كانت هذه «قمّة من الرومانسية» بين الزعيمين الكوريين، كيم جونغ أون ومون جاي إن. بدءاً من تبادل الخطوات لكل منهما في تراب «الآخر» الذي ليس بآخر. أما الجانب الرمزي فتكثف في مأدبة العشاء، ومن أصناف الأطباق إلى أصغر تفصيل على مائدة «قرية الهدنة» في المنطقة المنزوعة السلاح، من الجانب الجنوبي لخط الفصل.
طبق حساء النودلز الباردة باللحم والخضار والبيض الذي اختاره الجانب الشمالي على مائدة القمة، تحوّل إلى قبلة في الأيام الماضية للجنوبيين الذين أخذوا يتسابقون لطلبه وتصويره أطباقهم على «الانستغرام». أما وجبة البطاطا السويسرية «الروستي» التي أوعز كيم جونغ اون أيضاً بتقديمها على المائدة، لأنه أحبها في سني دراسته قرب بيرن، فبدت كجرعة تذكير بأنّ الرجل «عارف» بالغرب.
جرى التقصّد، من الجانب الجنوبي في المقابل، بأن تتحدّر بعض الأطباق من مسقطي رأس الرئيسين السابقين كيم داي جونغ وروه مو هيون اللذين انتهجا «سياسة الشمس المشرقة» الإنفراجية مع الشمال، وزارا بيونغ يانغ، قبل أن يطاح بهذه السياسة، لصالح نهج متشدّد على منوال «المحافظين الجدد» في أمريكا، في عهد الرئيس لي ميونغ باك (المعتقل على ذمة التحقيق حالياً، والملاحق بسلسلة قضايا فساد). يتحدّر كلاهما، بالمناسبة، من إقليمين جنوبيين تعصى ذاكرة كل منهما على الصورة النمطية الرائجة اليوم حول طبيعة القسمة بين الكوريتين، بين واحدة «توتاليتاريّة» شمال خط العرض 38، وثانية «ديمقراطية» جنوبه. تشبه هذه القسمة الوضع حالياً نعم، لكنها لم تكن أبداً القسمة التي كانت عليها الحال وقت نشوب الحرب الكورية ولغاية نهاية الثمانينيات.
فكيم داي جونغ من مقاطعة «جولا نامو» التي انطلقت منها انتفاضة خريف 1946 بوجه الأمريكيين وأعوان الإحتلال الياباني السابقين الذين ورثوهم. لم تكن جمهورية «اللجان الشعبية» هذه المنتفضة بالجنوب «إمتداداً» للنظام «الشيوعي» المتشكّل آنذاك في الشمال، لكن الأمريكيين رغبوا في اختزالها على هذا النحو، وقمعوها بشكل دموي لم يصل إليه كل ما ارتكب في تاريخ الشطر الشمالي منذ قيام سلطان «آل كيم» عليه من أعمال تنكيل وتصفيات. في جزيرة شيجو الجنوبية وحدها، التي استمرت من خريف 1946 حتى مطلع العام 1948، قضي على ثمانين ألف شخص، أي ثلث السكان في ذلك الوقت، ونقل أربعون ألفاً من شعبها إلى منطقة أوساكا في اليابان، وبقوا هناك. كيم داي جونغ نفسه تطوّع في «اللجان الشعبية» في شبابه، ولأجل هذا ظلّ النظام الديكتاتوري العسكري الذي استمر في سيئول حتى نهاية الثمانينيات يتّهمه بالشيوعية والعمالة للشمال. مقاطعة «جولا نامدو» عادت وانتفضت مرارا، خصوصاً مطلع الثمانينيات بوجه النظام العسكري، في انتفاضة 18 أيار/مايو 1980 بغوانغجو، وقمع حراكها يومها بكلفة ستمئة قتيل.
وإذا كان مسقط رأس كيم داي جونغ يختزن ذاكرة أليمة وملتهبة بهذا الحجم، سابقة على الحرب الكورية كواحدة من أسبابها «المستغفلة» اليوم، ومستمرة حتى الثمانينيات مع «انتفاضة غوانغجو»، فقد تعمّدت ذاكرة المنطقة التي ينتمي إليها روه مو هيون بدماء مجزرة غيوتشانغ، الذي شمل بها الجيش الجنوبي المعاون للأمريكيين 400 طفل قتلوا بدم بارد ابان الحرب الكورية.
بعيداً عن الصورة النمطية للقسمة بين شمال «توتاليتاري» وجنوب «ديمقراطي»، ثمّة نضال حقيقي مثابر في كوريا الجنوبية من أجل التصالح مع الذاكرة. في هذا النضال، الخط الديمقراطي هو الخط العاكف بمنهجية على التقارب مع الشمال.
في الوقت عينه، انقلبت الحال بين الشمال والجنوب. حتى السبعينيات، كان الشمال سباقاً بمعايير النمو الإقتصادي والعدالة الاجتماعية والتصنيع، لكن أيضاً من حيث القاعدة الشعبية الداعمة لنظامه، في حين كانت تتقلّص من عقد إلى آخر التعددية الداخلية ضمن «حزب العمال الكوري» الحاكم في بيونغ يانغ، وصولاً إلى تصفيتها بالكامل مطلع السبعينيات. أما الجنوب، فسار في إتجاه مختلف. ديكتاتورية عسكرية، بشكل نافر منذ انقلاب الجنرال بارك عام 1961. تطبيق مواز للنموذج الياباني الإمبراطوري في التحديث القسري، إذ لم تكن أدوات تحديث كوريا الجنوبية وتصنيعها «ليبرالية» بقدر ما كانت اصلاحاً زراعياً «يؤمم» ما كان للملاك العقاريين اليابانيين المستوطنين في كوريا بالدرجة الأولى، وتأميماً للمصارف عام 1961. كذلك ظلّ البنك الدولي والأمريكيون يمانعون لعقود أمام مساعي الشطر الجنوبي للإنتقال من صناعات الألبسة والأحذية إلى صناعة التلفزيونات والسيارات والسفن، الذي فرضه أساساً التحدّي الشمالي، المتقدّم في التصنيع الثقيل وعلى المستوى التكنولوجي حتى مطلع السبعينيات. التحدّي الصناعيّ الشماليّ من جهة، والإنتاج الزراعي الأوسع بكثير جنوباً منه شمالاً من جهة ثانية (حيث تكثر السهول الساحلية الخصبة جنوباً في مقابل الشمال الجردي والوعر)، و«النموذج الياباني» في التحديث السلطوي من جهة ثالثة: كانت هذه دعائم «الوثبة» الإقتصادية الجنوبية، التي تبعها الانتقال المتأخر نحو الديمقراطية، نهاية الثمانينيات. في هذه الديمقراطية، الأكثر ليبرالية ينادي بالتقرّب مع الشمال «غير الديمقراطي»، والأكثر محافظة، و«امتداداً» لفترة الديكتاتورية، ينادي بالتصلّب حيال الشمال. المشترك بين الشمال والجنوب في كل هذا هو «رأسمالية الدولة»، بنمطين مختلفين من حضورها، وبمراحل اجتازها كل نمط من لحظة الهدنة عام 1953 حتى اليوم.
أما كوريا الشمالية، فهي كما يقول باسكال دايز بورجون في كتابه عنها «السلالة الحمراء»، وجدت دوماً، حتى عندما كانت شبه الجزيرة تشكّل كياناً سياسياً واحداً على امتداد القرون. هي القسمة بين جنوب السهول الساحلية والتلال الخصبة والموانىء التي تثير أطماع الغزاة، وبين الشمال الجبلي الوعر المحارب.
يتعامل الشماليون مع بعضهم البعض، منذ قرون، كما لو كانوا أكثر كورية من الجنوبيين. ثمّة إنقسام ديني مركّب أيضاً. في الجنوب، نصف السكان يصنّفون كملحدين، والنصف الآخر ينقسم بين المسيحية، مع غلبة كاثوليكية، وبين البوذية. أما الشمال، فالبوذية اختلطت فيه بالشامانية بشكل أعمق تاريخياً، في حين نجح البروتستانت وليس الكاثوليك كما في الجنوب في التغلغل. فوالد كيم ايل سونغ مثلا، باني النظام الحالي في الشمال، كان مسيحياً، وأمه ابنة قسيس، وبيونغ يانغ كانت تدعى لأجل هذا «أورشليم الشرق الأقصى»، وما أقامه آل كيم من نظام اتخذ لبوساً «شيوعياً» في البداية، تطوّر بسرعة كنظام متمحور حول «المقدّسات» وروابط التقديس. الزعيم يعبد شعبه «النقي مثل قمم جبال بايكتو المغطاة بالثلوج»، والشعب يعبد زعيمه «نجم الصباح الصافي». العائلة نواة المجتمع الكوري الإشتراكي الصالح، والعائلة المقدسة، المتحدرة من كيم ايل سونغ هي نموذج اتباعي لكل عائلة في كوريا. ما يجهله كثيرون اليوم، أن الشمال لا يتحرّج من الوراثة السلطوية، بل ينظّر لها «جينيّاً»: كيم جونغ أون هو الإستمرارية بـ«الشيفرة الوراثية» لوالده وجدّه، مثلما أن جدّه هو «رجعة» تانغون، سلف جميع الكوريين، الذي ترك مملكة السماء ليقيم على سفح جبل بايكتو، هذا الجبل نفسه الذي جعل مسقط رأس للزعيم الحالي، كيم جونغ أون، على بطاقة هويته، أما التقويم فيبدأ بتاريخ ولادة مؤسس السلالة الحالية، كيم ايل سونغ، مثلما حلّت فلسفة «جوتشي» محل «الماركسية اللينينية» في الدستور والخطاب الرسمي، ومن مفارقات الوضع أن الحزب الشيوعي لا يزال محظوراً في الجنوب، فيما كتب ماركس بات أكثرها محظوراً في الشمال المتمسك بمطرقته والمنجل! و«جوتشي» نفسها التي فهم بها الوحدة الجوهرية للإنسان المقرّر لكل شيء، بين الزعيم والحزب والطبقة العاملة والشعب، اقترنت مع الزعيم الثاني كيم جونغ ايل، بعقيدة سونغون أي «الجيش أولاً».
بالتزامن مع مغادرة كوريا الجنوبية للديكتاتورية العسكرية، كانت كوريا الشمالية تتبنى «عقيدة سونغون» التي تجعل الجيش وليس الحزب رافعة للنظام. في مقابل التجربة الصينية التي تعزّز فيها دور الحزب وليس العكس، في العقود الأخيرة الموسومة باللبرلة الاقتصادية، فقد تعزّز دور الجيش لا الحزب في كوريا الشمالية. وفي وقت يتعامل أغلب الكوكب مع نظام الأخيرة على أنه دمية بيد الصين، تكاد معظم التصفيات التي يقوم بها النظام تستهدف شخصيات تعتبر «ميّالة» أكثر من اللازم لبكين. الإحتراز من الأخ الأكبر أساسي لفهم سلوكيات كوريا الشمالية، وهذا أكثر ما يغيب عن عموم المتابعين. مثلما أنّ التقارب الكوري الجنوبي ـ الصيني معطى أساسي أيضاً.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة