كأنه كتب على أجيال كاملة من السوريين والليبيين أن تذعن رغما عنها لاختصار سوريا وليبيا في آل الأسد وآل القذافي فقط. فحتى المئة صاروخ أو يزيد التي أطلقت فجر السبت الماضي، زادت من صلف الأول وطموحه الجارف للبقاء في السلطة بأي ثمن. وحتى مسارعة البعض قبلها بأيام ايضا لنعي الثاني سليل العائلة القذافية العريقة حولته أو كادت تحوله من مرتزق منبوذ إلى بطل شعبي مرموق. أليس ذلك بالمختصر المفيد ما حصل مع بشار الأسد وخليفة حفتر؟
لقد بدا بشار واثقا مطمئنا وفي «مزاج جيد»، كما أخبر نواب روس قابلوه بعد أربع وعشرين ساعة من الضربات الجوية التي استهدفت بعض المواقع والمنشآت. فكل ما دمره قصف العدوان الثلاثي كما أطلق عليه إعلامه، لم يكن مهما أو مؤثرا أو ماسا بمعنوياته. فبما أنه مايزال سليما معافى لم يمسه خدش واحد، ولديه من الشجاعة ما يكفي لان يظهر ساعات قليلة بعد القصف الاطلسي ممسكا حقيبة وقاطعا إحدى ردهات قصره، مثلما اظهره شريط دعائي فكل شيء في سوريا من الرضيع إلى المعمل الكيماوي إلى المنشأة المدنية والعسكرية فدى بشار وفدى بقائه فوق رقاب السوريين إلى أن يرث الله الارض ومن عليها. لكن يبدو أن حظ حفتر في الشعور بالزهو سيكون أقل من حظ بشار فتقدمه في السن ومتاعبه الصحية لا تسمحان له بأن يخرج مثله بعد وقت قصير من إعلان وفاته ليكذّب الخبر جملة وتفصيلا، ويقول مثلا إنه فبركة اخرى من فبركات الإخوان والدواعش. ومن يدري فقد يتمكن إن كتب له العمر من أن يحتفل بالضربات الإعلامية القوية التي استهدفته وجعلته معلقا بين الحياة والموت، وكانت بمثابة شهادة ميلاد اخرى له كحاكم مطلق لليبيا، التي لم تخرج بعد من عباءة القذافي.
لكن ما الذي يمكن أن يعنيه بقاء بشار على قيد الحياة أو موت حفتر؟ وهل أن مصير السوريين والليبيين سيظل مرتبطا فعلا ببقائهما أو غيابهما عن الوجود؟ إن ما يجمع حاكم دمشق وجنرال طبرق بعيدا عن افتنانهما بالحلول القصوى هو أنهما استطاعا استجلاب مجموعة من الأعداء الوهميين الضرورين لبقائهما في مواقعهما في السلطة. ولا شك في أن الاختلاف الكبير في الظروف المحيطة بهما جعلت بشار يحصد عددا أكبر من أولئك الاعداء مقارنة بخبرة حفتر المحدودة والقصيرة في المجال. ولاحظوا جيدا كيف نجح الاثنان في تسويق نفسيهما كبطلين قوميين يدافعان عن استقلال بلديهما وسيادته، في وجه التدخلات الخارجية. ألم تكن كل الضربات الاسرائيلية والامريكية والفرنسية والبريطانية في سوريا مثل ضرب الحبيب، الذي يزيد الأسد حبا وهياما بكرسيه في دمشق، ولا يحل ولو واحدا من عشر آلام ومآسي مئات آلاف السوريين؟ ألم يكن كل العالم يعرف مثلا بأن «الغارات الجوية (الاخيرة) لم تغير من الوضع القائم، وتركت للأسد مواصلة شن الحرب على شعبه» مثلما كتبت «نيويورك تايمز» الاحد الماضي؟ أم أن الامر كان اكتشافا خارقا فات الامريكان وباقي دول التحالف الغربي؟ وبالمثل ألم يكن تقرير صحيفة «لوموند» الفرنسية الاربعاء الماضي، الذي اشار إلى أن «أن رجل الشرق الليبي القوي موجود في أحد المستشفيات الفرنسية بعد أن نقل إليها على عجل من العاصمة الأردنية عمان، في اعقاب اصابته بجلطة دماغية»، بمثابة كيس اوكسجين جديد ألقي لال القذافي ولدورهم مستقبلا في ليبيا؟ لم يكن مطلوبا من العالم بالطبع أن يصم آذانه ويغلق عيونه ولا يعاقب الاسد على جرائمه المريعة، ولا كان مطلوبا منه ايضا أن يتكتم على خبر وفاة الجنرال الليبي إن ثبتت وفاته بالفعل. ولكن هل كان القصف هو العقاب المناسب لكل دموية وجنون الاسد؟ وهل كان اعلان الوفاة بكل تلك النبرة الانتصارية هو السبيل لقطع الطريق على عودة ابناء القذافي واركان نظامه للحكم؟
لقد رأى الجميع كيف خرج بشار بعد الضربات اقوى مما كان عليه قبلها، وكيف استطاع أن يقدم نفسه على أنه ضحية عدوان ثلاثي لا يختلف كثيرا عما تعرضت له مصر منتصف الخمسينيات. وبدلا من أن يتركز الاهتمام على مصير الضحايا، أعطت سياسة الغرب في استغلال محنهم انطباعا قويا بأن حياة الأسد أغلى من كل الحيوات في سوريا، وأن التخلص منه يتطلب بالضرورة تدمير البشر والحجر، وتسوية البلد بمن عليه أو إعادته إلى العصر الحجري، أسوة بما حصل قبل سنوات في الحرب على صدام. إنه التطبيق العملي لسياسة «الأسد أو نحرق البلد» التي أطلقها انصار النظام، ولم يكن احد ليتصور أن من اعلنوا قبل سبع سنوات من الان انهم لن يسمحوا ببقائه يوما اضافيا واحدا في السلطة، سيكونون هم المبادرين لنحتها وتثبيتها على ارض الواقع بكل ما قاموا به من تواطؤ مفضوح معه، وما ارسلوه من قذائف وقنابل وصواريخ غبية على أهداف لا أهمية أو دور لها في التأثير على بقائه أو رحيله من السلطة. كانت الخدمة الاكبر التي اطالت عمر حكمه الافتراضي القصير هي دخول قوى اجنبية على خط المواجهة الوهمية معه، ما جعله قادرا على مناطحتها بقوى اقليمية ودولية اخرى، وتصوير نفسه مع ذلك على أنه المدافع المخلص عن الدولة الوطنية المستهدفة بالتجزئة والتفتيت. ولم يعد غريبا أن يعترف المسؤولون الاوروبيون علنا بذلك الدور في تأبيد استبداده وإطالة امده. ألم يقل الرئيس الفرنسي ماكرون في مقابلة تلفزيونية بثت الأحد الماضي «إن فرنسا لم تعلن الحرب على نظام الاسد» وإنها ترغب بحل سياسي شامل في سوريا، أي في حل لا يقصيه، رغم كل ما ارتكبه في حق شعبه، ولا يستثني استمراره في البقاء على رأس النظام. فهل كانت الغاية الاولى والاخيرة اذن من وراء الضربات هي شيئا اخر غير تجميل صورة بشار وتهيئته فعلا للبقاء للابد فوق جماجم السوريين؟
إن المفارقة هي اختلاف الطريقة لم يمنع من الوصول للنتيجة نفسها، فقد كان تضارب الانباء ايضا حول صحة حفتر وتقديمها محليا ودوليا بطريقة فتحت الباب أمام قدر واسع من الغموض لا حول حقيقة مصيره الشخصي، بل بالأساس حول مآل ليبيا من بعده، إشارة لا تخطؤها العين إلى أن القوى المتحكمة من وراء الستار في أقدار الليبيين لا تريد لهم أن يتحرروا من ظل القذافي. وأنها حتى إن كانت بصدد التفكير في بديل للعقيد الراحل، ثم من بعده للجنرال الفقيد، فلن يكون أمامهم من أحد آخر غير ابنه سيف الاسلام أو عسكري اخر من تلامذة القذافي، أو ممن تخرجوا من مدرسته في الحكم.
إنهم يرغبون ببساطة شديدة من خلال ضرب بشار وحبك روايات الرحيل الدامي لحفتر مصارعا المرض الخبيث، أن يقنعوا السوريين والليبيين بأن لا مجال لهم للتفكير في مستقبل خال من الأسد ومن القذافي، وإن كل طموحاتهم في التخلص يوما ما منهما ستظل مجرد اوهام. أما هل نجحوا في ذلك أم لا فربما سيكون باكرا معرفة الجواب؟
كاتب وصحافي من تونس
نزار بولحية