ليس من الاخلاق او القيم ازدراء الآخرين، ايا كان رأيهم السياسي او معتقدهم الديني او اصلهم. فالتعددية تضفي جمالا على الحياة وثراء في الفكر والثقافة. والبلد الذي تتعدد اجناسه واديانه وثقافاته يستطيع المساهمة بسخاء في تطوير المسار الانساني. ولذلك وجدت منظمات دولية عديدة للاهتمام بتشجيع التنوع وحماية التراث الانساني. ومنظمة اليونيسكو تقوم بدور ايجابي في هذا المجال، واهتمامها بالتراث والآثار موضع تقدير كبير. كما ان استهداف ثقافات الآخرين وتراثهم سلوك غير محمود. ولذلك يمكن اعتبار مبدأ التوازن بين البشر من بين عوامل الحماية المشتركة.
وقد نص القرآن الكريم على دور التنوع في حماية حقوق الآخرين ومعتقداتهم وتراثهم «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيه اسم الله كثيرا». كما ان ازدراء الاديان ممارسة سلبية يجب مقاومتها لكي لا تدمر السلم الاجتماعي والعلاقات بين البشر. وبرغم التعرض للإسلام في الاعلام الغربي الذي تجسده ظاهرة «الإسلاموفوبيا» الا ان العلماء المسلمين لا يجيزون ازدراء الآخرين أو استهداف معتقداتهم. وبرغم فظاعة احتلال فلسطين قبل سبعين عاما، الا ان هناك تمييزا واضحا بين الجانبين السياسي والديني لقوات الاحتلال. فقد وقف العرب والمسلمون، مدعومين بالقوى التحررية في العالم، ضد الاحتلال، ولكنهم لم يستهدفوا الديانة اليهودية، حتى لو استعملها المحتلون لتبرير ما يفعلونه. وعلى العكس من ذلك فان مقدسات الدين اليهودي محترمة لدى المسلمين، والنبي موسى عليه السلام يعتبر من الانبياء الخمسة الذين يطلق القرآن الكريم تسمية «أولو العزم» وهم نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد. ومن الخطأ الكبير الخلط بين الموقفين السياسي والديني. بمعنى انه في الوقت الذي يرفض العرب والمسلمون فيه السياسات الاسرائيلية في مجالات الاحتلال والتوسع وحقوق الانسان، فانهم لا يتعرضون للديانة اليهودية بشيء، ولا مجال لاستهداف الجنس اليهودي بما هو قومية او نوع بشري. ولا يجوز علماء المسلمين استهداف اتباع الاديان الاخرى بالاذى او القتل. فالقتل على الهوية جرم كبير. بالاضافة لذلك يعتبر العرب من الجنس السامي، فهم ينتمون كاليهود إلى سام بن عاد. ومعاداة السامية تعني ايضا معاداة للعرب كما هي معاداة لليهود. ولكن الواضح ان استهداف العرب لا يصنف ضمن «معاداة السامية» التي تعتبر في الغرب جريمة، ويندر ان يتعرض من يمارسها للحساب او العقاب.
هذه الحقيقة يجب ان لا تلغي الحق في النقاش السياسي حول سياسات الاحتلال الاسرائيلية في ارض فلسطين. ولا بد من التمييز بين معاداة السامية ورفض السياسات الاسرائيلية. ويرى البعض ان ما يجري من سجالات لا تنتهي في الاعلام البريطاني انما هو محاولة للتأثير على السياسات الغربية ازاء «اسرائيل»، ولا يرتبط حقا بمعاداة السامية. فمن الضرورة اعتبار التعدي على كنيس يهودي او ازدراء الديانة اليهودية او استهداف حاخام يهودي بالاذى بسب زيه مثلا او اطروحاته الدينية جريمة، ولكن ليس مقبولا ان يعتبر شجب السياسات الاسرائيلية او الدعوة لمقاطعة المنتجات الاسرائيلية او استمرار احتلال الاراضي الفلسطينة جريمة. والواضح ان هذا هو الهدف من وراء اثارة قضية «معاداة السامية» وتوسيعها لتشمل السياسيين والنشطاء المعروفين بدعمهم للقضية الفلسطينية. ولا يمكن فصل استهداف رئيس حزب العمال الحالي، جيريمي كوربين، ومناصريه عن مواقفهم الماضية والحاضرة ازاء تلك القضية. كما ان الاستهداف المتكرر للسياسيين المخضرمين مثل كين ليفينغستون ينضوي ضمن محاولات منع شجب السياسات الاسرائيلية. وكثيرا ما تم التطرق لتنامي ظاهرة «معادة السامية» في اوروبا. وقد يكون ذلك صحيحا في بعض الجوانب، ولكنها تنطلق في الاعم الاغلب من محاولات السعي للتأثير على المواقف السياسية ووقف الشجب المتواصل للسياسات الاسرائيلية التي تزداد تطرفا خصوصا مع حالة الخنوع المتنامية من بعض الانظمة العربية التي تهرع للتطبيع مع قوات الاحتلال.
ويوما بعد آخر تضيق اطر النقاش في هذا المجال لأن الصهيونية استطاعت التأثير على التغلغل في الاوساط السياسية والاعلامية الغربية، فاصبح اصحابها يحاولون المساواة بين رفض الصهيونية ومعاداة السامية. وهذا يؤكد تصاعد نشاط المجموعات الصهيونية وقدرتها على التأثير والنفوذ في الاوساط العالمية. ولا بد من العودة قليلا إلى الوراء. ففي العام 1975 أقرت الأمم المتحدة القانون رقم 3379 الذي يقول ان «الصهيونية أحد اشكال العنصرية والتمييز العنصري».
وكان ذلك تعبيرا عن الحجم الواسع للدول والمنظمات الدولية الداعمة للقضية الفلسطينية والرافضة للاحتلال الاسرائيلي خصوصا في ربع القرن الذي اعقب تأسيس الكيان الاسرائيلي في 1948. ولكن بعد حرب 1973 الذي نجم عنه خروج مصر من دائرة الصراع مع «اسرائيل» وادى لاحقا إلى اتفاقية كامب ديفيد، برزت ظاهرتان: تراجع الموقف العربي بشكل تدريجي بغياب مصر عن ساحة الصراع، وتعمق التحالف بين أمريكا و «اسرائيل» وانعكاس ذلك على اجواء الأمم المتحدة. كما ان خطاب الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في الجلسة العمومية للامم المتحدة في 1974 الذي رفع فيه غصن الزيتون، كان له دوره في تداعي الموقف الدولي الداعم لقضيته. وفي موازاة ذلك تصاعد النشاط الدبلوماسي الاسرائيلي خصوصا في العالم الثالث وادى إلى مد الجسور مع دول كانت في فلك منظمة عدم الانحياز. واستطاع اللوبي الغربي في 1991 الغاء ذلك القانون من قبل الجمعية العمومية للامم المتحدة، وذلك بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وشعور الغرب بالهيمنة على شؤون العالم، وتراجع القوى التقدمية على نطاق واسع. ولم يتوقف التداعي عند ذلك الحد بل تواصل في العقود اللاحقة حتى بلغ الامر ان تتبنى دول عربية عديدة مواقف غير ودية مع الفلسطينيين واكثر تقاربا مع «اسرائيل». وهذه الظاهرة في تصاعد لتصل إلى ما لم يكن في الحسبان سابقا، فتفتح دول عربية اجواءها لتحليق الطائرات المتوجهة إلى تل أبيب. هذا التداعي هو الذي شجع العالم على استصغار شأن العالم العربي، وساهم في منع اي اجراء ضد اي عدوان اسرائيلي على الدول العربية. فبرغم تقرير الأمم المتحدة الذي ادان «اسرائيل» بمجزرة قانا في 1996 الا ان الولايات المتحدة اجهضت بالفيتو مشروع قانون أعده مجلس الامن يدينها بشكل واضح. وكانت القوات الاسرائيلية قد قتلت اكثر من مائة من النساء والاطفال الذين لجأوا إلى مقر قوات الأمم المتحدة بقرية قانا القريبة من مدينة صور في مجزرة مروعة هزت مشاعر اصحاب الضمائر.
وثمة من يقول ان اثارة مسألة معاداة السامية محاولة جديدة لردع من يستهدف السياسات الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، واقامة «قبة صاروخية» تحمي سمعة الكيان الاسرائيلي وتسقط من يسعى لاختراقها، كما يحدث مع رواية «المحرقة» التي حدثت لليهود في الحرب العالمية الثانية. ومن المؤكد ان المحرقة حدثت، وهي جريمة انسانية لا يمكن التقليل منها. وبدلا من انكارها كان بامكان المفكرين والسياسيين العرب والمسلمين اثارتها على اعلى المستويات لاسباب عديدة: اولها انها جريمة ضد الإنسانية، اذ لا يجوز قتل البشر بسبب عرقهم او انتمائهم ايا كان، ثانيها انها جريمة ارتكبها الغربيون بحق اليهود وليس للعرب او المسلمين دور فيها، وبالتالي فهي لا تدينهم ابدا. ثالثا: ان الغربيين ارتكبوها ثم سعوا للتكفير عنها بمنح الضحايا وطنا في فلسطين. بينما كان المطلوب منهم اعادة تأهيل ضحايا النازية وتعويضهم مما يملكه الغربيون انفسهم.
٭ كاتب بحريني
د. سعيد الشهابي
الشعوب العربية هي المدافع الوحيد عن فلسطين ولكن لا حيلة لهم. فالحكام يقهرونهم ويقمعونهم ويسلحون عدوهم بطرق غير مباشرة. لذا لا نستغرب مرور اكثر من نصف قرن دون حل للقضية الفلسطينية.