قوى الاستعمار والهيمنة لم تنتظر يوما إقرارا من الأمم المتحدة لشن العدوان على الدول ذات السيادة، فهي تنتهك القانون الدولي بشكل سافر ودائم، ومواصلة أمريكا وحلفائها العمل خارج إطار الأمم المتحدة يُعد تجاوزا وإضرارا خطيرا بالعلاقات والمواثيق الدولية.
وهو يؤشر إلى مرحلة تنبئ بكل السيناريوهات المحتملة، فالثابت أن تقلص العلاقات الدبلوماسية وتوترها، إضافة إلى استعراض القوة والسباق نحو التسلح بأحدث المنظومات الدفاعية والهجومية، يدفع باتجاه مزيد من تأزم العلاقات الدولية بشكل يفوق فترة الحرب الباردة. ولا أحد ينخدع اليوم بمقولات الولايات المتحدة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الشعوب والقانون الدولي، إلا من بلغ درجة عظيمة من الغباء، فحقيقة زيف القيم الديمقراطية التي تدعيها أمريكا أصبحت مكشوفة أمام العالم، وما المأساة التي تعانيها الشعوب العربية إلا نتيجة لدعم أمريكا لحكام المنطقة ضد تطلعات شعوبهم. فهل ستتعلم الدرس مما جرى للإمبراطوريات الاستعمارية التي سبقتها؟ أم أنها تتعنت في التشبث بموقع عالمي آخذ في الزوال، عبر اعتمادها على قوة عسكرية سياسية؟
وإلى الآن مازالت مثل هذه الدول تُلوح باستخدام القوة ضد من يُواجه الغطرسة الأمريكية ولا يذعن لشروط الهيمنة التي تريد أن تفرضها أمريكا، إلى جانب من تذيل من الدول الغربية واتبع خطاها، ناهيك عن الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، التي تتلقى فيها إسرائيل الدعم المطلق من الولايات المتحدة. فعقيدة الدولة المارقة لا تزال سارية المفعول، سواء تولى الديمقراطيون الحكم في صورة أوباما، أو عاد الجمهوريون إلى البيت الأبيض برئيس ينطق بلغة المال والمساومات. ومثل هذه القوة العسكرية السياسية لا يمكن أن تنشر على الإطلاق نظاما عالميا يدعم السلام، أو تدفع باتجاه أمان عالمي، بقدر ما تُساهم في مزيد من النزاعات والاضطرابات، وتبحث عن إدارة أزمات لصالحها طبعا ولمصلحة حلفائها أيضا، وهي لا تقدم للحضارة الإنسانية مشتركا إنسانيا يجمعها، بل تُكرس البربرية والعنف كما اعتادت منذ عقود. فجنون العظمة الذي أصيبت به سياسة الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر، الذي أظهر قوة مركزها ما بعد الاتحاد السوفييتي هو الذي كان له الأثر الأكبر في تدمير الأسس السياسية والأيديولوجية لتأثيرها السابق الذي كان مبنيا على الهيمنة، وأوصد أمامها أبواب تقوية تراث حقبة الحرب الباردة، ولم يُخلف لها سوى قوة عسكرية مخيفة لا تُنكر، وإن لم يكن لها أساس منطقي في التعامل مع الأزمات المتواترة والنزاعات المحتدمة في كثير من مناطق العالم على امتداد عقود متواصلة.
ومن المهم الإشارة إلى أن النظام الدولي بمعطياته الجديدة لم تعد فيه أمريكا ذات يد عُليا، تمدها متى شاءت بعثا لأسباب البقاء لكياناتها المصطنعة أو لمصالحها الاستراتيجية، وانتهى فعليا مشروع سيطرة دولة واحدة على العالم. أما خطر نشوب حرب عالمية كبرى فيبقى مبعثها الرئيس تنافس القوى الكبرى، وعدم رغبة الولايات المتحدة في الانحدار إلى درجة ثالثة بعد روسيا والصين. ويظل اندلاع مثل هذه الحرب احتمالا حقيقيا قائما، وإن كان الآن يتخذ أشكالا أخرى هي أساسا الحرب بالوكالة بحثا عن مزيد الهيمنة وتحصيل المكاسب الاستراتيجية، والأمر يتم على حساب الدول الصغيرة للأسف، ولا يُعير اهتماما لشعوبها، فكل ما يجري من عنف ووحشية يتنافى ومعايير حقوق الإنسان ويُناقض جميع الأعراف الانسانية، ولا يأبه للقانون الدولي ويُنظر لمن يرفضه ويُندد به على أنه من أطراف محور الشر، حسب التصنيف الأمريكي القديم والمتجدد، فهو يختلف مع المثل الأعلى المطروح، الذي عملت النخب الحاكمة في أمريكا في إعادة تشكيل الإنسان الغربي وفقه، بحيث أصبح إنسانا اقتصاديا جسمانيا تُحركه مصالحه الاقتصادية المباشرة، وسعادته التي عرفها بطريقة مادية، رغم أن العالم الغربي أدرك إلى حد ما في نهاية القرن العشرين الحاجة إلى ثوابت حتى لا يضر الإنسان ذاته، وفي ذلك يقول ألبرت أشفيتزر: «لقد خدعتنا مظاهر التقدم في المعرفة والقوة، فلم نفكر في الخطر الذي نتعرض له جراء تضاؤل القيمة التي نعطيها للعناصر الروحية في بناء الحضارة. وهكذا انحدرنا إلى حال من عدم المدنية والافتقار إلى الإنسانية، وهذه أوضح حقيقة عن تاريخ الحضارة، ماذا تقول لنا هذه الحقيقة؟ إنها تقول إن ثمة ارتباطا وثيقا بين المدنية والنظرة الكونية، والحضارة حصيلة نظرة في العالم أخلاقية متفائلة». ووفق هذا المعنى تُحيل كل المعطيات على الساحة الدولية أنه لم يعد هناك مجال لهيمنة امبراطورية تفعل ما تشاء، وفق عنجهية متغطرسة لاأخلاقية، ولغة حرب مجنونة لا تكترث لاستقلال الدول وسلامة ترابها، ومن الجيد أن يبقى النظام الدولي جماعيا لا تستفرد فيه الولايات المتحدة بالقرارات الدولية أحادية الجانب، ولا تستطيع فرض نظام عالمي جديد ترغب فيه، فقد انتهى عصر الامبراطوريات التي لا تغيب عنها الشمس، بصرف النظر عن مبلغ القوة العسكرية، ويتعين على الجميع الدفع باتجاه السلام العالمي.
كاتب تونسي
لطفي العبيدي