسعودية. اما المباراة الاولى، في 14 حزيران، فبين الدولة المضيفة وبين السعودية. الوقت المستقطع الذي يفصلنا عنها قد لا يشهد ضربة غربية جديدة في سوريا، وسيشهد الجواب الروسي عليها. أزمة كيميائي ما قبل المونديال متواصلة. السؤال الروسي الاساسي فيها عن ميدانها الاساسي، سوريا أم اوكرانيا. ليس هناك قلق في موسكو لجهة الغاء المونديال، وهم يعملون لأجله بجهد محموم، ويصعب تخيل مقاطعة غربية له على غرار مقاطعة اولمبياد موسكو 1980. لا يزال هذا يفرقنا عن زمن الحرب الباردة، وان كان العالم اليوم، الذي تعود عدم الحاجة إلى مفهوم «التعايش السلمي» هو عالم أقل سوية، اقله في الخطاب، عالم بمرجعية «دونالد ترامبية».

«كيميائي» ما قبل المونديال: الضربة وسياقها

وسام سعادة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية