الشاعرة الأردنية زليخة أبو ريشة: رغم كل ما يحدث في الثقافة العربية فنحن لا نملك ترف اليأس

حجم الخط
0

عمان ـ «القدس العربي» ـ نضال القاسم: زليخة أبو ريشة شاعرة وناقدة أردنية، عملت في العديد من المجالات، كالتعليم العالي والإدارة التربوية، ثم التحرير الصحافي، وهي عضو في عدد من المنظَّمات الأردنيّة والعربيّة والعالميّة، منها: رابطة الكتاب الأردنيين، اتحاد الكتاب العرب، المجلس العربي للطفولة والتنمية في القاهرة، النادي العربي البريطاني، وشعراء نهر ديفن. كذلك عملت رئيسة لمركز دراسات المرأة في عمّان، ورئيسة لمؤسسة الورّاقات للدراسات والبحوث، ورئيسة تحرير لمجلة الفنون الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية. أصدرت أبو ريشة ثمانيَ مجموعات شعرية، هي «تراشقُ الخَفاء»، «غَجَر الماء»، «تراتيلُ الكاهنة ووصايا الريش»، «للمزاج العالي»، «كلامٌ مُنَحَّى»، «جَوَى»، و«في ثناء الجميل». ومؤخرا صدرت مجموعتها الشعرية التاسعة «أزرق تشطره نحلة» عن دار دلمون الجديدة في دمشق، التقيناها في هذا الحوار:.

■ هل ترين للكلمة الشاعرة مكانا في عصرنا هذا الذي يتسم بالطابع التقني والمادي؟
□ الفن خلاصةٌ ما لهذا الارتطام الإنساني بالوجود، إنه صدى لهذا الارتطام بالحقائق الماديّة والمعنويّة، بالزمان وحركته، والمكان وموقعه من المعرفة والوجدان. لا يمكن حصر الفن أو الأدب بعالم الروح، لأن المادة هي مظهر الروح، وليس للروح من كينونة إلا بجسدٍ حيٍّ فاعلٍ ومفعولٍ به. وعليه، فيبدو أنَّ هذا العالم المحيط بنا، المتكلّم ضدَّ الإنسانيّ، المتخَم بالحروب، العدوّ للجسد البشريّ والمكان الآهل، الخصم العنيد للآخَر، المستبدّ بأناه باتجاه الاستيلاء والسيطرة، هو الذي يبدو طاردا للشعر، ومع ذلك فلا شيءَ يطردُ الشعرَ كالرفاه الإنسانيّ؛ فطالما هناك ظلم وطغيان واستبداد وبشاعة وطمع وعدوان ومقاومة واختلاف وحب وكره وتنافس، هناك شِعرٌ يقول الألم والشوق والمعاناة والقهر والتوق للخير والجمال والعدل والحب.

■ وماذا عن إصداراتك الشعرية الأخيرة؟
□ جديدايَ «البلبال: أبوابٌ في الوجدِ والكرى» (2016 دار نينوى، دمشق)، و«أزرق تشطره نحلة» (2017 دار دلمون الجديدة، دمشق). وكلاهما نصوص قديمة انتظرَت النشرَ طويلا، حيثُ يشهد الشعرُ مجزرةَ تنكُّرٍ من الناشر، ومن القراء، في انصرافٍ شبه كلّيٍّ إلى البشاعة المتمثلة في التماس الحقيقة في الماضي وكتب التراث ذات الفحوى المشوَّه! بل إنَّ عدد النسخ المطبوعة باتت تتراوح بين 350 و250 نسخة، وهو رقم مخيف يشي بانصرافٍ شبه كامل عن غرضِ الشعر ومعناه في حياتنا. إن إنتاج الشعر شيءٌ وقراءته والإقبالُ عليه شيءٌ آخر. وهذه صورةٌ من صور التدهور الثقافي الذي هو صدى للتدهور السياسيّ والحضاري العربيّ.

■ منذ (تراشق الخفاء 1998) حتى (أزرق تشطره نحلة 2017)، من هم الشعراء الأقرب إليك ؟
□ عمر كتابتي للشعر يتجاوز النصف القرن، أما تاريخ النشر فشيءٌ آخر. فقد تأخَّر النشر بسبب انشغالي بتجربةٍ فاشلة اسمها الزواج، استبدَّت بوقتي وجهدي، وحجبتْني عن المحيط الثقافي آنذاك. وبعدها قضيتُ سنواتٍ وأنا أختبرُ مواقع قدميَّ في النشاط العام، دون أن أتوقف عن كتابة الشعر، معطية الأولوية للقضايا العامة. ولذا جاء النشرُ في كتاب متأخرا، ولم يكن ذلك إلا بعد أن استقلتُ من عملي، فوجدتُ وقتا لنفسي. أما شعراء القرب فهم أصدقاء وقدامى؛ أمجد ناصر كصديق وشاعر متميز، وهناك أدونيس في نصّه الفكريّ، الذي يشكِّلُ مفتاحا لتبيٌّن حقيقة الأزمة جماليا ولغويّا، في مسعاه إلى الكشفِ الصوفي والجسديّ، ومحمود درويش في نصه العالي، وعائشة أرناؤوط وجمانة مصطفى وفخري رطروط ونوال العلي ومها العتوم ويوسف عبد العزيز ومحمد علي شمس الدين ورشا عمران وطاهر رياض ومحمد الأمين السعيدي وقاسم حداد وأحمد الملا ونصيف الناصريّ. الآن أقرأ للأصدقاء فقط لأعطيهم/ن حقَّ الصداقة، والمترجَم من لغات أخرى، وما تجود به المواقع من نصوصٍ مفاجِئة لشعراء جدد لا أبخل عليهم بالتعليقات لتلفت النظر إلى أصواتهم/ن ونصوصهن/م المدهشة.

■ كيف تعملين شعريا على جبهة اللغة وتجديدها؟
□ إحدى مهمات الشعر الوجودية هي إعادةُ خَلقِ اللغة، فالمادة المستَهلَكة لا تصلحُ للبناء الجديد، وعليه فالشعرُ في بعض آليات تكوينه ليس سوى حفرٍ عميقٍ في هذه المادة الأساسيّة، وابتكارٍ فيها يُفضي بالضرورة إلى تجديد دمها. فبيني وبين اللغة أواصرَ تجعلها سكَني ومطعمي ومشربي وأكثر. حيثُ نتبادل الغرام مهما كانت جراحنا مُثخَنَة. هي علاقة تفاهم وفهم وعلم وكشف وانكشاف. وعلى ذلك فتبدو لي اللغة رفيقةَ دربٍ تجعل من غير المستحيل أن أقترح عليها تمظهراتٍ وأثوابا وأدوارا وهيئاتٍ لم أكن لأجرؤ عليها من قبل. وهي على كلٍّ خاصةٌ بتجربتي في الحياة والشعر، وتدور في فلكي وما يفيضُ به من أحوال.

■ في رأيك.. أي تاريخ يمكن للشاعر تسجيله من خلال النص الشعري؟
□ لا تاريخَ إلا تاريخ الشعور الذي حرك الشعر، فالقصائدُ مؤرِّخاتٌ لحياة وجدانِ الشاعر الذي يرتطم بالحدث ولا يوثّقه، لا أكثر، لا لحياة الفعل والحدث؛ وعلى ذلك فأي قراءة للشعر خارج هذا المعنى هي مغامرةٌ متعسِّفة متعدّية على الشعر كمسارٍ موازٍ للتاريخ، وإن تقاطعَ معه أحيانا. فالشعرُ ليس شاهدا إلا على ذاته وتاريخه الشخصيّ، الذي يسعُ همَّ الشاعر/ة وهمَّ اللغة، ولا مزيد!

■ هل تشعرين بخيبة أمل تجاه المشهد الثقافي العربي؟
□ ويا لها من خيبة أمل! حقّا إني أحتاج إلى أربعة فصولٍ من فصول السنة على الأقل لأرسم ملامح خيبتي في المشهد الأردني وحده. ولستُ من كوّةِ تقاعدي أرصدُ وأراقب، فأنا في الخامسة والسبعين الآن، بل من أعماق انخراطي في الحِراك السوسيو- ثقافي. وعليه، فإني على بيّنةٍ من نوع التراخي غير الأخلاقي الذي حدثَ لدى أهل الثقافة، وفوق ذلك التحوُّل من اليسار إلى اليمين بفعل الانتهازية والجبن. لم تعد للمثقف مهمة نضاليّة يؤديها، فهو يُحصي مخاسره من ذلك، وأقل هذه المهمات المطلوبة منه أن يستهجنَ مقتلَ أديبٍ بأيدٍ سلفيّة على خلفيةِ رأيٍ، أو تهديدَ كتاب وكاتبات أُخَر بالقتل واغتيال شخصياتهن/م. ناهيك عن وجوب أن يقفَ بصلابةٍ لانتشال التعليم من أيدي الإسلام السياسيّ، وإنقاذ البلد من المؤسسات التي ترعى الفكر الظلامي، وطرح تصوّرٍ قويٍّ لدولةٍ عصريّةٍ حديثةٍ، كل هذا لا يفعله المثقف/ة الآن. وهذا وضعٌ كارثيٌّ كما ترى!

■ كيف تُقوّم زليخة أبو ريشة نتاجها الشعري، وفي أي قائمة تضع نفسها؟
□ ليست مهمّتي أن أقيّم تجربتي، وما عليَّ سوى أن أكتب وأنشر وأُحكّم ضميري الشعريّ والنقديّ ليمارسَ سطوته على ما أكتب. ففي داخل كلٍّ منا ناقد/ة يضبطُ إيقاعَ نموّ النص، بعد أن يشهد بذرتَه الأولى. لم نعد نشعر بحاجتنا إلى أهل النقد الغائبين، حيثُ حلَّت المجاملات مكانَ الفحصِ والنَّظر، ولذا نعوِّلُ كثيرا على ذائقتنا ومعرفتنا وخبرتنا في معنى الشعر وأدواته، على أملِ أنّا أوفياء للشعر ورعاية شجرته الباسقة.

■ النقد العربي.. موقفك منه وموقفه منك؟
□ أنت ترى أن لا نقد اليوم، ولا مدارسَ نقديّة، وليس ثمة أي سجالات نقدية أو فكريّة على الساحة حول أي قضيّة، سوى ما استهلكته الحروب القائمة في الجوار من روح الثقافة، وما بددتْه من طاقة أهلها في العداوة السياسيّة حول سوريا وما يجري فيها. انحرفت بوصلة الجميع بين هتافٍ لِـ وهتافٍ ضدّ، مع كميّة مهولة من الشتائم والتخوين في الطرفين. في هذا الجو غير الصحي والعليل نمَتْ كتاباتٌ هزيلة وتصدّرت بالدعاية غير المسؤولة مشهدَ الثقافة، في حين بدا النقاد الجادون في صمتٍ مطبق أو منشغلين في وظيفةٍ تدرُّ المالَ وهي تحكيمُ الجوائز الأدبيّة، هذا دون أن يظهرَ جيلٌ يجدِّدُ ما بَلِيَ. ولذا فليس من المنتظَر، وسط هذا المشهد البائس، أن يلتفتَ النقادُ إلى تجربتي أو سواها.

■ كيف ترين المشهد الشعري الراهن؟
□ المشهد الشعري أفضلُ حالا من المشهد النقديّ؛ إذ ما زلنا كشعراء نكتب ونكتب وننشر، وإن تحوَّل الناشرُ إلى سلطة مُفسِدةٍ للذائقة العامة بنشر (أيِّ كلامٍ) ما دام الشاعر/ة يدفع الكلفة والأرباح ويزيد. ومع ذلك، فإنَّ من حسناتِ الفيسبوك أنها عرّفتني شخصيا إلى أصواتٍ جديدة تكتب بحساسيةٍ جديدةٍ تختلفُ عن مزاجنا الشعريّ، بالرغم من امتلاء هذا الفضاء بالغثِّ التافه. ولكنَّ الزمن يغربلُ، وسيفعل.

■ كل النبوءات في قصائدك الأخيرة، لا تستشرف مستقبلا ناصعا على جبين الأمة، ألا تراهنين على الأجيال القادمة؟
□ شعرُ الحبِّ عندي هو في حدِّ ذاته رهانٌ على أزليٍّ أبديٍّ لا يزول بسبب اختلاف طبائعِ البشر أو ظروفِ معاشهم واقتتالهم وأطماعهم. مما يشي بيأسٍ عميقٍ من الواقع الراهنِ ومعادلاته المشوّهة القاسية. إننا في مخاضٍ، بل إنَّ البشريّةَ برمّتها في مخاضٍ رهيب خرجت فيه أحشاءُ السياسة والثقافة وبعض المجتمعات في مشهديّةٍ مرعبة. ومع ذلك فإني دائمةُ القول: إننا لا نملك ترفَ اليأس! وبالرغم من أنني شخصيّا غسلتُ يدي من أهل الثقافة، إلا أني أرى شرائح جديدة من الشباب تتشكَّلُ وتنبثقُ من بين هذا الركامِ والرّماد، تنهضُ بوعيٍ جديد وهمةٍ جديدة، لتتلقى بذرةَ الأمل وترعاها. شرائحُ تتجه نحو المستقبل والفعل الإنساني، في حركةٍ تقطعُ مع عبادة الماضي وأوثانه. وهذا في حد ذاته أمل.

■ ماذا عن فترة وجودك في بريطانيا وتأثيرها في تجربتك الشعرية؟
□ كانت تجربةَ مهمة حيثُ اختلطتُ بمجتمعٍ جديد، وتعرّفتُ إلى والتقيتُ بنقاد وشعراء بريطانيين، بل وأدباء ومفكرين عرب أمثال المفكر إدوارد سعيد والروائيّ إميل حبيبي والناقد المصري البريطاني رشيد العناني، والمفكر السوري عزيز العظمة، والروائية الجزائرية الفرنسية آسيا جـبار والروائي المغـــربي محمـــد شكري، والروائيـــة اللبنـــانية حـــنان الشـيخ والكاتبة العراقية هيفاء زنكنة والناقدة العراقية فاطمة المحسن وعالم الاجتماع فالح عبد الجبار، والشاعر الأردني البريطاني أمجد ناصر، والفنان التشكيلي ضياء العزاوي، وفنانة الفسيفساء الإنكليزية إلين جــودوين، وكنتُ معها في تأسيس جمعية الفسيفساء البريطـــانية، وشعراء نهر ديفن، حيثُ انضمـمتُ إلى المجمــــوعة، وقـــرأت الشــعر معهم/ن في قاعات ديفــون ومقاهيها، والناقد البريطاني تيري إيغلتون، والقاص العراقي البريطاني لؤي عبد الإله، والناقد المصري صبري حافظ، والناقد السوري كمال أبو ديب، وعدد من أهل الثقافة والأكاديميا والصحافة العربية في المنفى. كانت فترة غنيّة ومهمّة في حياتي ولشعري ولأدبي، حيثُ قضيتُ على الرقيب الأمني الداخلي إلى الأبد. فهواء الحريّة الذي تنشقتُه، طرد آثار السلطة والاستبداد العقلي والفكري، حيثُ جرّبتُ مفاهيمَ إنسانيّة كان من الصعب اكتسابُها في بيئة مضغوطةٍ تحاسبُ وتغلو في الحساب.

■ أين أنتِ اليوم، وماذا عن تصورك للمستقبل؟
□ أنا في الظلّ يا صديقي، أشتغل مع ثلّةٍ من عقول التنوير لبناء شبكةٍ من شبيبة هذا الوطن ممن نهضتْ إلى الجمال والقيمة تبنيه وتتقدّمُ فيه. فلا معنى لشكواي من أهل الثقافة وفسادِ النُّخَبِ إن نأيتُ بنفسي عن الانخراطِ الفيزيقي في معترَكِ النهوض. فأنا أكتبُ عن الأملِ دوما، ومن حقِّ قرائي عليَّ أن أصدقَ القول كما أصدق الفعل، وقد ترتَّبَ على ذلك ثمنٌ باهظٌ أدفعه لإفصاحي عن آرائي في الإسلام السياسي، حيثُ أتعرّضُ بين الحينِ والآخر إلى حملات اغتيال شخصيّةٍ وتكفيرٍ وتحريضٍ على القتل، مما يجعلُ حياتي وحياة أسرتي في خطر.

الشاعرة الأردنية زليخة أبو ريشة: رغم كل ما يحدث في الثقافة العربية فنحن لا نملك ترف اليأس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية