إلى فترة قريبة كنت أعتقد أن الأدب الأسود هو الأدب الذي كتبه السود الأمريكيون، وأن هذا اللقب أطلق على المنتج الأدبي الذي كتبه أفارقة أمريكيون، وفيه من العنصرية ما يفوق مصطلحات كثيرة تُعتمد في القاموس الأدبي، وهي في أبعادها صفات مقيتة نابعة من مشاعر الكراهية والتفرقة الجنسية والتعالي على الآخر.
ومع أنني لست بالقارئة الجيدة للأدب الإفريقي الأمريكي، إلاّ أنني قرأت لبعض من تألقوا ونالوا جوائز بحكم شهرتهم وترجمتهم للغة العربية، مثل توني موريسون، ولكنني اكتشفت في خلال محادثة جمعتني برفيق سفر إلى فيينا، أن هذا المصطلح يُطلق أيضا على نوع آخر من الأدب، نعرفه ولا نعرف تصنيفه، وفي مقارنة سريعة في رأسي شعرت بأن المصطلح أيضا ابن بيئته، وقد تكون محمولاته «علمية» وقد تكون غير ذلك.
الأدب الأسود الذي تحتفي به منطقة النورماندي في عيد الفصح، أدب بوليسي يقوم على سرد قصص تفك ألغاز الجريمة، وهو نوع محبوب لدى فئة كبيرة من القراء. حتى نحن في العالم العربي دخل إلينا هذا الأدب مترجما في فترة مضت، ونال الكثير من الاهتمام منّا خلال فترة عمرية معينة، تنحصر بين عمر المراهقة والشباب.
في فترة صباي حين قرأت هذا النوع من الأدب بشراهة، لم أكن أعرف مصدره، وقد عرفت في ما بعد أن الناشرين اللبنانيين كانوا يجتهدون لتجديد ما يقدمونه للقارئ، وأن إتقانهم للغات هو الذي جعلهم يجلبون نصوصا مختلفة من أقاصي الدنيا ويوزعونها في العالم العربي، وكانت قصص النورماندي البوليسية أسهل من أي نصوص أخرى بالنسبة لهم، لأن عددا لا بأس به منهم يحب فرنسا ونتاجها الأدبي المتنوع، وكون تلك المنطقة القريبة من باريس والمحصورة بينها وبين البحر منطقة لها ما يميزها من طقوس الحياة، كما أن لها تاريخا يميزها وغنى ثقافيا معتبرا، وطبيعة ريفية تزينها المرافئ بسحر خلاب، وكلها معطيات ممتازة لعشاق الكتابة.
من لا يعرف «أرسين لوبان» اللص الظريف على سبيل المثال؟
الشخصية التي غطّت بظلالها مؤلفها موريس لوبلان – الذي توفي في أربعينيات القرن الماضي – وحاربت الظلم وطاردت المجرمين وأرهقت رجال الشرطة حتى بدا أغلبهم أغبياء.. شخصية رافقت طفولتنا وظلّت في الذاكرة بدون حتى أن نتذكر اسم الكاتب، فقط نتذكر هوس القراءة الذي أصبنا به منذ قراءة أول كتاب، واستمرار تلك المتعة مع أغلب كتبه التي وصلتنا.
كل ما عرفته هو أن أرض النورماندي أرض الروايات المختلفة، أدب الجريمة، والألغاز، والمشاعر المتطرفة حدّ القتل، والقارئ الذي لا يكتفي بالمتعة خلال القراءة بل بالاكتشاف والانصهار في الأحداث، لدرجة يصبح فيها شخصية إضافية تعيش تفاصيل الرواية، والأمر هنا شبيه بممارسة رياضة فكرية أقرب للعبة الشطرنج، والألعاب المشابهة التي تنشط اليقظة وترفع مستوى الذكاء. ليس غريبا أن تنجب منطقة مثل هذه، هذا النوع بالذات من الأدب، إذ يقول الفرنسيون إن غوستاف فلوبير قام بقتل بطلته «إيما» هناك، كون جغرافيا المكان ألهمته ذلك، وسواء كانت التهمة مناسبة لذلك الحدث الضارب في الماضي الأدبي للمنطقة أو لا، فإن شياطين هذا الأدب سكنت بين البيوت الجميلة فيها، ووجدت في هدوئها ما ينمي الملكة الإبداعية لكتاب المنطقة. وإذ يقال إن فيروس الأدب معدٍ في الحقيقة، وينتشر بسرعة في الأماكن التي تحضنه، فإن ذلك يرجع لطبيعة البشر المائلة للتقليد والغيرة وحب الظهور، والإبداع عموما، بما فيه الأدب، الذي لا ينمو إلا في أوساط متشبعة بهذه المشاعر والميولات، لهذا نجد مدنا بأكملها تتميز عن غيرها بفنون معينة، وهي إذ تعج بالجيد والجميل فإنها أيضا تعج بالرديء والسيئ، ولنا في بعض مدننا أمثلة جيدة لذلك، القاهرة على سبيل المثال في صناعة السينما وكتابة السيناريو وإنتاج الدراما بأنواعها.
تبادرت إلى ذهني قصة أكبر إنزال أمريكي على سواحل النورماندي، وما تركه من آثار مفجعة على تلك الأرض، ثم تبادر إلى ذهني ما قرأته من موضوعات مقتضبة حول تاريخ المنطقة، خلال فترات متباعدة، وأدركت أن للأدب الأسود بذورا قديمة في المنطقة، وليس بعيدا أن تنجب المنطقة العربية ما يشبه، وإن كان أدبنا سوداويا منذ النكسة الأولى، وقد ازداد قتامة بعد نكسة 67، ثم ها هو اليوم بعد المحنة العراقية والسورية واليمنية والليبية، يدخل جهنّم من أبوابها الواسعة، ولا أدري أي مصطلح سيليق بأدبنا وهو متفوق في وصف البؤس واليتم، والقتل العشوائي والتفنن في سرد ألوان التعذيب وطرقه التي لم نقرأ عنها إلا في كتب صفراء حدثتنا عن عذاب القبر وأهوال الآخرة.
بعد ربع قرن من القتال المتواصل بين الأخوة، وهو قتال لم يتوقف منذ العصور الغابرة – حسب مرويات التاريخ – إلاّ حين واجهنا الاستعمارات الأجنبية التي اعتدت على أراضينا، لا نزال نعيش مواجهة مؤلمة مع نتاجنا الأدبي ودوره، هل سيبقى وليد تلك البذور التي لا تعطي سوى الأعشاب الضارة بشكل أبدي؟ أم أن أملا ما قد يخرج الحي من الميت ويجعل من آدابنا مادة لصنع التغيير الداخلي فينا، وإفراغ شحن العنف في الأدب لتنتهي إلى أشكال فنية وجمالية وبالتالي نولد بنفسيات لا تنحو نحو العنف بقدر ما تنحو نحو إنتاج الجمال؟
في الواقع وقبل أن نعطي إجابة نهائية لكل هذه الأسئلة، نحن ننقل وقائع ولا نبحث في أسباب العنف والجريمة والتمادي في تصفية الآخر. لم نكتب ربما لنفسِّر مفاصل الحدث الإجرامي، رغم ما فيه من إثارة سواء من جهة الكاتب أو القارئ، لم نذهب في تجاربنا الأدبية نحو خلق أنواع سردية جديدة، ربما لأن الواقع بكل سوداويته تفوَّق عمّا يمكن أن تنجبه المخيلة، ربّما قضى على المخيلة تماما حين تحوّل إلى لعنة تتعقَّب الأجيال العربية مع سبق الإصرار والترصُّد وتسعى إلى تدميرها. وهذا في حدِّ ذاته تنبوء سيء لمستقبل مليء بالغيوم، لكن علينا أن نعترف بأن الأدب لا يغير لا الإنسان ولا المجتمعات، كما قال الكاتب المغربي الطاهر بن جلون، لكن غيابه يجعل من الإنسان كائنا غير قابل للرفقة، بمعنى ما أن الأدب يخفف من «وحشنة» الإنسان، ومن وجهة نظري أن الأدب قد يكون أحد أهم العوامل التي تحث الإنسان على التفكير، والتأمل في أموره وحياته وعلاقاته وإعادة بنائها متى ما شعر بأنّها بدأت تنهار وأنه فقد السيطرة عليها.
قد تكون مجرّد وجهة نظر، ففي الغالب ما تبوح به أقلامنا لا تبوح به الشفاه إلا بصعوبة، وهذا ما يزخر به أدبنا الأسود المدوَّن بأقلام ضالة كفيفة لا تشرق عليها الشمس إلا في مناسبات فصلية نادرة، عكس أقلام النورماندي وأفارقة أمريكا.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
ما نحتاجه من الأدب وصناعه أن نسخر هذا الإبداع بطريقة موضوعية فعالة لمعالجة الذات العربية قبل كل شي وإعادة تأهيل الإنسان لا سيما في المناطق التي شهدت نزاعات وصراعات وحروب الأمر الذي يلقي بظلاله بكل تأكيد على الإنسان وسلوكه بفعل التغيرات السايكولوجية التي تراهم العامل النفسي للشخصية وأعتقد بأن الأدب والفن عموما يمكنهما فعل الكثير حينما يتوجه صناعهما توجهاموضوعيا صحيحا دون تأثير او محاولة ادلجة او تسخير من قبل جهة معينة . فاوطاننا وللاسيما الملتهبة والتي لازالت تعاني تداعيات هذا اللهب أحسب أن انسانها بحاجة إلى تأهيل نفسي واجتماعي قبل تأهيل البنى التحية التي أصابها الخراب بفعل الحروب وإن كانت مهمة جدا كمستلزمات للحياة لأنني على سبيل المثال كلما زرت بلدي الحبيب العراق الذي يعد نموذجا تتجلى فيه آثار الخراب النفسي والعمراني والاجتماعي أشعر بأنه بحاجة إلى جهود شتى من شأنها إعادة تأهيل الإنسان هناك وبالتأكيد يأتي الأدب والفن ضمن. باقة المفردات التي يمكن توظيفها في عملية إعادة التأهيل وذلك ينطبق على مجتمعات عربية ملتهبة مثل سوريا واليمن وليبيا وغيرها
أثارمقالك لهذا الأسبوع فيّ البحث عن دوافع إنشاء الأدب الفنيّ.وبتبسيط أقول إنّ في العلم تكون الحصة للعقل غالبًا ؛ وفي الفنّ تكون الحصة للذوق غالبًا ؛ وفي الأدب تكون الحصة للعاطفة دائمًا.وأمام الضرورة التي تفرزها حالات الانفعال والتفاعل والنزوع النفسيّ لكشف عناصرالحياة بأحاسيس الحزن والفرح والألم والطموح ؛ كان لابدّ من ظهورالأدب إلى جانب الفنّ.وهما من أهمّ مظاهرمكنونات الحياة الإنسانية السامية ؛ نظرًا لما يثيره الأدب خاصة والفنّ عامة من نزعات موجبة وسلبية في الإنسان عمومًا.من هنا ينشأ البحث عن معالم وملامح الفكرة الأساسية للكتابة.وهذه الفكرة تقوم على أربعة عوامل متفاعلة : # اختيارالفكرة # بناء الخطاب المبدع # التفاعل مع الوسط # الارتباط بالأصالة من خلال الارتكازعلى أسس وقواعد مشتركة مع الآخرين ؛ كالأعراف الثقافية والاجتماعية والذوقية ؛ إلى جانب الشخصية الثقافية للكاتب…لما لذلك من علاقة بمكزمنات عملية الإبداع القائمة على الحريّة ( النسبية ) للنشأة الأولى.وتبقى أكبرتحديّات ولادة الأدب الفنيّ سواء منه الأسود أو الأبيض أو الرماديّ ؛ الوسط الذي سينتشرفيه من خلال القراءة المتفاعلة بكلّ وسائل الاتصال والإعلام الاجتماعيّ والرقمّي والورقيّ والمرئيّ وحتى الشفهيّ ؛ وبما يرسم مسارومنحنيات وتضاريس النصّ في الواقع ؛ ومن هنا يأتي التقييم والتقويم للنقاد والجمهور.دون نسيان نصيب النصّ من الحظّ كما يرى بعض المتشائمين.وأما المتفائلون فيرون أنّ الحظّ الحقيقيّ يكون بالعمل الجيــّـد ؛ ولو كان ذلك من الأدب الأسود ؛ ســواء أفي ( النورماندي ) أم في الوطن العربــيّ ؟
الادب الاسود العربي هو أكثر ادب غزارة لان واقعنا اسود فالعرب انتجوا اكبر كمية في العالم من ادب السجون لأن ظاهرة السجون السياسية انتجب عشرات بل مئات الأعمال عن وحشية الانظمة العربية وسجونها وخاصة في المغرب في سجن تزمامارت وتونس في سجن الرومي والعراق في سجن ابو غريب وليبيا في سجن ابو سليم، وسوريا في سجن تدمر وصيدنايا وعدرا والمزة وسواها من سجون في كل مدينة واقبية مخابرات
من كتاب نقد و اصلاح لعميد الادب العربي طه حسين;
الإنـســان أصــبـح لا يــرى فـي الـدنــيـا إلا شــــراً ، ولا يـــرى الخـــير وألـنـِعــم فـي هـــذا الـعـالــم الحــديــث إلا وهـمــاً، بعــد أن أُتــيح للـعـقـــل مــا أُتــيـح لــه مـن الــرُقــي، وتــم للـعـِـلم مـا تـــم لــه مــن الـتـقـدم، وبعـد ان اســتكـبر العـقــل وطـغـى، وأســــرف فـي الكـبـرياء والطـُـغـيان، وغــرهُ مـا وِفـِـق الـيــه مـن إســتكـشافات، وبعـد ان تـسـلـط غـُــرور العـقــل هـــذا عـلى حــياة الـنـاس ، فـأشــاع فيهــا ضــروبـاً مـن فـســاد الخـُـلــق وســــؤ الـتـقديـر للـقيـــم المـوروثـــة التـي كانــت الحــياة تعـتمــد عليهـا وتـأتــلف منهـا، اثنــاء القــرن الـسـابـــق.
كـُـل ذلك أدى إلى إثــارة الحــروب فأنـتـصــر المـُـتـصــر وأطـغــاه إنـتـصــاره ،، وأنـهـزم المـُـنهــزم وأحفظـــه إنـهـــزامـــه، فـأضـمــر الـشـــر واســتـعــد للـثــأر، وأخـتــلف المـنـتــصــرون فـي إقــتــســام الـغـنــائــم فـأمـتــلأت الــدنــيا فــسـاداً وإضـطـرابـاً.
ومـا دام الأدب صـــورة لحـياة الـنـاس، فـقــد صــور الأدب الأوروبـي بـين الحــربـيـن آثــار هــذا كلــه، ثــم صــور مـا مــلأ الـنـفــوس مـن روع وهـلـــع، حــين تــتــابـعـت نــُـذر الحــرب الـثـانــيــة، فـنـشــأ الأدب المـُـظـلــِـم الـذي ســمـاه الأوروبـيون في ذلـك الـوقــت الأدب الأســــــود، نــشــأ في أوروبــا الـوسـطـى كمـا نـشــأ في أمـريكـا، ولـم يـلـبـث أن شـــاع فـي فــرنـســـا، كمـا تــشـــيع الـنـار في الـحـطـــب.
ونـشــأت فـلـسـفــة مــتـشــائمــة إلـى جـــانـب هــذا الأدب الـمـتـشــائــم تـقــوم عـلى إعـتــداد الإنــســان بـنـفــســـه، وبـنـفـســه وحــدهـا، وعـلى إهـــدار الـقــيـم الـقــديمــة وإســـتـحــداث قــيم جــديـدة لا تـكـاد تـحـفـــل بالـفـضـيـلــة والخـــير ولا بالحـق والجمـال، كمـا عــرفهــا الـنـاس مـن قــبــل. ولــم تـلبــث هــذه الفـلســـفـــة ان تـجاوزت مكاتــب الـفـلاســفــة والمـُـفـكــريـن إلـى رؤوس الـشــباب فـأحــدثــت شــــــراً كــثـيراً، احــدثــت إســتـهــتــار بالنـقـائـص عـلى إخــتــلافـهـا، وإنـتـهازاً للـفــرص، وإخـتــلاســاً للـذات كلمـا أتــيـح إخــتــلاسـهـا، وإزدراءً للأوضــاع الإجـتماعـيــة المـألــوفــة وإســتــخـفافـاً بالـسـُـنــن المـوروثــة، كمـا أحــدثــت زُهــداً فـي الحــياة وســُـخـطـاً عليهــا ونـفـوراً منـهـا وتـهـالكاً عـلى الإنـتـحـار.
ثــم جــاءت الحــرب الـثـانـيــة فـأضــافــت شــــراً إلـى شــــــر، ونـكــراً إلى نـُـكـر، وثـبــتـت في نـفــوس الـنـاس مـا كـان يـضــطــرب فيهـا إضـطـرابـاً، وأقـــرت فـي عـقـولهــم وقــلـوبهـم مـا كـان يـخـطـــر لـهــا ولا يكـاد يـتــأصــل فـيهــا.
وعـُـظـِــم خـطـــر الأدب المـُـظـلــم هـــذا، كـمــا عـُـظــم خــطـــر الـفـلـســفـــة الـمـتــشــائـمـــة تــلــك ….
التعليقات على مقالات الدكتورة بروين نوعية..هذا ما جعل من مقالها واحة خضراء.تعليق الأخت نهى يحمل أريج الغربة البعيدة عبرالأطلسي
وتعليق الدكتور جمال روح جديدة للمقال وتعليق الاخ سوري كزهرة الاقحوان وتعليق الاخ احمد كنحلة تجمع العسل اللذيذ.التعليق في جريدة
القدس ، فن راقي يختلف عما في الصحف الاخرى.بالمناسبة تعليق الدكتور جمال على رحيل حميد المطبعي في الصفحة الثقافية ، وفاء ما بعده وفاء.شكرا للجميع على متعة القراءة اليومية.