الفن التشكيلي السوري راهنا: بين التطور الإبداعي والتأطير السياسي

حجم الخط
0

الفن التشكيلي السوري راهنا: بين التطور الإبداعي والتأطير السياسي

أنور بدرالفن التشكيلي السوري راهنا: بين التطور الإبداعي والتأطير السياسيدمشق ـ القدس العربي قبيل الاحتفال بنهاية العام المنصرم، كنا مدعوين من قبل وزارة الثقافة لمتابعة المعرض السنوي للفن التشكيلي في سورية، ثم إلي حفل تكريم الفنان فاتح المدرس الذي غيبه الموت قبل سنوات سبع، والفنان نذير نبعة الذي ما يزال يواصل عطاءه الفني بجدية يحسد عليها، إذ مُنحا بمرسوم جمهوري وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة. لا اعتقد أنها مجرد مصادفة أن تتجه وزارة الثقافة إلي الفن التشكيلي باعتباره من أنشط حقول الإبداع الثقافي كماً ونوعاً، إذ ساهمت كلية الفنون الجميلة ومعهد الفنون التطبيقية والمراكز التشكيلية المنتشرة في أكثر من محافظة سورية بتخريج أعداد متزايدة من محترفي الفن والفنانين، كما أن فردية العملية الإبداعية في حقل التشكيل، قياساً علي الفنون البصرية الأخري، جعلت منه الفن الأيسر إنتاجاً وتداولاً، إضافة لانتشار المعارض والمحترفات التشكيلية وملتقيات النحت التي ساهمت كلها في تنشيط الحراك التشكيلي، حتي أنني تابعت في أسبوع واحد افتتاح أربع معارض تشكيلية.كل ذلك عزز من مكانة التشكيل رسم، تصوير، نحت، حفر، خط، تصوير ضوئي ، ضمن لوحة المشهد الثقافي السوري، إلا أن من تابع تظاهرات نهاية العام خرج بمشاعر متناقضة، دفعتنا باتجاه تقصيّها. فالمعرض السنوي الذي ابتدأ بإشراف وزارة التربية، ثم مديرية الفنون الجميلة في وزارة الثقافة بالتعاون مع نقابة الفنون الجميلة، كاحتفالية سنوية ترعاها الدولة من حيث التنظيم والاقتناء، تساهم في تطوير التجارب الفنية وتشجع التفاعل بينها، بحيث يقدم الفنانون أفضل ما عندهم، أخذ يتراجع في مستواه وفي وظيفته عبر السنوات الأخيرة، إذ أن حسابات البيدر لم تتفق مع حسابات الحقل، ولا يخفي الكثير من المهتمين بالحركة التشكيلية أن السبب يعود لتلك الرعاية ممثلة بمديرية الفنون الجميلة، خاصة وأن هذا المعرض بالأهمية التي يحتلها، لم يستطع أن يحجز لنفسه مكاناً أو تاريخاً ثابتين، فهو ارتحل من بدايات تشرين الأول/أكتوبر، حيث بدأ باسم معرض الخريف، إلي نهايات العام حيث ترسّم باسم المعرض السنوي، كما ارتحل في الأمكنة من صالة الشعب للفنون الجميلة إلي خان أسعد باشا في السنتين الماضيتين، بحكم التوسع الهائل في عدد الفنانين المشاركين وفي عدد الأعمال المشاركة في المعرض.إلا أن الحديث يدور ـ بشكل أساسي ـ حول لجنة اختيار الأعمال المقدمة، حيث جري عبر سنوات استبعاد أسماء هامة من المشاركة، فجاء رد الفعل الموازي عند البعض بالامتناع عن المشاركة في المعرض، والمشكلة أن بعضهم يحيل الأمر لاعتبارات سياسية تكمن خارج حقل الإبداع تحديداً، وهذا بالضرورة أضعف مستوي المشاركات، إلا أن بعضهم لم يحجز حوامل عرض ثابتة في كل المعارض السنوية، بل حجز أيضاً حصة من المقتنيات السنوية للوزارة، وفي هذا المستوي يكون الفنان أميل لإرسال أردأ أعماله طالما أن الوزارة ستبتاع هذا العمل، لا يهم أين يعرض أو في أية زاوية سيركن؟ بينما تتعرض أعمال هامة لفنانين آخرين للإهمال والضياع إذا نجت من الرفض. ومن خلال متابعة المعرض السنوي هذا العام، فإننا نلاحظ تباين مستويات العرض في خان أسعد باشا، حيث أتاحت المساحة المفتوحة في الصالة أو البهو الرئيسي كمية كافية من الإضاءة تسمح بحرية من الرؤية الجيدة، بينما أعمال الغرافيك التي عرضت في مقصورات الطابق الثاني لم تتح لها شروط إضاءة ورؤية جيدة، لكن الأسوأ من كل هذا في حفل الافتتاح حين تقدمت السيدة مها قواص مديرة الفنون الجميلة في الوزارة أربعاً من الوزراء في شرح لوحات المعرض، بتجاهل وجود الفنانين أنفسهم، وتجاهل العمق الإبداعي لأعمالهم لصالح قراءة أيديولوجية قاصرة، دفعت أحد الزملاء النقاد للكتابة تحت عنوان أربع وزراء تقودهم عمياء وإن لم تنشر مادته بصيغتها السابقة. ومع ذلك طالب الفنان التشكيلي جمال عباس بأن تتاح أمام زائر المعرض أو المتعني لحضوره رسمياً كان أم عادياً فرصة تأمل العمل بصمت العين وتوثب الروح، والتعود علي القراءة الصامتة دون عداها من الانشغالات الأخري . أما الناقد عمار حسن فتوقف مع شروحات السيدة قواص لبعض اللوحات قائلاً ففي لوحة نشأت الزعبي (دون كيشوت يصحو من أوهامه) ركزت السيدة مها قواص علي الحصان العربي المتوثب للانطلاق والخروج إلي غد مشرق، بينما الحصان في اللوحة حصان منهك خائر القوي، عاض علي لسانه، ودون كيشوت العاري يجثو علي ركبتيه ويديه كحلزون . وفي لوحة تالية للفنان خالد المز نجد عدة نساء وبعض الفتيات الصغيرات… لكن القوة في هذا العمل تكمن بالتوازي مع الفكرة ببعد أثرها المرضي المترسب في نفسية الفنان واللون الذي يوغل به إلي حدود الألم والرغبة… وليس كما شرحت السيدة قواص بأنها مشهد الولادة العربية؟! . الملاحظة الثابتة في المعرض السنوي تتعلق بالتباين الكبير بين مستوي الأعمال المشاركة، والتي شكل بعضها خرقاً لشروط القبول الموضوعة من قبل المديرية حتي في مستوي المقاسات، ناهيك عن مستوي الدراسة الفنية، وهذا ما يؤكد علي أهمية وجود لجنة تحكيم حيادية، أسوة بكل الفنون البصرية والإبداعية الأخري، علي أن لا يشارك أعضاؤها في المعرض، وأن تتبدل سنوياً، ولا مانع من الاستعانة بنقاد أو فنانين غير سوريين كما يحدث في كل المسابقات والمهرجانات أيضاً.نترك المعرض السنوي إلي احتفالية التكريم التي أقيمت بمعزل عنه، مع أنه كان من الأجدر أن تدرج في إطاره، ولكن مع ذلك أقول انني دخلت قاعة المحاضرات في مكتبة الأسد بدمشق بانطباعات جيدة تعززها معرفتي بمكانة الفنانين المكرمين ـ فاتح المدرس ونذير نبعة ـ في المشهد التشكيلي السوري، لكنني خرجت من القاعة بمشاعر متناقضة، إذ فوجئت باحتفال سياسي بدأه المذيع علاء الدين الأيوبي مقدم الحفل، واستمر في كلمة الوزير محمود السيد الذي أشاد بمكرمة الرئيس في منح وسام الاستحقاق للفنانين رغم اللحظة العصيبة من تاريخ المنطقة التي نمر بها، زوجة الفنان الراحل المدرس السيدة شكران الإمام كانت الوحيدة التي ابتعدت عن التوظيف الأيديولوجي لهذه المناسبة، متمنية أن يكون فاتح المدرس بيننا ليتقلد شخصياً هذا الوسام، فجميل أن نقدر مبدعينا أثناء مسيرة حياتهم ، في إشارة إلي تأخر هذا التكريم الذي اعتبرته أخيراً تكريما للحركة التشكيلية السورية ممثلة برمز من رموزها. بعد ذلك اعتلي المنصة الفنان نذير نبعة فألقي خطاباً سياسياً بدأه: صباح الخير يتعرض الوطن في هذا الزمن الرديء إلي عاصفة عاتية تحاول هدم كل الملامح الحضارية التي تميزت بها هذه الأرض عن سائر الأوطان. تحاول بسمومها تبديد كل الأحلام والأماني الجميلة التي تضيء الدرب أمام إنساننا نحو المستقبل …. وسط كل هذا الجو القلق.. تبارك يد الوطن بشار الأسد، بالأوسمة صدر مبدعيه أبناء النور الذين يقاومون الظلام… اليوم أحمل هذا الوسام بالإنابة عن كل المبدعين التشكيليين في سورية الحبيبة… والذين اعتقد أن بعضهم يستحق هذا التقدير أكثر مني. كما أعاهد باسمهم الوطن ألا يجبرنا الخوف علي أن ننكس راية النور والجمال.. وأن تظل مرفوعة في وجه الظلام. وستظل جذورنا مغروسة بأرض الوطن. في زمن العسر كما في زمن اليسر. في زمن القحط كما في زمن الخير. بعد ذلك قام السيد الوزير بتقليد الوسام إلي السيدة شكران الإمام وإلي الفنان نذير نبعة وسط تصفيق حار من الجمهور وأمام عدسات المصورين. لكنني خرجت وأنا أتساءل أين القيمة التشكيلية والإبداعية في هذه الاحتفالية؟ ولماذا لم يتحدث احد عن الفن التشكيلي أو عن تجارب المكرمين في مشهد التشكيل السوري؟ ولماذا غابت كلمة نقابة الفنون الجميلة التي رئسها الفنان الراحل فاتح المدرس لعشر سنوات خلت؟ ولماذا لم يُطبع أو يوزع بروشور عن المكرمين وعن أعمالهما؟ ولماذا لم يترافق التكريم مع معرض لأعمالهما؟ أم أن الهدف من التكريم اقتصر علي الوظيفة الأيديولوجية فقط، والتي أتقن الفنان نذير نبعة العزف علي ألوانها حتي أن بعضهم خلط بينه وبين المذيع الأيوبي في نبرة الخطاب ودلالاته السياسية؟!0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية