قد لا تكون أم جندب هي أول ضحية للنقد في تاريخنا، إلا بقدر تعلق هذا النقد بالشعر، وبالتأكيد ثمة نساء سبقنها ودفعن ثمن ما تجاسرن عليه من آراء، ولم يقبلن بدور الببغاء في ترديد الصدى، وأم جندب زوجة امرئ القيس، التي طلب منها أن تقارن بين قصيدة لزوجها في وصف فرس وقصيدة لعلقمة الفحل، وانتهى بها الأمر إلى تفضيل قصيدة علقمة، ما دفع الزوج على الفور إلى القول أنت طالق يا أم جندب، والطلاق سواء كانت بينونته صغرى أو كبرى ليس حكرا على الأزواج، فالاحزاب تمارسه أيضا وكذلك النظم السياسية والقبائل، كما أن الخيانة في ذهنية كهذه ليست زوجية فقط، وقد تكون لتعاليم القبيلة، أو لشعارات الحزب أو لاستبداد الدولة، وحين تكون ثقافة ما منزوعة الدسم النقدي، فهي بالضرورة عرضة لفقدان المناعة، والأنيميا بالنسبة إليها محتمة.
والنقد في مجمل مجالاته وتعريفاته هو أهم منجز عقلي لأي حضارة، لأنه يحررها من أوهام اليقين وادعاء المعصومية، كما أنه يتيح لها أن تتعافى مما علق بها من ورم نرجسي، وانغلاق هوية.
ولأن الشخصنة في ثقافتنا سطت على المفاهيم المجردة، فإن نقد نص أو أي نتاج معرفي يختلط على الفور مع نقد مصدره، وكان من ينقد قصيدة ينقد الشاعر بالجملة، ما أدى إلى تفاقم ظاهرة الاحتراز والتجنب وإيثار السلامة، ففي أيامنا وليس في سوق عكاظ شاهدت ثلاث حالات فشلت فيها كل الجهود لفك الاشتباك بين الشخصنة المفرطة والمفهوم الضيق، واشتكى شاعران وروائي على نقاد كانت لهم آراء سلبية حول نصوصهم وبلغت الشكوى القضاء ثم انتهت بصلح عشائري. فالنقد مصطلح ملتبس في لغتنا بسبب جذره الاشتقاقي، فهو ليس ما يمارسه الدجاج في التقاط الحبوب، والمفاضلة بينها وأحيانا يصبح النقد نقضا، ويضيع الفارق بين الكلمات واللكمات، كما نشاهد عبر الشاشات، التي كان لها الفضل في افتضاح ما بلغناه من أنيميا نقدية، ومن خلط بين الحوار والخوار، أي بين تداول وجهات النظر وأصوات الثيران الهائجة، تماما كما هو الفرق بين العار بكل دلالاته المهينة والسلبية وبين الغار بكل ما يعنيه من انتصار وتفوق، ولو اتيح للنقد باعتباره إفرازا حضاريا بامتياز أن ينمو ويتمدد عبر مجالات حيوية في التطبيق، لربما كان المشهد برمته مُختلفا، لكنه حوصر وتمت مصادرته وإجهاض بواكيره لأسباب سياسية واجتماعية.
ففي السياسة غالبا ما يكون النقد بأثر رجعي للموتى، وبعد فوات الأوان، ففي حياة الزعيم يكون التنافس على المديح، ولحظة رحيله يتحول التنافس إلى الرثاء، وبعد أن يجف الماء عن القبر يأتي النقد لكن بأدوات الهجاء ومعجمه الجاهلي.
وكما يحدث عادة وعلى طريقة الحاجة أم الاختراع يلجأ البعض إلى عقد مقأيضات نقدية تتلخص في أربع كلمات فقط هي، أكتب عني أكتب عنك، والوجه المضاد لهذه المعادلة هو الثأرية أي انتظار المنقود لفرصة يصفي من خلالها الحساب مع ناقده إذا أصدر كتابا.
والنقد بمعناه الدقيق يشترط مناخات سليمة وحدا أدنى من حق الاختلاف والاعتراف بالآخر، ولا يمكن للنقد أن يمارس دوره ومفاعيله في مناخات محتقنة بالترصد وثقـــــافة تفترسها تقالــــيد الاحتكار والإقصاء، وهناك حيلة يلوذ بها النقــد، خصوصا في مجاله الأكاديمي، هي الإفراط والتوغل في كل ما هو نظري والابتعاد عن التطبيق، لأن ما هو نظري ومجرد لا يطال أحدا، ولا يجازف بالتورط مع نص، ويبقى هائما خــــارج مدار الجــــاذبية ويبدو كما لو أنه صالح لكل زمان ومكان، لكنه في العمــــق فاقد للصلاحية كلها، لأنه يقـــول كل شيء كي لا يقول شيئا محددا. وإذا كنت أستــعير مصطلح الأنيميا من عالم الطب فذلك لأن هناك قواسم مشــــتركة بــــين ما يصاب به الجسد وما يصاب به العقل، وفي الحالتين يؤدي ضعف المناعة إلى الأنيمــيا وفقدان الحيوية أو ما عبّر عنه الشاعر أنسي الحاج بقوله «سرطنة العافية».
والمجتمعات التي لا تفرق عمليا بين الديمقراطية والمعجنات لأنها تحتكم إلى مرجعيات شبه أبدية منها، القبيلة وأعرافها والسلطة ذات النفوذ المطلق الذي لا يمكن للنقد فيها أن ينمو، ويفرز منظومة من القيم التي من شأنها أن تحول الخلاف إلى اختلاف، والطائفة إلى طيف، وشبه الدولة إلى دولة بأقانيمها التاريخية المعروفة. وهناك علاقة جدلية بين نمطين من التداول السلمي، هما تداول السلطة ديمقراطيا، وتداول وجهات النظر فكريا، والمجتمعات التي تعاني من فائض الاحتكار والإقصاء والنبذ المتبادل سيبقى النقد في مفهومها تطاولا، وقد تراه عدوانا ينبغي صده والرد عليه، وبعد كل تلك القرون التي تفصلنا عن طلاق أم جندب لأسباب نقدية، نجد في الألفية الثالثة من يلجأون إلى المحاكم، لأن النقاد لم يسبّحوا بحمد نصوصهم ولم يمتدحوا الفحيح ويسموه حفيفا.
٭ كاتب أردني
خيري منصور
لطيف
بعد كل ما هو معروف لدى كبار كتاب القلم والفكر, وتاريخ السقوط الابدي القديم المستمر,
ما هو المستقبل المشرق الذي ينادون به سنويا؟ وما الداعي للاستشرافات المستقبليه التي لن تستخرج جديدا بل هو اسمرار لكل قبح القديم ؟
وما اهميه تلك العواصم المدعيه والمتشاركه, والشعرا والكتب والمؤلفات ! اهي فقط للحسرة, ام لجس نبض النخبة المشاركه وقوة فكرهم او علمهم ؟؟
فليبقى الامر على ماهو عليه منذ القديم , وليبحث المتضرر عن قارب فردي للنجاة ان استطاع , وليعلم المتسابقون بانهم مبرمجون لغاية وقصيره الامد ..
وليحتفظ الكبار بكرامتهم ولا يتدخلون لا بالنصح ولا النقد ولا الطلب , فسفنهم الكبيرة العملاقه لم تنتظر احدا لتبحر بالبحار والمحيطات وتجول بالكرة كلها ..
تحياتي استاذ خيري منصور: البحث في النقد في مجتمعات تسود بها من منظومة من المحرمات، أمر في غاية الصعوبة والوعورة، كون النقد يعيش ويتطور جنبا إلى جنب مع الأدب والشعر والفلسفة، والناقد يتوجب أن يكون لديه عمق بالرؤيا والتمييز بين ما يتوجب نقده وما يتوجب تركه.
لكن المعضلة من يتقبل النقد في ظل انغلاق العقل وخلق تابو اجتماعي وسياسي أكثر تشددا من التابو الديني.
فالذي يصدر الحكم في المجتمعات المتخلفة، هي القبيلة وحتى جهاز الدولة مشكل من تحالف قبلي في كثير من الدول، كون الفصيل السياسي يعمل بعقلية القبيلة.
النقد في هذه الحالة يجب أن يكون هتافا وتناغما، وليس تصويبا أو تجريحا. ويبقى المسكوت عنه مسلمات الى حين شق عصا الطاعة العمياء والتخلي عن عقلية القبيلة.
الى حين اجتراح الصواب من الضباب والتمييز بين ما هو صالح وما هو طالح تبقى انيميا النقد المسرطنة لكل ما هو ادب وشعر.
لنبدأ بالمفردة . للنقد معنيان ، فهو المال وهو التقييم في الأدب الذي بدوره له معان منها مفهوم الأخلاق والتربية وكذلك الأبداع . والنقد كعملة له تفاصيل تسمى الخردة في العراق والخردة هي نفايات المعادن كذلك . مفردة ثقافة بدورها ملتبسة فهي تعني تشذيب الرمح وتعني مجال المعرفة . العربية لغة التباس ، ايمان وكفر ، فالحرب مقلوبة تصير بحرا والسماء تصير سماء وهذا شأن مئات المفردات التي جعلت من وجودنا المادي وجودا لغويا مضطربا قبل كل شئ. مشكلتنا الكبرى في استخدام لغتنا التي بحاجة الى تفسير دائما فهي تأويل دائم وكثير من التأويل ضلالة . النص المقدس بحد ذاته التبس به العرب خصوصا ففسروه وبدأ الشقاق والنزاع وسال الدم للركاب ، ومازلنا نذبح القريب والغريب من اجل حرف عطف . بما ان العربية ليست لغة زمنية ، حالها حال اليونانية او اللاتينية وبناتها من فرنسية وايطالية وبرتغالية …الخ فأن الصفة أحيانا تحل محل الفعل الزمني ويختلط الحابل والنابل . فبين من يرمى الحبل على السور ” الحابل ” وبين من يرمي السهم او النبل ” النابل ” فأن المعارك النقدية في ادبنا داحس وغبراء تفرخ دواحسا وغبراوات .خصام ونقد كتاب شيق لطه حسين وقبله بقرون كتب الجرجاني عن المتنبي كتاب الخصومة . على ذكر أبو الطيب المتنبي ، فأن مدحه لكافور الأخشيدي ثم ذمه بأبشع الذم هو خلاصة النقد العربي الذي هو بالتعبير الفرنسي ” لا تين ولا عنب ” . على النهج ذاته كتب الناقد الأماراتي كاظم جهاد كتابه الذي ذاع صيته ” ادونيس منتحلا ” بعد عبادة وثنية للشاعر تحولت الى كفر ونبش قبور للموتى . كتاب النبش هذا ذاع صيته لأنه يعبر عن التباس للكاتب وللقارئ شبيه بمن صنع لهبل تمثالا من التمر ثم التهمه كما في لوحة الأسباني غويا . العربي ابن قبيلة قبل ان يكون ابن وطن . القبيلة تتنقل ، عادة ، او قل هي من اصل بداوة راسخة في اللاوعي الفردي بالمعنى الفرويدي والوطن ثابت . لذا فالثبات ليس من صفة العربي عموما . والثقافة في اللغات اللاتينية مثلا كمفردة هي ذاتها التي تعني زراعة والزراعة ثبات والتصاق بالأرض وما تنتجه من قيم واخلاق وسلوك واخذ بنظر الأعتبار لفكرة الفصول وتنويع المزروع من اجل ديمومة خصوبة الأرض . بأختصار النقد عند العرب مبارزة . غالب ومغلوب .انه مثل شتئمنا باللهجات المحلية صفات تتعلق بالشرف بالمعنى العربي ” الشرف الرفيع ” تضحك الآخر