خطابات طهرانيةٌ بمخالب وأنياب

تتسم الذات عادة، بحرصها الدائم على امتلاك ما يكفي من الشروط الكفيلة بنحت ملامحها المعبرة عن خصوصية معينة، تخول لها إمكانية ممارسة حضورها في حياتها العامة والخاصة، حيث تكون معنية بتطوير كفاءاتها المعرفية، من أجل ترجمتها في صيغة خطابات، تمكنها من حظوة العبور إلى فضاءات أمانيها المؤثثة بالغالي والنفيس، من المناصب الاجتماعية السياسية، أو الثقافية، الشيء الذي لا يتحقق إلا على أساس ما تتمتع به من قابلية متجددة لتعَهُّد ملكاتها بالرعاية والتكوين، كي تنجح في تكييف خطاباتها، مع حيثيات المقامات التي تسعى إلى التواجد بها.
فحرصها مثلا على تقديم نفسها في الفضاءات الخاصة، بوصفها نموذجا متميزا للعقلانية التنويرية، ينبغي أن يظل هو ذاته الإطار الذي تعتمده في تدبير تعاملاتها داخل الفضاءات العامة، بصرف النظر عن تباين بنية ونوعية الخطاب الموظف في الفضاءين معا، سواء على المستوى المفاهيمي، أو التواصلي، حيث يشتغل في الفضاء الأول خطاب عالم، معزز بإوالياته المعرفية. فيما يشتغل في الفضاء الثاني خطاب بسيط، ومحكوم بشروطه التواصلية العادية والطبيعية، مع شرط تكامل الخطابين معا من جهة الوظيفة، التي يمكن اختزالها في أولوية مراعاة فعل الإقناع والحضور.
وكما هو معلوم، فإن منطق الأشياء يقتضي أن تكون خصوصية الذات منسجمة مع خطابها المعبر عن مواقفها وقناعاتها، وهو ما يظل مفقودا في المجتمعات العربية المصابة باختلالاتها المزمنة، حيث تبدو ذواتها مجردة تماما من أي مؤشر يحيل على الخطاب الذي تلح على تقمصه أو انتحاله، علما بأن الرهان الموضوعي الذي يُفترض أن تضعه نصب عينيها، وضمن أولوياتها، هو تحقيق أكبر قدر من التماهي مع ما تنتجه وتوظفه من خطابات، خاصة منها تلك التي تسمح لها باقتناء حيز رمزي، في أرضية التراتبية المجتمعية. فالقتلة على سبيل المثال لا الحصر، يمتلكون لغاتهم المنسجمة مع وحشيتهم، الملطخة بدماء، وأصداء صرخات الإبادة، كما هو الشأن بالنسبة للصوص المتخصصين في مهن السطو على هويات الآخرين، من خلال تقمصهم لخطابات لا علاقة لبنياتهم المعطوبة بها، حيث لا يخرج الأمر عن صورة قاطع طريق متنكر في جلباب ملاك. إلا أننا، وضدا من ذلك، سنلح على القول بوجوب حضور الحد الأدنى من التطابق، بين الذات وخطاباتها المعبرة عن اهتماماتها واختياراتها، وعن رؤيتها المعرفية والثقافية لأشياء العالم، باعتبار أن تبني هذه الاختيارات وهذه الرؤى، يقتضي أن يكون منسجما مع ما تتوفر عليه من زاد معرفي وثقافي، تعتمده في مواجهتها لما قد يطرحه حاضرها ومستقبلها من إشكاليات. وهذه الاختيارات تكون في المجتمعات المتوازنة، معززة نسبيا بدعم المؤسسات الوصية، كما تكون مستجيبة إلى حد ما لمنطق الأعراف والتقاليد المكرسة، حيث يتحقق تواصل الذوات مع محيطها، بدون اضطرارها بالضرورة إلى انتحال خطابات الآخرين، وبدون أن ينازعها أدنى إحساس بالغربة واليتم، أو المكابدة في حالة اشتغالها بخطابات نخبوية، مثقلة بثرائها المعرفي، الذي غالبا ما يكون في متناول محيط يتسم بتعدديته، وكذلك موسوما بقدرته على ضخ دماء متجددة، في ألياف ما يُستحدث من قضايا معرفية واجتماعية. ففي هذه المجتمعات تحديدا، لا تكون هناك هوامش ميتة، بل على النقيض من ذلك، توجد مرافق حية، ومأهولة بروادها وزوارها وساكنتها، ولا أثر فيها لأراض ثقافية بور، مهجورة وموحشة، كما لا يوجد سبب، يدعو إلى التساؤل عن دلالة انعزال النخب في أبراجهم العاجية أو الطينية، مع أخذنا بعين الاعتبار حضور بعض الحالات الاستثنائية، التي يتحول فيها خطاب الذات إلى شأن جد شخصي، حيث يطمئن إلى احتجابه، بدون أن يأنس من نفسه أي رغبة، أو حاجة للإعلان عن حضوره، خاصة حينما يكون منتميا إلى تلك الحقول المعرفية المتميزة بدقتها التقنية والنظرية، الواقعة خارج دائرة اهتمام العامة، ونسبة غير قليلة من الخاصة، وهو ما يؤدى إلى تقليص شروط القول، وشروط الإنصات، حيث تصبح الذات غير معنية مطلقا بتسويق خصوصية خطابها، متحولة بذلك إلى مجرد ذات، لا تطمح لامتلاك أي امتيازاستثنائي، عدا ما يمكن أن تحدثه ممارستها اليومية من تأثير في المحيط العام أو الخاص، الذي تتواجد فيه، على هامشِ ما يحدث أن تنخرط فيه من التزامات، لا تنتمي بالضرورة إلى الحقل المعرفي، الذي هو موضوع اختصاصها، بما يجعلنا نثير في هذا السياق إشكالية التسويق، التي تحيلنا على تلك الذوات المسكونة بتسويق ذاتها، من منطلق اعتباره شأنا مركزيا، يحتل مكان الصدارة في اهتماماتها، بوصفه رهانها المصيري والأخير، وأيضا على أساس انحدار بنيتها الذهنية والسيكولوجية من أصول ذات طبيعة تسويقية، بدون أن تكون بالضرورة معنية بإيلاء أي اعتبار لدلالة منتوجها، الذي هو موضوع التسويق. فلا غرو والحالة هذه، أن ألفيناها مُلمَّة بجميع الشروط الكفيلة بإنجاز هذه المهمة، التي ترتقي بفعل تراكم الخبرة إلى مستوى ملَكَةٍ انتهازية، تقود خطابا شبحا، عاريا تماما من أي ملَكةٍ تذكر.
إن التسويق/الترويج الشخصي، الذي يتخذ هنا طابعا تجاريا بالمفهوم السوقي والقدحي للكلمة، يتحول بالنسبة لهذه العينات البشرية إلى إشكال وجودي، محتلا بذلك حيزا كبيرا من اهتمامها، بصيغة تؤدي إلى تهميش كافة الأسئلة الجوهرية المتعلقة بما تروجه من خطابات، حيث تهيمن صورة التسويق على صورة الخطاب، فتصبح بالتالي التعبير المباشر عن بؤس الذات، علما بأن استفحال هذا التماهي، إلى جانب الإصرار على تكريسه، هو الذي يساهم في تجذير حضور العيِّنة ذاتها في المشهد العام، خاصة في جانبه السياسي، نتيجة طغيان الصورة المسَوَّقَة على أي اهتمام آخر، له علاقة ما بمرجعياتها المعرفية التي تظل غائبة ومجهولة، فيما هي الأكثر تعبيرا عن خصوصية الذوات المصابة بعاهات التسويق، الذي تفتح آليات تنشيطه شهية ترسانة إعلامية، تجد ضالتها في كل منتوج تتكامل فيه شروط الترويج والتسويق، كما تتوافر فيه شروط الجاهزيه المتقدمة لخوض غمار تجربة التعميم، بصرف النظر عن مضامين هذه الجاهزية، التي يتقهقر فيها عامل الأهمية إلى مراتبه المتدنية، وأيضا باعتبار أن الإعلام يميل إلى ترجيح الاشتغال بالصورة المتميزة بديناميتها التداولية، بدل الصورة المفرغة من عنصر الإثارة، والمفتقرة لحدها الأدنى من الترويج، حيث يكون مآلها مباشرة إلى زوال.
تأسيسا على ذلك، يمكن القول إن الذوات الترويجية والتسويقية هي التي تسيطر على المشهد العام، بالحق أو الباطل، اللذين يتكاملان بفعل تمتعهما بالقوة والطاقة التأثيرية نفسها، في تزكية المسخ، حيث العبرة هنا، بالحضور الشكلي، المؤهل لخلق الحدث، وليس بعمق هذا الحضور الذي لا يعدو أن يكون صوتا نشازا في الإيقاع العام، علما بأن الإثارة التي يمتلكها الباطل تكون غالبا، أكثر فعالية من حيث قوتها الترويجية والتداولية، وهو بحق، مجال اختلاط المقاييس بامتياز، التي لا تستمد هنا موضوعيتها من قوانينها الداخلية، بقدر ما تستمدها من مدى ما تمتلكه المادة/الصورة، من قابلية للترويج، بما يتيح الفرصة للكثير من الفقاعات السياسية والثقافية بالمزيد من التناسل والانتشار. وهنا تصبح المعادلات الذرائعية هي الأكثر إقناعا، على أرضية الامتثال للسلط الأكثر قدرة على استقطاب الاهتمام، وعلى تصعيد درجة التأثير، مادامت العبرة تكمن أولا وأخيرا، بقدرة الذوات التسويقية على ممارسة لعبة اختراقها للنسيج الإعلامي، بعيدا عن مقولة العمق والجدوى، حيث الأمر لا يستدعي سوى توافر جرعة زائدة من الوقاحة، وحسٍّ مضاعف من طبع التكالب، مع مسوح طهرانية، مؤهلة لكسب تعاطف الخاصة والعامة على السواء، مع احترافية عالية في التنصل من المسؤولية، والتحلي الأنيق ببراءة الذئب، كلما ثارت الشكوك حول رائحة دمٍ تفوح من شراسة المخالب، ومن ضراوة الأنياب.

شاعر وكاتب من المغرب

خطابات طهرانيةٌ بمخالب وأنياب

رشيد المومني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية