في العشرين سنة الأخيرة لم يعد ممكنا التمييز بين دولة عربية وأخرى في الإبداع القصي والروائي. أصبح من يتابع – ومن لا يتابع – يُفاجأ أن الإبداع صار نهرا دفَّاقا في كل البلاد العربية، ما هو مستقر منها وما جرفته رياح الحروب، وصار العديد من كتابه في المنافي، فضلا عمن آثروا البقاء في بلادهم رغم الموت المحاصر للجميع.
الكويت كانت إحدى الدول التي لا نعرف منها في الرواية والقصة غير الكاتب إسماعيل فهد إسماعيل والكاتبة ليلى العثمان والكاتبة فوزية شويش السالم، ومؤكد هناك غيرهم لكن هؤلاء كانوا دائما محل احتفاء النقد والنقاد في العالم العربي. ومثل غيري عرفتهم في وقت مبكر وقرأتهم ومازلت، لكنني على عكس غيري ربما تمضي السنون لأكتشف مرورها وأعد ذلك من حسنات الله ونعمه. من منا بقادر أن ينتبه لما يجري في عالمنا العربي كل يوم؟ وضعتني الظروف الطيبة إثر أكثر من زيارة للخليج والكويت أن أعود ببعض الأعمال، كان للكويت فيها النصيب الأكبر. طبعا احتل كتاب شباب مثل سعود السنعوسي واجهة المشهد العربي، وكذلك أسماء مثل طالب الرفاعي وناصر الظفيري وغيرهما، لكن ليس تحيزا للنساء بقدر ما هو صدفة أن تجتمع لديّ أعمال كثيرة لهن فقرأت للكاتبة سعداء الدعاس «ما لا تعرفه عن الأميرات» لأجد أمامي كاتبة تتمسك باللغة المناسبة لكل حدث ولكل حديث ولكل حالة أو شعور، وخبرتها في التنقل بين البلاد ترى فيها إنها ابنتها جميعا، وتبني قصصها القصيرة بشكل يثير شهية القارئ وتوقعاته، كما تمزج بخبرتها وعملها بين فنون المسرح والسيناريو بما لا يخل ببناء القصة.
الأمر لا يختلف عند منى الشمري وقصصها «رأسان تحت مظلة واحدة» فرغم البناء الذي يبدو تقليديا للقصة، إلا أن تنوع اللغة بين الشخصيات ومشاعرها يجعلها تتسرب إلى القلب بدون خطابة، ودائما يخايلك توحدها مع ما تكتبه فتحتويك داخل النص، ولا تسرف أبدا في القص. وتكتشف مع القراءة أنك لست أمام بناء تقليدي، بل بناء هامس رغم إنه يمتد بك. ومني الشمري تحقق نجاحا في قصصها وفي الكتابة للتلفزيون أيضا الآن، كما فازت بجائزة الدولة التشجيعية في القصة القصيرة في الكويت هذا العام.
وتجد بين الكاتبات الكويتيات أكثر من كاتبة تهتم بالقصص القصيرة جدا منهن شمسة العنزي في مجموعتها «أفواه وأمنيات» وهذه القصص التي تسمى الومضة أحيانا، كثيرا ما تقع بالكاتب في دائرة الخواطر أو الحكم أو الأمثال أو الأخبار السريعة، لكن شمسة العنزي لا تقع في أي من هذا وتظل المفارقة عاملا مثيرا ومقنعا للقارئ ومحركا لمشاعره. كذلك تفعل الكاتبة مريم زياب في مجموعتها «كوشكا» وهي أيضا قصص قصيرة جدا سريعة الإيقاع، بحيث يبدو الإيجاز طبيعيا وتضع نهايات للقصص تثير الخيال، إذ تبدو مستقلة عن القص فكانها تعيدك لتقرأ وتفسَّر من جديد في لعبة فنية جميلة.
أقف أخيرا عند بثينة العيسي فهي لا تبتعد عن هذا الدفق النسائي للكتابة، وليست بالطبع من جيل القدامى، وهي ربما كانت الأكثر إنتاجا بين الجدد. سبع روايات منها «سعار» و«عروس المطر» و«خرائط التيه»، واختارت من البداية البناء الذي يتداعى عليه الكثيرون الآن، أعني الرواية لكنها تعرف إنه البناء الموازي لهذا العالم القاتل، ومن ثم تدرك سر جماله في التكوين. لقد حصلت على جائزة الدولة التشجيعية عام 2006 وروايتها «كل الأشياء» هي الأحدث في مشوارها. بالطبع أنا لم أقرأ كل إنتاج من ذكرتهن، أو حتى في ما يخص الكتاب في العالم العربي ومصر، فغالبا يقف الأمر بي عند عمل أو اثنين، ولا تكون عدم متابعتي إلا لأنني لست ناقدا، كما إني مصاب بنسيان جميل يجعلني أتذكر إني أكتب في قصة أو رواية. وقفت كثيرا عند رواية كل الأشياء أحدث روايات بثينة العيسى، التي نرى فيها حيرة أو مجابهة الفرد لكل السلطات التي تحدد حياته من الروح ـ الآداب ـ إلى السياسة ـ الدولة وحتى النظام العالمي. هل الإنسان الفرد قادر على مجابهة هذه القيود؟ أم إنه تم نفيه في عجلة هذه المنظومة؟ الأقرب إنه تم نفيه، فبثينة العيسى لا تجنح إلى الحديث السياسي المباشر، لكن إلى الحدث.
والنفي هنا بمعناه الفلسفي، ليس نفي المكان رغم أن البطل دفع للهجرة، لكن أن تصبح الأشياء هي الآلة التي تدور به مجسدة في ضياع أحلامه في الأب والحبيبة والوطن، الذي قد تلخصه الحبيبة أيضا. رحلة بطل الرواية «جاسم العظيمي» العائد إلى الكويت بعد غياب سنوات لحضور وفاة والده، وتداعي الذكريات لماض فيه هزائم للنفس وعالم محير ومستقبل غامض وأجيال تتداخل بين شعارات تسقط وشعارت تقوم. الرواية إذن رحلة بحث عن الذات أكثر منها أي شيء آخر. فالقدامى لا يعترفون بالشباب وثوراتهم والشباب على النسق نفسه يرونهم سبب ضياعهم. حتى حبيبته «دانة» التي لم يستطع من قبل الارتباط بها، تشبه كما قلت من قبل علاقته بالوطن التي لا يصل الحب فيها إلى غايته لتداعي التقاليد والسلطات على روح الفرد. ويمتد الأمر بدون أن تشير الكاتبة إلى الفرد عموما في عالمنا العربي والعالم بلا شك، فهنا ملمح خفي وهو أزمة الوجود. غير هذا المعني الذي أظن إنه لم يغب عن الكاتبة المثقفة تكون الرواية رسالة سوداء، لكن لغة الرواية الشعرية وعباراتها الموجزة وقدرة الكاتبة على التصوير العميق للمعاني والمشاعر يرفع الرواية من المباشرة إلى أفق فلسفي، وإن كان يحتاج من القارئ بعض التريث والتفكير أو الناقد من فضلك. هذه مشاعري أثناء القراءة وربما لأنني كاتب تصل العبارات إلى مشاعري أكثر مما تصل إلى فهمي. حتى حين صار السجن للبطل أحد أسباب كفره بما حوله وتخليه عن حبيبته، فالسجن لا يقل عن حالة حبس الروح خارجه. هو سبب مباشر حقا للهجرة والرحيل، لكنه سبب رمزي. فالهجرة والرحيل هي بحث عن عالم أفضل يتحقق فيه الفرد بلا نقصان وبلا نفي، لكن حتى هذا لا يجده خارج البلاد، فالإنسان صار صغيرا جدا في آلة العصر الجهنمي التي تنفي الأرواح.
عنوان الرواية «كل الأشياء» لكن متى يستطيع الكاتب أن يحيط بكل الأشياء. إن ما ذكرته بثينة من أشياء يكفي ويزيد دليلا على حالة نفي الروح، وليست مطالبة أن تكتب عما يريده الناقد أو القارئ من أشياء، فالعنوان وهو عتبة النص هو هنا نهايته وخلاصته أيضا. هل كانت الرواية تستحق مقالا مستقلا؟ تستحق وأكثر لكنني هنا أفعل ما قاله لي يوما علي الراعي إنني حين أكتب أزجي التحية لمن أسعدوني بأعمالهم يا إبراهيم. وأنا أردد ليس أكثر وإن كنت أدعو النقاد للاحتفاء بأعمالها.
٭ روائي مصري
إبراهيم عبد المجيد