الضمور الديمقراطي عشية الانتخابات

حجم الخط
0

ما كاد التقرير الثاني لـ»الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات» يمارس أثره على مسافة أسابيع قليلة من الاستحقاق المؤجل منذ خمس سنوات، بما رسمه هذا التقرير من لوحة قاتمة حول الانتهاكات العامة والإمعان في استغلال النفوذ والمزج التام بين العام والخاص، وبالأخص فيما يتعلّق بغياب الدور الفاعل لهيئة الإشراف على الانتخابات، المستحدثة قبل عشر سنوات، متحدثاً عن قرار بإفشالها من قبل وزيري الداخلية والمال عبر حرمانها امكاناتها المادية والبشرية، حتى جاءت استقالة ممثلة هيئات المجتمع المدني في هذه الهيئة سيلفانا اللقيس «كي لا تكون شاهدة زور على عجز الهيئة» ومن بعدها توصيف وزير الداخلية نهاد المشنوق لخطوة اللقيس بأنها «تعبير غير مبرّر عن اليأس من القدرة على التغيير»، في مقابل توظيف المرشّحين «من غير الوزراء»، وبالأخص من الوزراء السابقين، لهذه الاستقالة في خطابها الانتخابي، كدليل على «تسخير السلطة وأجهزتها لمصلحة مرشحيها». كلّ هذا يغذي في وقت واحد انطباع وهاجس متباينين في الإتجاه: فمن جهة، «الانطباع» بأنّ الانتهاكات تصبح ملحوظة ونافرة أكثر فأكثر مع النقلة من نظام التصويت الأكثري المتعدّد الدوائر إلى نظام التصويت النسبي بدوائر متعددة وبامتياز الصوت التفضيلي لأحد المرشحين، ما لم ترتبط هذه النقلة بآليات فاعلة لتأمين الحد الأدنى من التوازن على صعيد الإنفاق والإعلان والإعلام وكل ما يرعى المنافسة في الموسم الانتخابي. أمّا «الهاجس» فيتصل بجدوى وكيفية «تأمين» الاستحقاق نفسه، حيث أنّ «كرة ثلج الانتهاكات» هذه، ليست بتفصيل، ولا هي كرة يمكن التحكّم سلفاً في حجمها، وفي تداعياتها.
فحتى لو لم يكن السؤال حول تأثير هذه الكرة على حصول الاستحقاق في موعده، وهو سؤال جرى تحريكه بشكل جزئي في الأيام الأخيرة، هو سؤال واقعي في المعطى الحالي، وحتى لو كان «الطعن بالعملية الانتخابية برمّتها أمام المجلس الدستوري» هو مناخ تشكيكي أكثر منه مناخاً تطبيقياً، في بلد تنتظره أصلاً بعد الانتخابات معركة تعيين أعضاء جدد للمجلس الدستوري المنتهية ولايته قبل ثلاث سنوات، وهناك من طرح القيام بهذه التعيينات قبل الانتخابات، وهذا منطقي، من جهة أنّه لن تكون هناك فعلياً، بل فقط نظرياً، هيئة قادرة على النظر بالطعون الانتخابية، ما دامت هذه الهيئة انتهت ولايتها قبل ثلاث سنوات. حتى لو لم تحدث كرة ثلج «الانتهاكات»، واخفاق تجربة «هيئة الإشراف»، ومتاهة «الطعن» أمام مجلس دستوري «ضامر»، مفعولاً «تقويضياً» للاستحقاق بحد ذاته، فإنّ المجلس النيابي العتيد يولد في ظروف يظهر بشكل واضح أنّها أكثر رداءة من المجالس النيابية السابقة، و»شبح الطعن الجوفي» بالاستحقاق وما ينتج عنه، قد لا يمكن ترجمته بملموسية في وقت قريب، وقد يمكن ـ هذا رهن مروحة الظروف، إلا أنّه شبح لا يمكن أن تتعامل معه المؤسسات الدستورية في البلد كأنّه غير موجود، إلا أذا أراد القائمون على هذه المؤسسات الدفع قدماً بالتصدّعات المتراكمة والمستفحلة التي يقفون عليها، وما زالوا يتعاملون معها «كأرض ثابتة».
مع اقتراب موعد توجه اللبنانيين إلى صناديق الاقتراع في السادس من الشهر القادم، ليس هناك أي قوة سياسية غير مشاركة أو مقاطعة لهذا الاستحقاق، والانتهاكات التي يتحدث عنها تقرير جمعية «ديموقراطية الانتخابات»، أو استقالة عضو من هيئة الإشراف، أو متاهة الطعن الإجمالي، أو الطعون المختلفة، أمام مجلس دستوري يتعين إعادة بث الحياة فيه واعادة تعيين أعضائه قبل كل شيء. بالعكس تماماً، رغم أنّ صخب هذه العملية الانتخابية لا يحجب نوعاً من التراجع في «التسييس» للاستحقاق، إذا ما قورن بالذي سبقه (مع عبثية نفي السياسة عن استحقاق نيابي تنافسي في بلد لا يزال يتمتع بجزء من مناخات «المجتمع المفتوح» كلبنان)، إلا أنّ «الجميع» في الانتخابات. القوى الممثلة في الحكومة، والتي خارجها، والفعاليات التي تطرح نفسها كـ»مجتمع مدني»، والخلطات التي لا تنتهي بين كل هذا، تلك الخلطات التي تسوّغ أمرها بالقانون الإنتخابي الحالي وما يقتضيه من مفارقات، ما دام يجمع بين النسبية، باللائحة المقفلة، وبين عنصر أكثري مركزي للتجاذب والتنافر، هو الصوت التفضيلي الذي يمنح الناخب لأحد المرشحين دون سواهم. المفارقة هنا، أنّ نغمة «الشكوى» من القانون الحالي قد طفحت في الشهرين الأخيرين، ولم يكن الأمر كذلك حين أقرّ هذا القانون في العام الماضي، وبرّر التمديد مرة اضافية لمجلس 2009 بحجة «التدرب» على هذا القانون، من فوق ومن تحت، من قبل منظمي العملية الانتخابية والمشاركين فيها على حد سواء، ومع غياب الفاصل الحقيقي بين المنظمين والمشاركين، على ما كانت عليه الحال دائماً في لبنان، انما بالشكل الذي يظهر وقعه وأثره أكثر مع اعتماد هذا القانون المبني على ثنائية اللائحة المقفلة، وصوت التفضيل.
ويأتي هذا المناخ «المشتكي» من القانون الحالي قبل أسابيع من الانتخاب، سواء من مرشحين حكوميين أو من مرشحين من خارج التوليفة الحكومية، في حين أنه حتى مدة غير بعيدة ظلّ عدد غير قليل من مرشحي ما يعرف بـ»المجتمع المدني» يتعامل مع هذا القانون، رغم «كل شوائبه» على أنه يمثلّ «نقلة ايجابية» في اتجاه القانون العصري الذي كانوا يمنون النفس به. وعلى هذا الأساس، تطورت في الأشهر الماضية «ريتوريك مدنية» تعتبر أنّه ثمّة بالفعل «فرص للتغيير» في هذا الاستحقاق النيابي، أولاً لأن البلد لم يشهد انتخابات منذ تسع سنوات، وثانياً لأن النظام النسبي، حتى في دوائر متعددة وبالقيد الطائفي والصوت التفضيلي، يفسح بالمجال لـ»اختراق» ما اعتبرته هذه «الريتوريك» نادي الطبقة السياسية. تتضمّن هذه الريتوريك منسوباً عالياً من ايهام الذات والآخرين. فمن ناحية، الإنتقال من نظام تصويت أكثري إلى نظام تصويت نسبي سيجعل مشكلة انعدام التوازن في الانفاق والإعلان والإعلام وشتى مجالات المنافسة أكبر ما لم يقترن بتمكين أوسع للأطر الإشرافية والرقابية على هذا الصعيد، فكيف إذا كان المجلس الدستوري الذي ينظر في الطعون هو بحد ذاته «مبهم الوجود». ومن ناحية ثانية، تقسيم المواجهة بين «طبقة سياسية» وبين «مجتمع مدني» هو بحد ذاته مقاربة «معطوبة». فالحزبيات الطائفية المشاركة تقريباً جميعها في الحكومة اليوم، هي حزبيات أوليغارشية من فوق، وجماهيرية من تحت، وليست العلاقة بين التحت والفوق في كل منها هي علاقة «السيد والعبد» ليس إلا، إذا في الكاريكاتور عنها الذي لا يمكن السوق به بعيداً. أما قوى المجتمع المدني الانتخابية هذه، التي تحاكي الخطاب «انتي استلبمشنت» الذي تظهر له الحظوة في الانتخابات بالديمقراطيات الغربية في السنوات الأخيرة، انما يصرّ في نفس الوقت على «انتي استلبشمنت» بلا لون، لا «انتي استبلشمنت» اليمين الشعبوي، ولا «انتي استبلشمنت» اليسار الشعبوي، بل شعبوية طريفة، «شعبوية نخبوية بالشوكة والسكين»، «شعبوية على موندانيتيه». وفوق كل هذا، وهم «المراكمة» من أجل تحقيق «اختراق» في النادي الحاكم، هو وهم ورثه هؤلاء من اليسار التاريخي اللبناني وخيباته. في القرن العشرين، كان «الحزب الشيوعي اللبناني» أحد أهم الأحزاب الشيوعية الجماهيرية في العالم العربي، وأحد أهم الأحزاب في لبنان، ومع هذا فقد أكله وهم اختراق نادي «الطغمة المالية» بمقعد نيابي أكثر من أي شيء آخر، وضمر هذا الحزب من دون أن يفلح في تحقيق مراده هذا، وكان يرى في الوقت نفسه منتمين سابقين له ينجحون بكل يسر في تحصيل مقعد نيابي، عندما «تصاقب»، بالنسبة الى القوى الأوليغا-شعبية التي تدعمهم، والمنخرطين فيها. طيلة القرن الماضي، علق هذا الحزب بوهم «الاختراق» بالشكل التالي: بما ان السلطات تفعل المستحيل من أجل منع تمثيل الشيوعيين في البرلمان، إذا مجرد نجاحهم في الوصول اليه سيكون «تحولاً ثورياً» بحد ذاته. كان هذا أوّل الوهم. وكان وهماً نبيلاً مقارنة بأوهام «المجتمع المدني» اليوم.

الضمور الديمقراطي عشية الانتخابات

وسام سعادة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية